ظلال مفقودة

د. سعد الكبيسي

النص العقدي والفقهي جسم ظله المعاني التربوية التي تتضمنه، فالنص العقدي والفقهي لا يريد إنشاء تصور معرفي فقط، بل إنشاء أثر سلوكي وتربوي في نفس المتلقي، وهذه ببساطة طريقة القرآن والسنة في عرض العقائد والأحكام.

لقد كان مفهوما على المستوى العلمي والتعليمي والمنهجي أن تفرد العقائد في علم خاص وكتب خاصة، وتفرد الأحكام الفقهية في علم خاص وكتب خاصة، من خلال التركيز على المعنى العقدي أو الفقهي من الناحية المعرفية فقط دون الناحية التربوية، فتذكر كتب العقيدة مثلا أسماء الله الحسنى وصفاته العليا في بعدها المعرفي، وهل هذا الاسم او الصفة ثابتان او لا، دون بيان آثارها ومقاصدها ومعانيها التربوية الا قليلا، وتذكر الكتب الفقهية مثلا الأحكام مجردة ومفصلة، فمثلا تذكر الزكاة وتفاصيلها وأحكامها ولا تتعرض لآثارها التربوية الا قليلا.

وعلينا هنا أن ننتبه أنه لا لوم في ذلك على علماء العقيدة والفقه، لأن الآثار التربوية للأحكام العقدية والفقهية كانت تورد في علوم وكتب أخرى، في التفاسير وشروح الحديث وكتب التزكية والسلوك فتكتمل الصورة.

لكن يكمن الإشكال الآن على مستوى التدريس المشيخي أو الجامعي في الاقتصار على تعلم وتعليم تفاصيل أجسام النصوص العقدية والفقهية دون ظلالها التربوية، فيحدث ذلك نوع قسوة وجفاف ويبوسة عند المعلم والمتعلم، فيكون جسما بلا روح، وشاخصا بلا ظل، ومعرفة بلا أثر وسلوك. 

طريقة القرآن والسنة في بيان الأحكام هو المزج بين المعاني العقدية والفقهية وبين المعاني التربوية، ففي قوله تعالى "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ"، التوحيد هنا وإفراد للعبادة لله وحكمة الخلق واسم الله الرزاق ليس قضية عقدية معرفية فقط، بل هو تفاعل مع التوحيد والعبودية ومعنى الرزق في الاسم وانغماس في معانيه بأن الله وحده الذي يرزق، فلا يخشى قطع رزقه من أحد.

وفي قوله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ "، نجد الصلاة عبادة تمتزج فيها الشرائط والأركان المنضبطة والمحددة، مع وجوب إقامتها الدائم والمحافظة عليها والخشوع فيها ونهيها عن الفحشاء والمنكر والفزع اليها عند الشدائد ومحطة راحة المؤمن، بل نستطيع القول إنه ما من حكم عقدي أو فقهي ورد في القرآن إلا واقترن بمعنى تربوي في داخل النص أو في سياقه في الآيات . 

إن كثيرا مما نشاهده من الاختلال العقدي أو عدم الالتزام الفقهي عند الناس مع وجود الادراك المعرفي هو فقدان التفاعل التربوي، فمن لا يدرك حلاوة الرضا بالقدر تربويا تخلى وتشكك به معرفيا، ومن لم يذق حلاوة الإنفاق تربويا لم يكن لمعرفته بأهميته وأحكامه أثر عنده.

إن فقدان الأثر التربوي ليس مشكلة منهجية علمية او تعليمية فقط، بل مشكلة فكرية وأخلاقية وميدانية ينبغي استدراكها.

وأخيرا هي دعوة للعلماء أولا وللمتعلمين ثانيا إلى التكامل بين الإطار المعرفي والإطار السلوكي في تعلم وتعليم العقيدة والفقه، فالعقيدة والفقه ليست أحكاما تستقر في الذهن والعقل فقط، بل هي أحكام تستهدف بناء العقل والقلب والروح والسلوك معا، وعند ذاك فان المسلم حين يمتثل لهذه الأحكام فانه لا يمتثل لها لمجرد الطاعة، بل لأنها جزء من كيانه وعقله وقلبه وسلوكه، ويعود عليه هذا الامتثال والطاعة بالسعادة والشعور بالعائد الروحي والإيماني مع العائد المعرفي.

وسوم: العدد 831