(فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزيّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون)

لمّا اقتضت إرادة الله عز وجل أن يكون القرآن الكريم رسالته الخاتمة للعالمين ، فإنه قد ضمنه ما لا مندوحة عنه لأحد منهم إلى قيام الساعة لئلا تكون لهم حجة عليه سبحانه وتعالى ، ولا يكون لهم عذر إذا بعثوا وحشروا وحوسبوا .

ولا يوجد في  رسالته الخاتمة سبحانه وتعالى ما يمكن أن يزعم أحد من الناس أنه لا يعنيه. ومما كثر وروده في هذه الرسالة الخاتمة  أخبار الأمم السابقة ، وقد وردت للاعتبار لأن سنن الله عز ثابتة لا تتغير بتغير الأمم  والأزمنة ، لهذا يعتبر اللاحق منها معنيا بالسابق إلى نهاية العالم وقيام الساعة . ولم ترد أخبار الأمم السابقة في الرسالة الخاتمة عبثا بل وردت لقصد وغاية  لأنها تهم وتعني  من يليها من الأمم إلى آخر أمة أو أمم تدرك لحظة نهاية الحياة الدنيا .

ومن سنن الله عز وجل في الخلق أن المخالفين لأمره  والخارجين عن طاعته يأتيهم بأس فيه إنذار لهم قبل أخذ هم بالعذاب المستأصل لهم . والبأس عبارة عن شدة تنزل بالمخالفين أمره سبحانه وتعالى علما بأن مخالفة أمره تتدرج من أدنى مخالفة  تكون أصغر معصية إلى أقصاها فتكون كفرا أو شركا به سبحانه وتعالى ، وما بين أدناها وأعلاها مخالفات تختلف درجات قبحها كما جاء وصفها في كتاب الله عز وجل، وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومن رحمة الله عز وجل بالخلق، وهي رحمة وسعت كل شيء أنه منحهم فرصا للرجوع عن مخالفة أمره قبل أن يحل بهم عذابه المهلك والمستأصل لهم . ومن واسع رحمته أنه يساعدهم على الإنابة والرجوع إلى طاعته عن طريق بأس ينزله بهم . فلو أنهم تركوا دون بأس ينالهم لما فكروا في الإنابة والرجوع ،ذلك أن نزول البأس بهم  يوقظهم من غفلتهم ، ويجعلهم يستيقنون أنهم قد حادوا عن صراط ربهم المستقيم ، واستوجبوا بذلك نزول البأس بهم لعلهم يرجعون عن انحرافهم وضلالهم  .  

ومن سعة رحمة الله عز وجل أن جعل رفع البأس النازل بالناس إذا ما خرجوا عن طاعته يسيرا وفي متناولهم وهو الضراعة إليه . والضراعة تكون عن طريق إقرار واعتراف بالذنب بخشوع وتذلل وانكسار النفوس المتمردة على خالقها.

وبالعودة إلى كتاب الله عز وجل نجد أن سنته قد سرت  في خلقه بتقديم فرصة الإنابة  تكون عبارة عن تذكير لهم قبل حلول العذاب والاستئصال بهم مصداقا لقوله عز من قائل :

((  ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون  فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزيّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين )) .

لقد فصل الله تعالى في هذا النص القرآني أمر بأسه الذي يجيء الخارجين عن طاعته، فجعله بأساء وضراء ،وهما معا شدة ومشقة وعنت مهما كان نوعهما ،  ومما جاء في التفاسير أن البأساء عبارة عن مجاعة مهلكة ، والضراء عبارة عن وباء فتّاك ، وكل ذلك من الشدة والمشقة ، وقد يتجاوز الأمر الجوع والوباء إلى أنواع أخرى من المشقة والشدة ،وهي كثيرة منها على سبيل الذكر لا الحصر غزو وعدوان العدو، أو جور الحاكم المستبد ، أوغلاء المعيشة ... إلى غير ذلك من الشدائد.

ولا يزعمنّ أحد أن سنة الله عز وجل هذه  قد مضت في الأمم السابقة بلا رجعة ، لأنها خاصة بالماضين فيما خلا من السنين ، وأنها لا تشمل الأمم التالية بعدهم ، بل هي سنة ثابتة  وسارية إلى قيام الساعة ، وهي عبارة عن بأس جعله الله تعالى تذكيرا للغافلين وللمصرين على معصيته عسى أن يسارعوا إلى التضرع  والإنابة ،ولا يصروا على عنادهم، فيأتيهم عذاب الاستئصال .

إن الله تعالى يذكر الغافلين والمصرين على حد سواء بشدائد تحل بهم رحمة بهم ، فإذا ما استنفذوا فرص التضرع والإنابة، استوجبوا عذاب الاستئصال لأنهم حينئذ يصيرون لا خير في بقائهم أحياء  وهم  مصرون على ضلالهم.

وقول الله تعالى : (( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا )) ، يفهم منه التوبيخ كما يقول أهل اللغة، لأن  حرف "لولا " إذا تلته جملة فعلية يفيد التوبيخ ، ولا يكون حرف امتناع لوجود ، وقيل أيضا أن الكلام بعده يفيد الاستفهام ، كما يفيد التمنى ، وكل ذلك وارد والله تعالى أعلم .

 وذكر الله تعالى بعد ذلك حال الذين لا يتضرعون إذا ما نزل البأس بهم فقال : (( ولكن قست قلوبهم وزيّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون )) ، ذلك أن المعهود عند الناس مع حلول البأس بهم أن ترق قلوبهم ، وذلك من طباع البشر لأنهم مع حلول البأس يضعفون من شدته ، ويلتمسون الخلاص منه ، ولا يجدون سبيلا إلى ذلك إلا بالضراعة إلى خالقهم الذي بيده  وحده سبحانه رفع البأس عنهم، ولكنهم عوض أن  ترق  قلوبهم تزداد قسوة مكابرة وعنادا خصوصا وأن الشيطان يزيّن لهم ذلك ، وتزيينه إنما هو خدعة تجعل قبح عنادهم في أعينهم حسنا ، ولا يوجد أقبح من أن يكابر ويعاند الإنسان والبأس نازل به، فيغره الشيطان ويغريه بما يظنه تحديا للبأس، فيرى ذلك  جسارة وقوة وشجاعة وتفوقا ، بينما يرى الضراعة إلى الله تعالى ضعفا وجبنا وفشلا .

وعند قسوة القلوب يفتح الله عز وجل على القاسية قلوبهم ما يزيدهم قسوة،  وصلفا ،وكبرياء ،وعنادا، وإصرارا على الطغيان مصداقا لقوله تعالى : ((  فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين )) ،إن نسيان التذكير الذي يكون بنزول البأس ينقل المكابرين إلى طوراستحقاق قطع الدابر الذي يكون مسبوقا بفتح أبواب كل شيء ، وأول الأبواب التي تفتح ارتفاع البأس عنهم ، ثم تليه أبواب نعم أخرى ورخاء يزيدهم طغيانا ، فيقع منهم الفرح وهو ازدهاء وبطر بالأبواب المفتوحة عليهم من النعم ويكون ذلك من تزيين الشيطان لهم ، ويبدأ حينئذ العد العكسي لبداية قطع دابرهم ، وهو الاستئصال ، ذلك أن قطع الدابر كناية عن هلاكهم عن آخرهم جزاء ظلمهم ، ويحمد الله تعالى على استئصاله الظلمة  الخارجين عن طاعته.

حديث هذه الجمعة مناسبته هي الجائحة التي حلت بالعالم اليوم، والتي لم تبارح شدتها ،وقد ازداد بأسها ، ومعظم الناس في غفلة عن الضراعة إلى خالقهم سبحانه وتعالى ، وقد ذكرهم ببأس هذه الجائحة، فنسوا التذكير، وقست قلوبهم بما زيّنه لهم الشيطان من قدرتهم على الحد من بأسها أو التقليل من شأنها مكابرة وعنادا وإصرارا .

 وليس الناس في عالم اليوم سواء في معتقداتهم ، ذلك أن منهم كفار ملحدون ، ومشركون ، ومنافقون ، وعصاة ، ومؤمنون، ولعلهم هؤلاء أقل عددا من غيرهم ... وقد تفهم قسوة قلوب الكفار والمشركين ، والمنافقين ،وحتى العصاة أيضا ، ولكن لا معنى لقسوة قلوب المؤمنين إذا هم لم يتضرعوا . والمؤسف أن المنافقين سخروا وما زالوا يسخرون ممن يذكّرهم بالضراعة إلى الله عز وجل لمّا نزل بأس الجائحة ، وزين لهم الشيطان ذلك ، ورموا المتضرعين بالجهل والتخلف والغفلة ، ورفعوا من قدر كفار ومشركين   ممن لا يتضرعون ، وبطروا بتسابقهم لإيجاد علاج للجائحة مع الاستغناء عن فرج الخالق سبحانه، وهؤلاء المنافقين ليسوا في عير ولا في نفير كما  يقال، ذلك أنهم لم يتضرعوا مع المتضرعين، ولا هم من المتسابقين في البحث عن علاج الجائحة ، بل طالت ألسنتهم بالإساءة إلى المتضرعين واستصغروا من شأنهم علوا وتكبرا ، وعلى هؤلاء يصدق قول الله تعالى : ((  وما أرسلنا في قرية من نبيّ إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضّرعون ثم بدّلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مسّ آباءنا الضرّاء والسرّاء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون )) .

إنه ليس بعد التكبر على الضراعة إلى الله عز وجل وبأس الجائحة لمّا يغادربعد الناس في مجموع المعمور إلا الاستدراج ونسأل الله العافية منه ، وبدايته أن يرفع الوباء ليس لأن الناس تضرعوا وأنابوا إلى ربهم  بل لأنهم تكبروا عن الضراعة  فجاءهم الاستدراج الإلهي ليليه بعد ذلك الأخذ المباغت ، وهم غافلون .

وإنه  ليحسن بالمؤمنين أن يواظبوا على الضراعة إلى المولى جل في علاه صادقين في ذلك كل الصدق عسى أن يرفع سبحانه وتعالى بأس الجائحة عنهم وعن غيرهم لضراعتهم الصادقة ، وبذلك لا يكون رفعها بداية استدراج لا قدر الله.ولا يحسن بأهل الإيمان أن يحذوا حذو من لا إيمان لهم من الكفار والمشركين والمنافقين ، أو حذو العصاة ، وعلى هؤلاء تحديدا وهم من المحسوبين على الإيمان أن تكون ضراعتهم عبارة عن مبادرة بالإقلاع عن معاصيهم مع ندم وتذلل ، وتعهد صادق بألا يعودوا إليها أبدا .

ولا يحسن بأهل الإيمان أن ييأسوا من روح الله عز وجل ، فتفتر هممهم عن الضراعة إليه ، وعليهم بملازمتها في كل أحوالهم ، وإن غلقت أبواب مساجدهم ذلك أن عين الله عز وجل تراهم وهم يتضرعون حيث ما وجدوا ولا تغادرهم طرفة عين ،وإنه ليسمعهم سبحانه وتعالى  إذا جهروا بالضراعة أو أسروها  فرادى وجماعات ، ولا يمنع أن تقبل منهم  ضراعتهم إليه  إلا إذا افتقرت إلى الصدق .

اللهم يا مولانا قد ضاق بنا الحال والجائحة بين ظهرانينا تزداد شراسة ، وليس لنا سواك ملاذا نلوذ به ، وقد استخف بلجوئنا إليك بالضراعة السفهاء من الناس ، فارفع اللهم  يا قادر عنا البأساء والضراء ، وعجّل لنا بذلك رحمة وجودا ومنة منك يا منّان يا حنّان . إلهنا إلى من تكلنا إلى وباء يتهددنا أم إلى سفهاء يشمتنون بنا ويسخرون منا ، ونحن نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك المثلى ونسترضيك يا مولانا  بكل ما يرضيك حتى ترضى عنا .

اللهم إن البأس النازل بنا وإن كنا لا نطيقه لأهون علينا من غضبك وسخطك ونعوذ بك يا مولانا منهما، فارأف وارحمنا ، ولا تقنّطنا من رحمتك التي وسعت كل شيء ، ولا من عفوك ومغفرتك وأنت الذي لم تقنّط منهما حتى الذين أسرفوا على أنفسهم من عصاة عبادك .رحماك رحماك يا مولانا فليس لنا ربا سواك. والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .