( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهادتهم قائمون )

من المنصوص عليه في القرآن الكريم ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أمر الله عز وجل  للعباد برعاية الأمانة والعهد والقيام بالشهادة ، وهي مما تعبّدهم بها ،وجعلها من صفات المؤمنين منهم رفعا لشأنهم وإشادة بهم .

ومعلوم أن الأمانة لها شأن عظيم عند الله عز وجل ، والدليل على عظمتها إشفاق مخلوقات عظيمة من حملها كما جاء في محكم التنزيل في قوله عز من قائل : (( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )). ولقد جاء في كتب التفسير أن عرض الأمانة على هذه المخلوقات العظيمة مقارنة بعرضها على الإنسان الذي يدب فوقها و  يعيش تحت سقفها كان إخبارا لها بالمثوبة إن أحسنت حملها وبالعقاب إن أساءت في ذلك، فأبت حملها إشفاقا من العقاب إن هي لم تحسن الحمل ،إلا أن الإنسان أقدم على هذا الحمل نظرا لطبيعته البشرية التي جبل عليها وهو بذلك يظلم نفسه الظلم الكثير أو الخطير كما وصفه  الله عز وجل بذلك  ، وعبر عنه بصيغة المبالغة  " ظلوم " ، وهو أمر يحصل منه لجهله الجهل الفظيع المعبر عنه أيضا بصيغة المبالغة  " جهول " . وفي بعض الروايات الواردة في كتب التفسير أن هذه الأمانة التي عرضها الله تعالى على السماوات والأرض والجبال عرضت على أول إنسان وهو آدم عليه السلام، فقبل ما أشفقت هي  منه ، وما لبث أن وقع في الخطيئة التي كانت  عبارة عن تقصيرا سببه النسيان  في حمل  أمانة استأمنه إياها  ربه سبحانه وتعالى ، وكان ذلك ظلما في حق نفسه ، وهو الذي تعهد والتزم  من قبل أن يحمل ما حمله الله تعالى من  تلك أمانة .

ومعلوم أن الأمانة الوارد ذكرها في الكتاب والسنة ،هي كل ما افترضه الله تعالى على العباد ، وتعبّدهم به سواء كان ذلك أوامر أو نواه أقولا أو أفعالا .

ولقد تكرر ذكر الأمانة ، والعهد، والشهادة في كتاب الله عز وجل في أكثر من موضع في سياقات تكون فيها دلالتها إما معينة أو خاصة أو تكون عامة تشمل كل ما افترضه الله عز وجل على العباد وما تعبّهم به .

ومن ضمن تلك السياقات ما جاء في سورة المعارج حيث ذكر الله تعالى يوم القيامة، وما سيكون فيه من أهوال بحيث تصير السماء كالمهل ، وتصير الجبال كالعهن ، إشارة إلى  أهوال نهاية العالم النهاية المدهشة ،ويكون الناس يومئذ عبارة عن صنفين، أشقياء مصيرهم الجحيم ، وسعداء مصيرهم النعيم . ففي هذا السياق ورد ذكر رعاية الأمانة والعهد والقيام بالشهادة وهذه الأخيرة أمانة من الأمانات وعهد من العهود . ولقد جاء ذكرها كوصف  خاص بالسعداء يميزهم عن الأشقياء بحيث يعرفون بأوصاف منها صفة المصلين أداء للصلاة ومداومة  ومحافظة عليها ، ومنها صفة التصدق على السائل الذي يسألهم وعلى المحروم المحتاج الذي لا يسألهم تعففا  ، ومنها التصديق بيوم القيامة وهو يوم الجزاء ، ومنها الإشفاق من عذاب يومئذ ، وهو عذاب لا يؤمن ، ومنها حفظ الفروج  دون ابتغاء  غير ما شرع الله تعالى حفظا للأعراض و صيانة للنسل والأنساب ، إلى أن يوصفوا برعاية الأمانات  والعهد ، والقيام بالشهادة ثم ينتهي وصفهم بما بدأ مرة أخرى وهو المحافظة على الصلاة ، الشيء الذي يفهم منه عظيم  قدر هذه العبادة عند الله عز وجل ، كما يفهم منه أن كل الأوصاف المذكورة  بين وصفهم بداية وانتهاء بالصلاة  متوقفة على  وجود هذه الصفة قياما بالصلاة ومداومة  ومحافظة عليها ، ولذلك من ضيّع هذه الصفة، فهو لا محالة لغيرها أضيع .

ولقد جاءت هذه الصفات بعد استثناء منقطع يكون فيه  تسد فيه  الأداة " إلا " مسد الأداة " لكن " ،ويكون ما بعدها إخبار . وما قبل أسلوب الاستثناء المنقطع كان عبارة عن ذكر صفتي الهلع والجزع المتأصلتين في طبيعة  الإنسان كلما مسه شر ، ولا تنفكان عنه إلا إذا توفرت فيه الصفات الواردة ما بعد الاستثناء المنقطع مما مر ذكره . وتنتهي تلك الأوصاف بذكر ما ادخر الله عز وجل لمن وصفوا بها من تكريم في نعيم الجنة المقيم كما قال الله تعالى : ((  إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهادتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون))

وغالبا ما يختزل الناس مفهوم الأمانة في الودائع المادية التي يستودعها بعضهم بعضا ، ولا ينتبهون إلى الدلالة الواسعة لهذا المفهوم مع أنه عند المفسرين يشمل كل ما افترضه الله تعالى على العباد  عبادة أو معاملة  سواء كان ذلك قولا أو فعلا ، ماديا أو معنوبا . ومفهوم الأمانة يشمل العهد والشهادة، فهما أمانتان ، لهذا ورد ذكرهما مقترنا بها ، وخصت الأمانة مع العهد بأمر الرعاية ، وهي تفيد الحفظ ،والحرص، والصيانة ، كما خصت الشهادة بأمر القيام  بها ،وهو يفيد ما تفيده الرعاية أيضا ، ذلك أن القائم بالشهادة راع لها ، كما أن راعي الأمانة والعهد قائم بهما .

ومعلوم أن رعاية الأمانة والعهد والقيام بالشهادة عبارة عن مسؤولية كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه : " ألا كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالأمير الذي على الناس راع ، وهو مسؤول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته ، وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده ، وهي مسؤولة عنهم ، والعبد راع على مال سيّده ، وهو مسؤول عنه ، ألا فكلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته " ففي هذا الحديث الشريف إشارة إلى نماذج من الرعاة المسؤولين عما استرعاهم الله عز وجل ، فمنهم من استرعاه الأمة  ، ومنهم من استرعاه الأسرة  ، ومنهم من استرعاه  مال غيره ، وقد أغنى ذكر هذه النماذج الثلاثة عن ذكر كل ما يوجد من رعاة ورعايا  في الحياة وهي نماذج كثيرة  تندرج كلها تحتها  هذه الثلاثة ، ذلك أنه لا يخلو المسؤول إما أن يكون راعيا لشأن  عام يخص المجتمع أو راعيا لشأن خاص يخص الأسرة  نواة المجتمع الصلبة ، أو راعيا لشأن  مالي يخص مال الغير ويكون  إما مالا خاصا أو مالا عاما . و كل من يكلفه الأمير راعي الرعية أو الأمة بمهمة ،فهو معه في مسؤوليته  العامة ، وكل من يكلفه رب الأسرة وراعيها بمهمة تخصها فهو معه في مسؤوليته الخاصة  ، وكل من يكلف بمال خاص أو عام ويشرك معه غيره في ذلك فهو معه في مسؤوليته العامة أو الخاصة  . وبذكر الأمة أو المجتمع والأسرة، وهي نواة المجتمع  وأساس بنائه ،يكون الحديث الشريف قد أشار إلى كل الأمانات إذ لا يمكنها أن تخرج عنهما .

مناسبة حديث هذه الجمعة الداعي إليه حدثان أحدهما عرفته بلادنا هذا الأسبوع ، والآخر هي على موعد معه  في المستقبل القريب .

 أما الحدث الأول، فهو اجتياز المتعلمين في مختلف أسلاك التعليم امتحاناتهم ،ويتعلق الأمر هنا  بأمانة من أخطر الأمانات بالنسبة للممتحنين ـ بفتح وكسر الحاء ـ  على حد سواء ،لأنه يترتب عنها شهادات في حق المتعلمين ، وهي تخول لهم في نهاية المطاف وظائف ومهام ومسؤوليات يتعلق بكل واحدة منها مصير أكبر  رعية  وهي الأمة . وكل تفريط في  رعاية أمانة الامتحانات مهما كانت الجهة المفرطة فيها، يعتبر  نقضا  صارخا لصفة من أهم صفات المؤمنين كما مر بنا ذلك في الحديث عما جاء في سورة المعارج .

ومما تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات سجلت لعينات من  المتعلمين الممتحنين  تم استفسارهم عن أمانة الامتحانات ، فجاءت أجوبتهم مع شديد الأسف والحسرة مستخفة ومستهترة بها حيث فاخر بعض المستجوبين منهم بعمليات الغش ، وأقر البعض الآخر بتهاونه وتكاسله وتقاعسه في الاستعداد للامتحانات ، وافترى بعضهم الكذب من خلال وصفها بالصعوبة أو بعدم تغطيتها للدروس المنجزة أو بعدم قيام المربين بواجبهم على الوجه المطلوب ... إلى غير ذلك مما جاء في تصريحاتهم الصادمة التي كشفت عن مدى الاستخفاف بأمانة الامتحانات لدى ناشئة مسلمة ـ يا حسرتاه ـ تلقن الإسلام نظريا  في مؤسساتها التربوية ، وعمليا في أوساطها الأسروية و في محيطها المجتمعي . والمؤسف أنها تفاخر بتصريحاتها المتهورة والعابثة والوقحة دون خجل أو وخز من ضمير.

وهل من يستهين بأمانة وعهد الامتحانات يؤتمن على غيرها من الأمانات والعهود ، وهل من لا يقوم بالشهادة المتعلقة بهذه الأمانة ،وهذا العهد يقوم بغيرها من الشهادات ؟  وعلى الممتحنين ـ بفتح الحاء وكسرها ـ ألا يستخفوا بهذه الأمانة إن كانوا  حقا من المصلين صلاة  لا رياء فيه ، وتكون بذلك نهاية لهم عن كل أمر فاحش ومنكر من غش ، وتهاون وخيانة ....

وأما الحدث الثاني المرتقب في المستقبل القريبب ، فيتعلق بالاستحقاقات الانتخابية المقبلة ، وهي أمانة من الأمانات ، وعهد من العهود ، وشهادة من الشهادات  أيضا والتي سيسأل عنها الجميع بين يدي الله عز وجل ناخبون ومنتخبون . فكل من عرض نفسه لحمل أمانة الترشح لتمثيل الأمة والتحدث باسمها ، والدفاع عن مصالحها  وحقوقها ، وهو يعلم أنه غير أهل لذلك إنما أغرته بطلب حمل هذه الأمانة منفعة أو مصلحة شخصية مادية كانت أو معنوية ، فإنه يكون ظالما لنفسه أولا ، وظالم لغيره ، وخائن لأمانة استأمنه الله عز وجل عليها  ، وناقض لعهد عهده تعهد به  ،وغير قائم بشهادة وعد بالقيام بها  ، وهو بذلك ظلوم جهول لا يمكن أن يكون في حظيرة من وصفهم الله تعالى بالمصلين الصلاة الحقيقية ، ولا يقوم بها القيام الواجب ، ولا يحافظ عليها كما ينبغي ، ومن ثم فهو لا صلة له بالصفات المتعلقة بها أو المترتبة عنها  مما ذكره الله تعالى في سورة المعارج  من رعاية حق السائل والمحروم ، ومن حفظ للفروج ، ومن التصديق بيوم الدين والحذر والخوف  منه، و رعاية للأمانات والعهود ، ومن قيام بالشهادة ، وما هو بذلك من المكرمين في جنة النعيم بل هو ممن يودون حينئذ الافتداء من الجحيم  بالبنين والصاحبة ، والإخوة ، والفصيلة والقبيل  ، وكل من في الأرض .

وإنه لمن الاستخفاف والاستهانة بالمسؤولية  أن يتقدم إلى أمانة تمثيل الشعب من لا يستطيع ذلك إما لجهله الفاضح  أو لقلة خبرته وعلمه بهذه المسؤولية الخطيرة  أو لسبق إصراره على التفريط فيها ، واتخاذها مطية أو وسيلة لطلب عرض الدنيا الزائل وحكمه حكم السحت المحرم .

ومن الاستخفاف والاستهانة بهذه الأمانة الخطيرة ألا يقوم بأمانة الشهادة  من يصوتون على من يرشحون أنفسهم لتقلدها، وهم يعلمون علم اليقين أنهم غير أهل لها ، والأدهى من ذلك أن يحصلوا مقابل أصواتهم  على رشى لا تسمن ولا تغني من جوع ، وهي سحت يأكلونه ويطعمونه أهلهم .

وبناء على ما مر بنا يجدر بالمترشحين  للانتخابات المقبلة  والمصوتين على حد سواء أن ينأوا بأنفسهم عن ارتكاب الإثم فيها عن ظلم وجهالة  إن كانوا حقا  مصلين محافظين  ودائمين على صلاته ، صلاة لا يراؤون  فيها ، وكان في أمولهم حق معلوم للسائل والمحروم  ، وكانوا يصدقون بيوم الدين ويشفقون على أنفسهم منه ، وكانوا لفروجهم حافظين ، وكانوا لأماناتهم وعهدهم راعين ، وكانوا بشهادتهم قائمين .

اللهم إنا نسألك الإخلاص في أداء الصلاة والمحافظة والدوام عليها ، ونسألك الحرص على حق السائل والمحروم في أموالنا ، ونسألك الصدق في التصديق بيوم الدين ، ونسالك  حفظ الفروج ، ونسألك رعاية الأمانات والعهود ، ونسألك القيام بالشهادة على الوجه الذي يرضيك ، وترضى به عنا يا رب العالمين .اللهم رد بنا إلى صراطك المستقيم ردا جميلا مصحوبا بلطفك با لطيف .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 933