( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب )

من المعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أخبر في محكم التنزيل أن الغاية مما تعبّد به  عباده أقوالا أو أفعالا هي طاعته فيما أمر و ما نهى ، ولا يتحقق ذلك إلا بتقواه ،والتقوى عبارة عن شعور بخوف ووجل  محله القلوب الآدمية  ، وهو وازع يمنع الناس من الخروج عن طاعة ربهم بترك ما أمرهم به أوإتيان ما نهاهم عنه . وعلى قدر أرصدة القلوب البشرية  من التقوى تكون درجة أصحابها من العبادة والطاعة . ولقد أثنى الله عز وجل  على عباده  أصحاب القلوب الوجلة أو بعبارة أخرى ذات الأرصدة المرتفعة من التقوى فقال في محكم التنزيل : (( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون )) ،وقد جاء في كتب التفسير أنهم الذين يعطون العطاء وهم خائفون ألا يتقبل منهم كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لما  سألته أم المؤمنين عائشة  بنت الصديق رضي الله عنهما  عن الوجلة قلوبهم : " أهو الذي يسرق ، ويزني ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله عز وجل ؟ " فأجابها عليه الصلاة والسلام : " لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصلون ، ويصومون ، ويتصدقون ، وهم يخافون ألا يقبل منهم " . ويفهم من هذا الحديث الشريف أن وجل القلوب ، وهو خوف في درجة الفزع من شدته يكون علامة على تقواها في حال التزام طاعة الله عز وجل  لا في حال الخروج عنها كما بيّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومعلوم أن استحضار وجل القلوب يكون دائما حيث تذكر التقوى في كتاب الله عز وجل أو في حديث رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا يرد في بعض الآيات ما يطمئن أصحاب القلوب الوجلة  من قبيل قوله تعالى : ((  ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) وذلك لتهدئتها من وجلها ، ومعلوم أن أولياء الله هم الذين يلتزمون طاعته  على الوجه الذي يرضيه سبحانه وتعالى ، لذلك يبشرهم في هذه الآية الكريمة بأنه لا خوف عليهم من ألا تقبل منهم طاعتهم  وعبادتهم ، ولا يحزنهم ذلك.

والمتأمل فيما تعبّد به الله عز وجل عباده المؤمنين، لا يمكنه مهما أوتي من فهم  أن يدرك ما أخفى الله تعالى من حكمة وراءها ،واستأثر بعلمها ، ذلك أن بعض ما تعبدنا به قد يبدو للبعض غريبا لا يفهمون الغاية من ورائه ، لهذا ينبههم الله عز وجل إلى تلك الغاية، وهي تقوى القلوب بما تدل عليه من مخافة ألا تقبل منهم طاعاتهم على اختلاف أنواعها.

ومما تعبّدنا به الله عز وجل ذبائح نتقرب بها إليه سواء كانت هديا يدخل ضمن مناسك الحج أو ما ينحر يوم عيد النحر في غير الحج . وجوابا على ما قد يخطر ببال هؤلاء من أسلئة تحيّرهم، وهي متعلقة بالغاية من هذا النسك بنوعيه يخبرهم المولى جل شأنه بقوله : (( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم )) .ويقتضي هذا أن يحصل وجل  في قلوب المتقربين إليه بهذا الشعيرة  أي يخافون ألا تقبل منهم لأن قبولها يتوقف على صدق التقوى الذي يتحقق بصدق النية في تعظيم شعائر الله عز وجل مصداقا لقوله تعالى : (( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب )).

ولقد جاء في كتب التفسير أن هذه الشعائر تعني  كل مناسك الحج ، كما أنها  تعني الهدي المقدم في الحج ، وتعني أيضا الأضاحي التي تذبح يوم عيد النحر بالنسبة لعموم المسلمين من غير حجاج بيت الله الحرام  .ولقد  ورد فيها أيضا أن تعظيم هذه الأخيرة هو استسمانها واستحسانها لأنها تقدم لله تعالى الواجب التعظيم ذاتا وصفات وأفعالا ، ولهذا حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم صفاتها  التي تجعلها خالية من كل العيوب التي  قد تخل بواجب تعظيم شعائر الله عز وجل .

إن الداعي إلى حديث هذه الجمعة التي صادفت ثالث أيام عيد النحر هو التنبيه إلى التقصير في واجب تعظيم شعيرة النحر كما تدل على ذلك بعض المؤشرات مما صار متداولا عبر وسائل التواصل الاجتماعي حيث تطرق مواضيع المبالغة  في أثمان الأضاحي من جهة من يسوقونها ، واستثقال من جهة من يشترونها  مع أن هؤلاء قد يقدمونها هدايا في مناسباتهم الخاصة دون استثقال أثمانها بل بالعكس يباهون بها ، ويشهرون ذلك ويشهدون عليه الناس ، فضلا عن مواضيع  التقصير في استسمانها واستحسانها ، ووقوع الغش والتدليس في بيعها وشرائها ، ومواضيع الحط من شأنها وقيمتها حيث يرى البعض أن الذي يصرف عليها أولى أن يدخر ليصرف على قضاء  العطلة الصيفية  في الشواطىء والمنتزهات أو يصرف على غيرها من الأمور مع تجاهل متعمد لدلالتها الدينية  ، وقد يتذرع هؤلاء بما يقدم عليه كثير من العوام من بيع أثاثهم  الذي يحتاجونه أو يقترضون بفوائد من أجل شرائها  جاعلين استهلاك اللحم غايتهم ، وهو مما يأباه شرع الله عز وجل ولا يرضاه . وإذا كانت قلوب المؤمنين توجل وهي تتقرب إلى الله عز وجل بما أحل ،وتخاف ألا يقبل منها، فكيف يمكن أن يقبل سبحانه وتعالى التقرب إليه بما لا يرضاه مما  يخل بتعظيم شعائره ؟

وإن أخطر ما يتداوله بعض الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي من إخلال بتعظيم شعيرة النحر ينحو  في الحقيقة  نحو استهداف دين الله عز وجل من طرف من يضمرون له العداء، ومن طرف من يتعاونون  معهم  على ذلك من المحسوبين عليه قصد تنفير  ضعاف الإيمان منه عن طريق الإيحاء لهم بأن شعائر الله عز وجل لم تعد مسايرة للعصر، وأنه لم يعد لها من  معنى على حد زعمهم الباطل  ، وأن الزمن قد عفا عنها ... إلى غير ذلك  من الذرائع الواهية والمضللة والمستخفة بعقول ضعاف العقول وضعاف الإيمان ، وذلك من أجل إعدادهم  نفسيا لحياة يغيب فيها دين الله عز وجل و يغيب فيها شرعه، و في المقابل يفسح فيها المجال لغيره من الشرائع الوضعية الفاسدة والمفسدة للفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها .

ولهذا يجدر بالمؤمنين أن يستحضروا بهذه المناسبة تعظيم شعيرة النحر ، وغيرها من شعائر الله عز وجل ، وأن ينأوا بأنفسهم عن كل ما من شأنه أن يشوش على قلوبهم هذا التعظيم الذي أمرهم به خالقهم سبحانه وتعالى، وأثنى على أصحابه ، وجعلهم من عباده المتقين .

اللهم إنا نسألك قلوبا وجلة ، ونسألك أن تتقبل منا نسكنا ، وتجعله خالصا لك من كل ما يفسده . اللهم إنا نبرأ إليك من كل من لم يعظم شعائرك بقول أو فعل لا ترضاه . اللهم تجاوز عنا كل تفريط في تعظيم شعائرك ، ولا تؤاخذنا بأفعال السفهاء منا . اللهم ارفع عنا ما حل بنا من بلاء هذا الوباء فقد طال بنا وأنتم أرحم الراحمين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 939