( ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون )

من المعلوم أن قصة نبي الله موسى عليه السلام قد تكررت عدة مرات في القرآن الكريم، وهو الرسالة الخاتمة للعالمين مرة تأتي مقتضبة وأخرى تأتي  بإسهاب لما فيها من حكم ومواعظ وتوجيهات ربانية للناس أجمعين إلى قيام الساعة لعلهم يتقون .

وحياة نبي الله موسى عليه السلام حافلة بما يستدعي التدبر في أحواله وهو مولود وهو شاب  وبعد أن قلده الله تعالى تبليغ رسالته لأعتى إنسان في التاريخ البشري، والذي يعتبر رمز الطغيان والاستبداد والظلم، وتكفي الإشارة إلى درجة طغيانه واستبداده بذكر ادعائه الربوبية العليا  متجاسرا على خالقه سبحانه وتعالى علوا كبيرا .

والمثير للانتباه في قصة نبي الله موسى عليه السلام هو أنه ولد في قوم مستضعفين زمن حاكم طاغية يتسلى بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم ، فكان الشعور بالخوف ملازما لقومه خصوصا عندما يرزقون الذكور، وهم الفئة التي كان يستهدفها الطغيان الفرعوني . وكان هذا الخوف يبلغ درجة لا مثيل لها كما أخبر بذلك القرآن الكريم في الحديث عن أم موسى حين أوحى إليها الله  عز وجل بإلقاء وليدها في اليم حيث قال : (( وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين )) ،وهو ما يعكس درجة خوف هذه الأم المسكينة على رضيعها . ويتكرر شعور الخوف عند نبي الله موسى عليه السلام حين قتل فرعونيا  وخرج فارا من مدينته كما جاء في قوله تعالى : (( فخرج منها خائفا يترقب )) ، وهو خوف من طغيان طغاة  كانوا يريدون قتله . وبلغ خوفه أقصى حد يمكن أن يبلغه  عند آدمي من هول ما شاهد حين كلمه ربه وقد ورد ذكر ذلك أيضا في قوله تعالى : (( وأن الق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين )) .ويتكرر خوفه أيضا  حين يأمره ربه بمقابلة فرعون كما جاء في قوله تعالى : (( قال ربّ إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون )) .ويزداد خوفه أثناء المقابلة كما أخبر بذلك الله عز وجل في قوله : (( فإذا حبالهم وعصيهم يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى )) . ويتكرر خوفه مرة أخرى حين يأمره الله تعالى بالخروج مع قومه وهم مطاردون من قبل فرعون وجنوده كما أخبر جل شأنه في قوله : (( ولقد أوحينا إلى موسى أن اسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى )) .

والمثير للانتباه في شعور الخوف الذي صاحب موسى عليه السلام وأمه أن الأمان كان يعقبه حيث اطمأن قلب أمه، وهي تسترجعه بعد إلقائه في اليم كما اطمأن قلبه حين أعاد الله تعالى عصاه سيرتها الأولى ، وحين لجأ خائفا إلى مدين ، وحين أفزعته حبال وعصي سحرة فرعون ، وحين أتبعه فرعون في اليم .

وقصة نبي الله موسى عليه السلام تمثل صراع الحق المستضعف مع الباطل المستكبر حيث بدأت به وهو رضيع من قوم مستضعفين مع طاغية مستكبر هو وبطانته . وقد أراد الله عز وجل أن يخبر الخلق في الرسالة الخاتمة من خلال قصة نبيه موسى عليه السلام أن سنته فيهم هي نصرة الحق مهما استضعفه الباطل المستكبر  ، وأن العاقبة في صراع الحق المستضعف  مع الباطل المستكبر تكون للطرف المستضعف  بعد ابتلائه وصبره على الاستضعاف صبرا يصاحبه الخوف، ولكن يعقبه النصر و الأمن والأمان .

 ولقد الله تعالى بتكرار قصة موسى عليه السلام في الرسالة الخاتمة المنزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يثبته أولا بها وقد واجه من الطغيان مثل ما واجه موسى عليه السلام ،  ويثبت بها أمته من بعده إلى قيام الساعة بأن حسن العاقبة لأهل الحق المستضعفين  وسوءها لأهل الباطل المستكبرين .

ولقد تعهد سبحانه وتعالى بإذلال أهل الباطل الطغاة المستكبرين إذلالا يكون عبارة عن تجرعهم مرارة  معاينة أهل الحق المستضعفين وهم ينتصرون عليهم نصرا عزيزا مؤزرا ، وهو ما كانوا يكرهونه ولا يطيقونه العيش لحظة وقوعه ، ويعكس تعهده سبحانه وتعالى قوله : (( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون )) . فهذا النص القرآني فيه وعد الله الناجز بنصرة أهل الحق المستضعفين في كل زمان وفي كل مكان إلى قيام الساعة مع التمكين لهم في الأرض وإذلال أهل الباطل المستكبرين بتحقيق ما كانوا يحذرونه ممن كانوا يستضعفونهم .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو حلول ذكرى يوم عاشوراء الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام بني إسرائيل فيه، فأخبر بأنه اليوم الذي نجّى فيه الله عز وجل نبيه موسى عليه السلام من فرعون ، فقال عليه السلام : " نحن أولى بموسى منهم " أو كما قال عليه السلام ، وحث على صيامه ،وبشر بما فيه من أجر عظيم . والجدير بالمؤمنين ألا يقفوا عند طلب أجر صيام هذا اليوم فقط بل يجب عليهم استحضار وعد الله الناجز لأهل الحق المستضعفين بالنصر على أعدائهم من أهل الباطل المستكبرين في كل زمان ومكان إلى غاية حلول اليوم الآخر ، وهذه هي الغاية من إحياء هذا اليوم العظيم الذي يجدر بالمؤمنين تسميته بيوم انتصار الحق المستضعف على الباطل المستكبر .

وهذه المناسبة لا يمكن أن تنسب لغير نبي الله موسى عليه السلام ، وقد أكد ذلك الوحي الذي لا ترقى إلى صحته روايات الخلق . ولئن تزامن وقت هذه المناسبة مع حدث من الأحداث، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يطغى هذا الحدث مهما كان على حدث نصر الله تعالى نبيه موسى عليه السلام على عدوه فرعون اللعين.

ولا يمكن حصر نصر الله الموعود لأهل الحق المستضعفين على أهل الباطل في زمن دون غيره، ولا في بيئة دون غيرها إلى قيام الساعة ، ولا يحق لجهة مهما كانت أن تدعي هذا النصر الموعود  لها دون غيرها من أهل الحق المؤمنين المستضعفين في الأرض.

ولا يجب على مؤمن مهما كان وحيثما كان إلى قيام الساعة أن ييأس من نصر الله تعالى مهما بلغ أمر استضعافه، وهو على الحق من قبل أهل الباطل المستكبرين في الأرض ، وأن يوقن أن يوم نصره آت لا محالة ، وأن يتوقع من الخوف مثل ما مر بني الله موسى عليه السلام قبل أن يفوز بوعد الله الناجز بنصره وتمكينه .

اللهم إنا نسألك الإيمان الذي به يتحقق اليقين التام  بنصرك وتمكينك . اللهم إنا نسألك الأمن الذي أمنت به نبيك موسى عليه السلام  بعد خوفه ، ونسألك الثبات الذي ثبته به وهو يواجه طاغية زمانه . اللهم اجعل هذه المناسبة تعود على المؤمنين بالنصر والتمكين في مشارق الأرض ومغاربها .

اللهم أمنا من  كل خوف  بما فيه الخوف من الجائحة الحالة بالعالمين ، وعجل برفعها عنا بلا عودة يا رب العالمين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 943