( ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا )

من المعلوم أن طبيعة الإنسان تنزع نحو القلق من حصوله على ما يريد إذا انعدمت عنده أو في تقدير أوفي حسابه الأسباب المفضية إلى مراده .وقد يبلغ به الأمر حد اليأس من بلوغ هذا المراد لعسر توفر الأسباب أو تعذرها في نظره . ومن رحمة الله عز جل بهذا الإنسان اليئوس، القنوط كما وصفه سبحانه وتعالى في محكم التنزيل أنه أسبغ عليه نعمة من أجل النعم تفضلا منه جل وعلا ، وهي نعمة التوكل عليه الذي هو اعتماد كلي عليه ، والوثوق بما عنده مما لا ينبغي لغيره من الخلق، وإظهار العجز على تحصيله أو بلوغه دون تدخل منه سبحانه وتعالى . ولقد جعل جل في علاه لنعمة التوكل عليه ضمانا كما جاء في قوله عز من قائل : (( ومن يتوكل على الله فهو حسبه )) أي هو كافيه ما لا قدرة  له عليه ، ولا حيلة ، ولا وسيلة ، ولا سبيل  إلى ذلك ... ولقد وردت هذه الآية في سورة الطلاق ، وهي مسبوقة بقوله تعالى : (( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب )) ، و قد جاء في كتب التفسير أنها نزلت في شأن عوف بن مالك الأشجعي الذي أسر مشركو قريش ابنه ، فشق ذلك عليه وعلى زوجه ، فشكا أمره لرسول الله صلى الله عليه  وسلم ، فحثه على الصبر ، وأمره أن يكثر هو زوجه من قول " لا حول ولا قوة إلا بالله " فإذا بالمشركين يغفلوا عن ابنه الأسير بتدبير من الله عز وجل ، فيفر منهم وقد ساق أنعاما كثيرة لهم ،وعاد بها إلى المدينة . معلوم أن عوفا  قد بلغ به وبزوجه  اليأس من خلاص ابنه مبلغه ، ولم يجد من سبيل إلى تحقيق مراده ،إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دلّه على مفتاح الفرج وهو الصبر مع الاعتماد على حول وقوة الله سبحانه وتعالى ،  بالإكثار منها ، وذلك من أجل  ترسيخ اليقين  في نفسيهما  بفرجه منه سبحانه وتعالى يقينا لا يلابس شيء  مما يفقد الثقة به أو يشكك فيها . ولقد كفى الله تعالى عوفا وزوجه وابنهما ما همّهم جميعا من حيث لم يحتسبوا إذ لا يمكن أن يتوقع من أسير أن ينجو من أسره مع حراسة مشددة مضروبة عليه ، وأكثر من ذلك توفير الأسباب له ليحصل منهم على أنعام كثيرة يعود بها إلى المدينة وهو الأسير المعدم  .

ولقد جعل الله تعالى للرزق الذي بيده هو وحده  ولأسباب الحصول عليه  شرطا مطلوب من العباد الوفاء به ،وهو أولا تقواه جل في علاه . وبتقوى الله عز وجل يحصل المخرج من الضيق، والكرب، والشدة ... ومن كل ما يشق عليهم ، كما يحصل الرزق المقدر من عنده سبحانه وتعالى عينا وسببا والذي لا يخطر على بالهم الحصول عليه  . وعلى غرار شرط التقوى لبلوغ المخرج وتحصيل  الرزق جاء شرط التوكل على الله عز وجل لنيل المراد والقصد حيث يكون الله عز وجل هو كاف من يتوكل عليه ، وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك بقوله : (( إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا )) ،الشيء الذي يعني أنه لا يجب استبعاد المتوكلين عليه بلوغ مرادهم وإن أحوجتهم الأسباب، لأنه سبحانه هو الذي يقدرها ويسهلها ، وإذا أراد أمرا يسّر أسبابه .

ولما كانت العبرة بعموم لفظ كلام الله عز وجل لا بخصوص أسباب نزوله ، وهو ما يعني استخلاص الأحكام من عموم اللفظ ، فإن هذه  حكم تقوى الله عز وجل والتوكل عليه ينسحب على كل إنسان شأنه كشأن من كان سببا في  نزول هذه الآيات إلى قيام الساعة .

وعلى المتوكلين على الله عز وجل أن يكون توكلهم عليه حق التوكل ، ويكون مقترنا بتقواه، لأن آية الأمر بالتقوى مقترنة ، وملازمة لآية الأمر بالتوكل ، وهما متكاملتان . ولقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحصل حق التوكل على الله عز وجل في قوله عليه الصلاة والسلام : " لو أنكم  تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا " . وما يتبيّن من هذا الحديث الشريف أن التوكل الحق يكون بعدم انشغال الأذهان بالتفكير في الرزق أو في أسباب الحصول عليه  كالحال التي يكون عليها الطير حين يأوي إلى أعشاشه ، فينام مطمئنا البال لا يحمل هم رزقه كما يحمل ذلك الإنسان ، الذي يسهر ليله ولا يطمئن قلبه . ولا يوجد طير يفعل فعل الإنسان لأن هذا أخير  مجبول على اليأس من الخلاص من كل ضيقه يقع فيه  ، و على اليأس من الحصول على رزقه في غياب الأسباب .و معلوم أن الطير أفق من الآفاق التي تعهد الله  سبحانه وتعالى سوقها للخلق  ليرهم آياته وأدلته على أن ما جاء من عنده هو الحق مصداقا لقوله عز من قائل : (( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )) .

مناسبة حديث هذه الجمعة أمران : أولهما  غياب أو فتور تقوى الله عند الناس في هذا الزمان ، وثانيها غياب أو فتور التوكل عليه حق التوكل ، وهو ما يجعلهم يعانون من كرب لا تنفرج ، ومن مضايق لا خلاص لهم منها ، ، ومن أرزاق لا سبيل للحصول عليها ، ولو أنهم  يستيقنون حق اليقين أن الله تعالى يدفع عنهم كل كرب ، ويجعل لهم مخرجا من كل ضيق  ، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون لما عانوا مما هم فيه. ولنا مثال على ذلك  في تأخر سقوط المطر حيث أصاب الناس اليأس أو كاد  من نزوله ،لأن أسباب نزوله التي اعتادوا عليها قد تأخرت ، وبتأخرها تأخر نزوله ، الشيء الذي يعني أنهم لم  يلتزموا تقوى الله عز وجل على الوجه المطلوب ، ولم يتوكلوا عليه حق التوكل . وبناء على هذا يجب عليهم مراجعة أنفسهم بالإنابة إليه ، وتقواه ، وحسن الظن به، وحسن التوكل عليه عسى أن يروا منه ما وعدهم به من مخرج مما هم فيه من ضيق وشدة  ، وما وعدهم  به من رزق من حيث لا يحتسبون ، وهو كافيهم ورازقهم سبحانه وتعالى ، وله المنة والحمد على ذلك حمدا كثيرا يليق به ، ويرضاه ، ويرضى به عنا.

اللهم إنا تسألك التقوى التي تجعل لنا بها مخرجا من كل ضيق وشدة ، ونسأل رزقا من حيث لا نحتسب ، ونسألك حسن التوكل عليك ،فأنت حسبنا ونعم الوكيل.

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 

وسوم: العدد 971