( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه تنزيلا )

اقتضت إرادة الله عز وجل أن ينزّل القرآن الكريم ،وهو الرسالة الخاتمة للعالمين إلى يوم الدين في  ليلة مباركة من شهر رمضان الفضيل ، وكان نزوله طيلة المدة التي كلّف سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بتبليغه للناس ،وهو نزول وفق ما اقتضته أحوال الناس زمن النبوة، وهي ما يسمى بأسباب النزول إلا أن الأحكام المترتبة عنها بقيت وستبقى سارية المفعول ،وهي تشمل كل البشر إلى نهاية العالم باعتبار الرسالة الخاتمة والعالمية  ، ولو لم تكن كذلك لكان للناس على الله تعالى حجة يوم الحساب، وهو ما لا يمكن لعدله جل في علاه مصداقا لقوله : (( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما)).

ولقد جاء ت في القرآن الكريم إشارات إلى كيفية نزوله مع الغاية المرجوة من ذلك ، ومنها قوله تعالى : (( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا )) . ولقد سمى الله تعالى القرآن بأسماء  عدة  حسب ما يقتضيه مقام ذكره منها اسم القرآن وهو من  فعل القراءة ،ذلك أن الله تعالى أنزله ليقرأ أو ليتلى على الدوام لحاجة البشرية الملحة إليه  إذ لا تخلو أحوالها في حياتها من أن تكون مضبوطة  بأحكام وضوابط  لا تستقيم إلا بها  . ومن أسمائه أيضا الكتاب ، والذكر ، والبيان ، والفرقان ،  والنور ، والآيات ... وهي ترد في سياقات تقتضيها مع أن المسمى واحد .

ومن السياقات المقتضية لاسم القرآن سياق الحديث عن القراءة والترتيل كما هو الحال في الآية السابقة الذي بيّن فيها الله تعالى كيف  فرق ـ دون تضعيف الراء ـ  هذا القرآن ، وهو فعل يدل في اللسان العربي على معنيين: معنى تقسيم وتجزئة  ما تعدد أو كثر ، ومعنى البيان لأنه يشبه تفريق ما اختلط ، وهو ما  يدل على أن المعنى المراد بفعل فرق هو التفصيل والبيان  في آن واحد . وبعد ذلك جاءه أمره تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليقرآه على الناس محددا له طريقة القراءة، وهي المكث أي التؤدة والتأني لغرض وصول معانيه إليهم إذ لو لم يكن شرط المكث لعسر على الناس فهمه وإدراك الغاية منه  بيسر وسهولة . وأكد الله تعالى بعد ذلك كيفيه إنزاله مرة أخرى تأكيدا لما سبق وهو قوله تعالى : (( وقرآنا فرقناه )) بما يلي وهو قوله تعالى :  (( ونزّلناه تنزيلا)) بتضعيف فعل التنزيل متبوعا بمفعوله المطلق ،وكلاهما يتضمن معنى التأكيد. وقد جاء في كتب التفسير أن في ذلك ردا على من قالوا : (( لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة ))  وإبطالا لشبهتهم .

ومع أن قراءة القرآن الكريم تعبّد يومي بالنسبة للمؤمنين إذ تعبدهم به ربهم على الدوام ليظلوا على صلة مستمرة به ، وهو بمنزلة نور ينير سبلهم  ويطرد عنها كل غبش أو ظلمة  تجعلهم ينحرفون عن الجادة  وهم يخوضون غمار الحياة ، فإنه سبحانه وتعالى قد تعبّدهم بصلاة القيام في شهر الصيام  والتي يستعرض خلالها القرآن الكريم قراءة وترتيلا من أوله إلى آخره  ، وهو ما يحقق شرط  تلقيه على مكث وتؤدة ، و ذلك  ليعرضوا أنفسهم عليه ويقيسوا حجم التطابق بين ما يفعلون وما يقولون وبين ما يريده منهم خالقهم جل وعلا .

وكل قراءة  للقرآن الكريم في صلاة القيام لا تلتزم بشرط المكث والتؤدة لا تحقق الهدف المرجو منها . وإذا كانت القراءة على مكث مفروضة على من يؤم المصلين في صلاة القيام ، فإنه يلزمهم الاستيعاب الجيّد ،والفهم ،والتدبر لقوله تعالى : (( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )) . والتدبر إنما هو استيعاب بتؤدة لبلوغ الغاية المنشودة  . وعلى قدر التدبر يكون قدر الفائدة ، ذلك أن الآية الواحدة من القرآن الكريم ،وهي تتلى على جمع من المؤمنين  تفعل في بعضهم ما لا تفعل في البعض الآخر حسب تفاوت تدبر كل منهم  لها. وغاية التدبر إنما هو بلوغ  الاستقامة  المطلوبة على صراط الله المستقيم .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بما يلزمهم في شهر الصيام من تعامل وتفاعل مع القرآن الكريم إذ ليست الغاية أن تستعرض آياته عليهم دون تحقيق التدبر المطلوب لبلوغ الاستقامة  . وكثير من الناس يقبلون على صلاة القيام باعتبارها عبادة تعبدهم بها الله عز وجل دون استفادتهم من الغاية المرجوة منها ، فتمر بهم ليالي رمضان دون أن يستفيدوا شيئا من آيات الذكر الحكيم المتلوة عليهم ، وقصارى ما يتحقق لديهم هو نية  التبرك بسماعها ، وهو حال معظمهم  بل منهم من همهم أداء صلاة التراويح قياما وركوعا وسجودا دون أدنى اهتمام بما يتلى فيها من قرآن ودون استحضارأمر تدبره . ومع أن مجرد سماع القرآن والإنصات إليه لا يخلو من أجر وفائدة  مصداقا لقوله تعالى : (( وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون))، فإن الغاية  من ذلك هي ما أراده الله تبارك وتعالى من وراء قراءته وسماعه وهو تدبره  من أجل الاستقامة على هديه ، وتلك هي  الرحمة المقصودة  التي وعد بها  الله تعالى عباده. وهل توجد رحمة أكبر لمن تدبر آية من آي الذكر الحكيم مرت به ، وفيها أمر أو نهي إلهيين ، وكان غافلا عنهما ، ثم أفاق من غفلته بعد سماعهما ، فصحح مساره المنحرف عن هديها  ؟

ومن عرض نفسه على كتاب الله عز وجل طيلة ليالي رمضان  خلال صلاة التراويح ، ولم يحصل له تغيير في حياته ، ولم يقوم نفسه على ضوء ما سمع أو قرأ ، وظل على حاله التي كان عليها من قبل بما فيها من نكوب عن صراط الله المستقيم ، فقد ضيع  على نفسه نعمة الرحمة التي وعد بها الله تعالى  ، ولم يدرك الغاية من قراءة وسماع القرآن وتدبره  .

ومما يعوق تحقيق الغاية من استعراض كتاب الله عز وجل في شهر الصيام إخلال بعض القراء بشرط القراءة على مكث حيث  يسرعون في أداءه  دون الترتيل المطلوب وهو ما لا يمكن معه تحقق التدبر .وإذا ما اجتمع الأداء الفاقد لشرط  القراءة على المكث مع غياب التدبر كانت النتيجة صفرا فيما يتعلق بالغاية التي أرادها الله تعالى . وما أجزل سبحانه  أجر التعامل مع كتابه الكريم حيث جعل النطق أو سماع الحرف الواحد منه بعشر حسنات إلا ليبلغ بعباده غاية التدبر التي هي مفتاح الاستقامة على صراطه المستقيم .

اللهم إنا نسألك أن تبلغنا شهر القرآن الكريم ، ونسألك عونك على صيامه وقيامه كما يرضيك ، وجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا وجلاء أحزاننا وهمومنا ، وترزقنا نعمة تدبره ، وتعني على إصلاح أنفسنا وفق هديه ، ولا تخالف بنا عنه .اللهم إنا نرجوك رجاء المتوسلين إليك بواسع رحمتك أن تجود علينا بجائزة الصيام والقيام ، مغفرة منك  يا غفور يا رحيم ، وعتق من النار .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلّى الله وسلّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 975