حديث رمضان ( الحلقة الأولى ) : عبادة الصيام علاج فعّال لعلة الريّاء

من المعلوم أن عبادة الصيام تنفرد وحدها دون باقي العبادات بالسرية التامة بحيث لا يمكن بتاتا أن يعلم أحد من أداء الصائم لها إلا الله عز وجل الذي يعلم السر وأخفى ، ولهذا جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل في علاه : " قال الله عز وجل : كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، والصيام جنة ، فإذا كان  يوم صوم أحدكم ، فلا يرفث ، ولا يصخب ، فإن سابّه أحد أو قاتله ، فليقل إني امرؤ صائم " " والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك "ّ .

إن في قول الله تعالى الذي رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يؤكد انفراد عبادة الصيام عن غيرها من العبادات بالسرية التي لا يعلمها ولا يطلع عليها أحد إلا الخالق جل في علاه ، وهي غير متأتية في باقي العبادات التي تكشف عنها سريتها ، فيعلمها الخلق دون أن يعلموا بطبيعة الحال  ما وراءها من نوايا هي عماد صحة الأعمال لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنما الأعمال بانيات ..." .إن المصلي تعرف صلاته بتردده على المساجد ، وتعرف زكاته وصدقته بشهادة من تعطى له ، وحجه لا مناص من إطلاع الناس عليه وهم مجتمعون لأداء مناسكه ،أما الصيام ، فالصائم وحده هو وخالقه من يعلمان به . ولما كان بإمكان الإنسان أن يختلي بنفسه في  بيته أو في مكان لا يراه فيه أحد،  فيصيب الطعام، والشراب ،والوقاع ، فإنه من المستحيل أن يجزم أحد بصيامه . وسرية عبادة الصيام هي ما يجعلها مستعصية على الرياء . والرياء حالة يكون عليها من يظهر ما ليس هو عليه حقيقة ليراه الناس ، وهو بذلك يرائيهم  لحاجة في نفسه . وكل أعمال بني آدم التي يطلع عليه الخلق تكون عرضة  للرياء بسبب طبيعتها العلنية بينما الصيام يشذ عن هذا الحكم لسريته ، ولهذا نسبه الله تعالى لذاته المقدسة ، وجعل له أجرا خاصا به يجازى به صاحبه ، وهو ما يدل على أن أحب الأعمال إليه سبحانه وتعالى هو ما كان خلوا من رياء ، وليس ذلك لعمل من الأعمال إلا للصيام . وليس من قبيل الصدفة أن يلي قوله تعالى : " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " قوله مباشرة بعد ذلك : " والصيام جنة " أي وقاية ، وأول هذه الوقاية، وقاية من داء أو علة الرياء المفسدة لكل عمل مشهود يشهده الناس ويعلمونه . ولقد أعقب بعد ذلك  ذكر بعض مفسدات عبادة الصوم  كالرفث والصخب ، وكلاهما قبح الكلام من سباب أو فحش أوغيرهما . والله تعالى لا يرضى للصائم الذي تجاوز بنجاح عقبة الرياء المفسدة لصيامه  أن  يجعله عرضة للفساد بالانصياع إلى من يسبه أو يقاتله ، فيرد عليه بمثل سبابه أو مقاتلته ، و إنما يكتفي بالقول إني امرؤ صائم أي صائن لصيامي مما يفسده . ومن وفقه الله تعالى للرد على من سابه أو قاتله بهذا الرد ، فإن الصيام يكون له جنة  أي وقاية .

ويعقب كلام الله عز وجل عن سرية عبادة الصيام ووقايتها من علة الرياء  كلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أقسم بربه عز وجل على أن خلوف فم الصائم ، وهو الرائحة الكريهة المستقبحة  التي تنبعث من فيه تكون أطيب عند الله سبحانه وتعالى من ريح المسك ، وهو أمر يستغربه الإنسان إذ كيف  يصير هذا الخلوف  المقرف مسكا وهما على طرف نقيض . إن ذلك من تفضيل الله عز وجل لهذه العبادة الخالية من الرياء بحيث يكون فيها  كل ما يشق على الإنسان من جوع وعطش أو ما يكرهه من خلوف الفم ،وغيره  مما يترتب عن الصوم مما لا يطاق أو لا يستطاب أمورا هي عند الله عز وجل غير ما يعتبره الإنسان بحيث يصير الخلوف مسكا ، ويقاس على ذلك أيضا الجوع والعطش .... وغيرهما .

وقد يتساءل البعض لماذا لعبادة الصوم كل هذه القيمة عند الله عز وجل ؟ وبيان ذلك أن لشهوتي البطن والفرج قوة إغراء لا يستطيع الإنسان مقاومتها إلا بالصوم ويكون بذلك متشبها بالملائكة الكرام الذين، لا يأكلون، ولا يشربون ، ولا يتناسلون ، وهم في عبادة  التسبيح المتواصلة ليل نهار . ومن لطف الله عز بالصائم أنه ينعم عليه  في فترة  صيامه بتشبهه بالملائكة الكرام ، وهو ما يسمو بروحه ذات الطبيعة النورانية عن مطالب الجسد ذي الطبيعة الطينية المظلمة.

ونعود إلى قضية الرياء لنحذر من وقوع الصائمين فيه بحيث يريدون بعبادة الصوم غير ما أراد بها  لهم خالقهم سبحانه وتعالى إذ المطلوب  فيها أن تكون علاجا لهم من تلك العلة ليس في عبادة الصوم وحدها بل في باقي العبادات العلنية المعرضة لها أكثر من عبادة الصوم . وبناء على هذا من لم تكن كل عباداته كعبادة الصوم ، فإنه يعتبر معلولا بعلة الرياء ، ويجدر به أن يغتنم فرصة الصيام في رمضان لمعالجة نفسه ، ولصيانة كل عباداته من خطر الرياء الماحق لها . وكل من ضاعت منه فرصة الصيام لعلاجه من الرياء في كل عباداته ،فلن يستطيع بعد ذلك  تدراك علاجه بعدها بل سيزداد علة مفسدة لها ، ولا يمكنه أن  يدرك  الدلالة الحقيقية لعبارة " الصوم جنة " .

نسأل الله عز وجل الإخلاص الدافع لعلة الرياء في كل ما تعبدنا به إنه قريب سميع مجيب الدعاء.

وسوم: العدد 975