( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) 4

( الحلقة الرابعة ) 

من المعلوم أن الإنسان المؤمن بخالقه سبحانه وتعالى تلازمه على الدوام فكرة قربه منه ، ومن ثم يكون كثير التواصل معه بقلبه وبلسانه  يدعوه، ويسأله راجيا أن يتواصل هو الآخر معه باستجابة دعائه في كل ما يعرض له من أحوال خصوصا إذا ما اضطر إلى دعائه وسؤاله . ومما لا يخلو منه  لحظة واحدة  ذهن مؤمن بالله تعالى، هو استفساره عن وقع دعائه عند خالقه ، ورده سبحانه وتعالى عليه . وقد يوسوس الشيطان لعنه الله للمؤمن ليشككه في اهتمام خالقه بدعائه، لكنه لا يمكن أن ينال من قناعته الراسخة بأنه يسمعه، ويراه لقربه منه ،وهو أقرب إليه من كل ما سواه ، وأنه  لا محالة يستجيب له  إن دعاه ، وإن تأخرت الاستجابة لأنها إذا تأخرت أو لم تحصل إنما يكون ذلك لحكمة عنده سبحانه وتعالى ، وفي ذلك خير  .

ومما يؤكد أن الله تبارك وتعالى قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه ما جاء في سياق الحديث عن عبادة الصيام التي أمر بها سبحانه وتعالى عباده المؤمنين . ولا شك أنهم وهم يؤدون هذه العبادة كما أمرهم يخطر ببالهم لا محالة التفكير في المقابل الذي سيحصلون عليه إن هم أدّوا ما طلب منهم  على الوجه الأكمل ، لهذا أمر سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بقربه منهم وباستجابته  دعاءهم إذا ما دعوه قائلا : (( وإذا سالك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان )). وسواء حصل هذا السؤال يومئذ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كان ذلك مجرد خاطرة خطرت لهم  وقد علمه علام الغيوب سبحانه وتعالى ، فإن السميع العليم جل شأنه قد علم ذلك  منهم ، فأجابهم بقربه  منهم ،وباستجابته إذا ما حصل منهم الدعاء ، وهو ما يعني معيته سبحانه  الدائمة التي لا تغيب، ولا تغادرهم طرفة عين .

 وهذه البشارة منه سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة  من أعظم البشارات ، وهي تبعث في نفوس المؤمنين طمأنينة وارتياحا وفرحا وأملا . وعندما نتأملها جيدا نجد أولها إضافة صفتهم إلى الذات الإلهية المقدسة (( عبادي )) ، وفي  هذه الإضافة انتساب له سبحانه  انتساب عبودية ، وتقريب لهم ، ورحمة منه بهم، وهذا كفيل بأن يسعدهم سعادة لا مثيل لها . ومع أن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم إذا ما سأله عباده عنه ، فإنه تولى سبحانه وتعالى الجواب مباشرة دون واسطة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله : (( فإني قريب )) بتوكيد قربه منهم بحرف التوكيد . ولم يقل  لرسوله صلى الله عليه وسلم " قل لهم إني قريب " وهو ما يزيد تأكيد قربه منهم سبحانه وتعالى ،. ولم يكتف سبحانه بذكر قربه من عباده  بل أردف ذلك بقوله : (( أجيب دعوة الداع إذا دعان )) وهو ما يؤكد  أيضا قربه سبحانه منهم لأن القرب لا بد له من شيء يعود عليهم برفد وعون ، وهي استجابة دعائهم إذا ما دعوه ، وفي ذلك طمأنة لهم بأنه يكفيهم أن يدعوه ليستجيب لهم ،لأنهم بدعائهم يعبرون عن افتقارهم الدائم إليه، وهو الغني  الحميد والكريم الذي لا تحجب نعمه عنهم ، ولا حدود لرحمته ورأفته بهم.

ومع أن سبب نزول هذه الآية الكريمة، هو سؤال بدر من بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خطر لهم  على بال ، فإن البشارة التي ساقها الله تعالى تعم جميع المؤمنين في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، لأنه تعبدهم بعبادة الصيام ، وأمرهم بشكره على ذلك ، وجعل لهم جائزة، وهي قربه منهم ،واستجابته دعاءهم ، وعليه فإن كل من شكر خالقه على نعمة الصيام التي تعبده بها حقّ له أن يستفيد من الجائزة المخصصة لشكره ، لأنه استجاب لأمره سبحانه وتعالى كما جاء في قوله مباشرة بعد أمره بصيام شهر رمضان : (( ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون )) .

إن إكمال العدة ، وتكبير الخالق سبحانه وتعالى على منة ونعمة الهداية، وشكره، على ذلك  يقرب المكبرين الشاكرين من خالقهم سبحانه وتعالى الذي يستجيب لهم إذا ما دعوه أو سألوه من فضله .

ومرة أخرى يذكّرهم سبحانه وتعالى بما يمكنهم من استجابة دعائهم وسؤالهم حاجتهم فيقول : (( فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون )) ، وهذا يعني أن استجابته جل شأنه رهينة باستجابتهم له من خلال طاعته فيما أمر ونهى مع  إيمان به ، وبهذا يرشدون  ، والرشد إنما هو إصابتهم الحق، ذلك أن الخروج عن طاعته هو نكوب عن الحق ، وميل مع الباطل .

ومع حلول العشر الأواخر من شهر الصيام ، والتي أخفى فيها الله عز وجل ليلة مباركة هي خير من ألف شهر ، يودّ كل مؤمن أن يدركها ، ويدرك فضلها، وهو في كنف طاعة ربه سبحانه وتعالى ، يدعوه من أجل أن  يجار من نار جهنم وتعتق رقبته ، ولكنه يظل يهفو إلى أن  تشمله هذه الآية الكريمة ليظفر بقرب الله عز وجل منه واستجابته لدعائه إذا دعاه ، وهي غايته ومبتغاه إلا أنه  قد لا يراجع نفسه بخصوص استجابته لربه سبحانه وتعالى من خلال طاعة كاملة لا ينقضها ناقض وهو ما اشترطه عليه ليظفر باستجابة الدعاء ، علما بأن من يستجيب لربه جل شأنه لزمه ذلك في كل أحواله وظروفه إذ لا معنى لاستجابته له في عبادة الصيام خلال أيام شهر رمضان المعدودات دون الاستجابة له في باقي العبادات المفروضة ، والاستجابة له في  مختلف المعاملات أيضا .

وبإمكان الإنسان المؤمن أن يتأكد من أهليته لنيل فضل ونعمة  الله تعالى عليه باستجابة دعائه ، وكفى بنفسه شاهدة عليه ، وذلك باستحضار وتقييم استجابته هو لخالقه  في كل ما أمر وما نهى في رمضان وفي غير رمضان  ، لأنه طالما شابت إيمانه وطاعته وعبادة شوائب ، فلن يدرك نعمة استجابة الدعاء كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المكنر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم " ، وقوله أيضا : " الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، يمدّ يديه إلى السماء يا رب ، يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ،وملبسه حرام ، وغذّي بالحرام ، فأنى يستجاب له ؟ " .

إن ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هي موانع تحول دون استجابة الله تعالى دعاء الداعي إذا دعاه ، وقد عدّد منها عدم الأمر بالمعروف ، و عدم النهي عن المنكر ، والمعطم ،والمشرب ، والملبس ، والغذاء الحرام ، وهو ما يعني عدم الاستجابة له سبحانه وتعالى فيما أمر وما نهى .

إن المؤمنين في العشر الأواخر من شهر الصيام خصوصا في الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ، يعولون على خالقهم في استجابة دعائهم الخاص بالعتق من النار  ، وبغيره مما يرجونه من أمور دنياهم وآخرتهم ، وخليق بهم أن يثقوا كل الثقة في التعويل عليه مع حسن الظن به جل شانه  إلا أنهم لا يقدمون بين يدي ذلك ما سألهم سبحانه وتعالى من انضباط وطاعة كشرط لاستجابته دعاءهم .

ويجدر بهم أن يكون رجاؤهم في استجابته دعائهم على قدر استجابتهم له فيما أمر وما نهى .

اللهم إنا نسألك فضلا منك توفيقك لنا للاستجابة لك فيما أمرت ونهيت طمعا في استجابتك دعاءنا إذا ما دعوناك . اللهم إن حاجتنا  إليك هي عتقك لنا من النار ، فجد علينا بهذه النعمة يا واسع الجود ،والفضل ، والعطاء . ربنا إننا نحسن الظن بك سبحانك  وأنتم أعلم بنا ، و نحن لا نأمن على أنفسنا من التقصير في الاستجابة لك فيما أمرت ونهيت ، فتجاوز عنا تقصيرنا رحمة منك بنا . اللهم لا تعرض عنا بوجهك الكريم في هذا الشهر الكريم  ، ولا تحرمنا استجابة دعائنا ونحن الفقراء إلى واسع رحمتك ، وجميل عفوك .

 اللهم لك الحمد الذي يليق بعظمتك وجلالك حتى ترضى ، وإذا رضيت ، وبعد الرضا ، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 978