( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما )

من المعلوم أن الله عز وجل أنعم على بني آدم بنعمة من أعظم النعم وأجلها على الإطلاق ألا وهي نعمة المغفرة حيث تفضل بها على أب البشرية  آدم وحواء عليهما السلام بعدما ارتكاب أول خطيئة بشرية بأكلهما من الشجرة التي نهاهما  عنها . ومن فضل الله تبارك وتعالى أن جعل هذه النعمة  جارية وسارية على بني آدم إلى قيام الساعة ،وهم يمتحنون ويبتلون في حياتهم الدنيا .

ولما كانت الطبيعة البشرية نزّاعة إلى الخطإ والذنب ، فإن الله عز وجل لطف بالعباد ، وفتح لهم باب نعمة مغفرته على مصراعيه ، وجعل أمدها واسعا ما لم يغرروا . ويكثر حديثه سبحانه وتعالى عن نعمة المغرفة في محكم التنزيل حيث يأتي غالبا بالتذييل المشهور : (( وكان الله غفورا رحيما )) أو (( والله غفور رحيم )) عقب ذكر ما يصدر عن العباد من خطايا وذنوب وآثام ، وذلك لبعث رجاءهم فيه ،وطمعهم في نعمة مغفرته ، وهو رجاء لا يخلو قلب مؤمن منهم من التعلق به وتمنيه على الله عز وجل  مهما أسرف في ذنوبه لأنه سبحانه وتعالى فتح باب  هذا الرجاء للعباد على مصراعيه بقوله تعالى : (( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم)) . وكفى بقوله هذا  سبحانه وتعالى باعثا للرجاء في نفوس العباد ، ذلك أنه  قد أطمع في نعمة مغفرته المسرفين فكيف بمن دونهم من المذنبين ؟

ولقد سرد الله تعالى في كتابه الكريم أنواعا وأشكالا من الخطايا والمعاصي والذنوب التي يقترفها العباد ، وكل مرة يقابل ذكرها بنعمة مغفرته التي قال عنها (( ورحمتي وسعت كل شيء)) ، ومثل هذه الرحمة لا يمكن أن تضيق سعتها ، فلا تشمل أحد من خلقه ، ومغفرته سبحانه وتعالى من واسع رحمته .

ومما سرده الله عز وجل من تلك المعاصي والخطايا والآثام قوله عز من قائل :

(( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا )) .

وهذه من أشنع المعاصي ، وهي كبائر لكبر وعظم شناعتها، وهي جريمة الشرك بالله تعالى ، وجريمة قتل النفس التي حرّم الله ،وجريمة الزنا . ولقد توعد الله تعالى أصحاب هذه الجرائم الشنيعة بالعذاب المضاعف ، ويكفي أن يكون لها عذاب معلوم ، فما بالها إن صار مضاعفا، وكان ذلك في خلد لا نهاية له مع الهوان ؟

ولاشك أن أصحاب هذه الكبائر المنكرة حين يسمعون وعيد الله سبحانه وتعالى الشديد يسيطرعليهم اليأس القاتل من رحمته بالرغم من سعتها كل شيء إلا أنه سبحانه وتعالى يفتح لهم أبواب سعتها باستثناء قوامه التوبة فيقول جل شأنه : (( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما )) ،والتوبة عبارة عن رجوع وإنابة إليه سبحانه وتعالى، رجوع وإنابة طاعة قوامها الائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه ، وهي تتحقق بالإقلاع عن الذنب ، والندم على اقترافه، والعزم الصادق والأكيد على عدم العودة إليه ، وهي بذلك توبة نصوح مع شرط رد الحقوق إلى أصحابها سواء كانت مادية أم كانت معنوية ،أفعالا أو أقوالا ، ولا بد أن يصحب ذلك إيمان لا تردد فيه ، وعمل صالح  يكون مقابلا لما سبق من سوء .

ومما جاء في كتب التفسير أن ابن عباس رضي الله عنه قال : " أناسا من أهل الشرك ، قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت (( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ... الآية ))  . ولمّا كانت العبرة بعموم لفظ كلام الله عز وجل ، لا بخصوص سبب نزوله، وهو الرسالة العالمية الخاتمة للناس أجميع إلى يوم الدين ، فإن حكمها يشملهم جميعا في كل زمان وكل مكان ، ولله عز وجل المنة والحمد والثناء .

وتبديل الله عز وجل سيئات العباد حسنات إنما هو جعل هذه الأخيرة بدلا عنها بحيث ترجح كفتها على كفة السيئات فتمحوها . وحتى  تطمئن قلوب المسرفين على أنفسهم باقتراف كبائر الشرك بالله تعالى ، وقتل النفس التي حرّم ، والزنا جاء في ذيل الآية الكريم ذكر صفتين  من صفاته  المثلى عز وجل متلازمتين ، وهما صفتا المغفرة والرحمة ، وقد قدم سبحانه  مغفرته على رحمته ، وإن كانت من سعتها ، وأخرّ ذكرها عن المغفرة لبعث الأمل العريض في نفوس مقترفي تلك الموبقات الشنيعة والمستقبحة . ومعلوم أن رحمة الله تعالى التي  وسعت كل شيء تشمل عفوه ومغفرته ، ويقال أن العفو عبارة عن محو الذنوب ، والمغفرة عبارة عن سترها ، والأول أبلغ من الثانية ، والحقيقة أنهما متلازمان ، والعلاقة بينهما كما يقال جدلية ، والنتيجة المترتبة عنهما أن من غفر الله تعالى له ،وتاب عليه يمحو عنه خطاياه ،  وفي نفس الوقت يسترها عليه ، وما كان لعظيم جوده سبحانه وتعالى أن يفضحه ، وقد ستره وهو يقترفها في حياته ، فكيف يفضحه في آخرته ؟

ومع ما ذكر الله تعالى من مغفرة وعفو خصّ بهما أصحاب تلك الكبائر إلا أنه نبه إلى ما به يحصل عفوه ومغفرته فقال جل شأنه : (( ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا )) ، وقد جاء في كتب التفسير أن المقصود بقوله تعالى أحد أمرين : إما قصد تأكيد التوبة بدلالة المفعول المطلق " متابا " أو قصد  الثبات عليها واستمرارها وعدم نقضها بالعودة إلى ما تمت التوبة منه ، والأمران معا واردان والله تعالى أعلم .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو ما كنا عليه ليلة أمس من توبة  وإنابة إلى الله عز وجل ، ونحن بين يديه نسأله عفوه ومغفرته بصدق وعزم على عدم العودة إلى ما كنا عليه قبل أن يبلّغنا رمضان وهو فرصة توبة وإنابة إليه سبحانه وتعالى . وكل من وقف بين يديه ليلة أمس كان في حكم المتعاقد معه على إنابة وتوبة لا تنقض بعد انصرام رمضان ، وهو عهد غليظ معه جل في علاه لابد من رعايته ، والنأي به عما ينقضه لأن من حصل على نعمة المغفرة على ما كان منه من إساءة ،لا يمكنه أن يظل محافظا عليها وقد عاد إلى إساءته من جديد ، ولهذا أنصح نفسي وكل مؤمن ومؤمنة صيانة عهد التوبة مع الله عز وجل ، والإنابة إليه . ولن يضيّع هذه النعمة العظمى إلا شقي يتعمد إلقاء نفسه في حيز شقاء سحيق ، وهو بذلك عدو نفسه يوبقها ، وقد أعتقه الله تعالى في شهر الصيام  الأبرك ، وفي ليلة القدر المباركة .

اللهم إنا قد عاهدناك  جميعا بلسان المقال ، وأنت أعلم بلسان الحال على التوبة النصوح ، وأشهدناك على ذلك  سبحانك ، وشهد علينا بذلك كرامك الكاتبون ، وكل ملائكتك الكرام ، واعترفنا بذنوبنا ، وأنت أعلم بنا ، اللهم لا تحرمنا من عظيمة نعمة مغفرتك التي وعدت بها التائبين ، وبشرت بها المسرفين على أنفسهم . اللهم أعنا على التوبة النصوح ، ورد بنا إليها كلما نازعتنا أنفسنا الأمارة بالسوء إلى نقضها بما لا يرضيك من قول وعمل . اللهم إنه لا معين لنا على ذلك إلا أنت ، فلا تخيب رجاءنا فيك يا أرحم الراحمين ،ويارب العالمين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 979