( فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّ على الكافرين )

من المعلوم أن كتاب الله عز وجل يزخر بآيات تشيد بصفات المؤمنين في شتى أحوالهم  ومواقفهم . وذكر هذه الصفات فضلا عن كونها تصور صفات السلف الصالح ، فإنها في نفس الوقت تحث الخلف إلى قيام الساعة على الاتصاف بها حرصا على كمال وتمام دينهم . ومن نماذج سرد صفات المؤمنين سواء منهم من عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم ،وهم خير قرن كما أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام أو من جاءوا بعد ه ممن أخبر عنهم الله تعالى وهم يومئذ طي غيبه  جلت قدرته  نجد  قوله في سياق تحذير المؤمنين  من  الارتداد عن الإسلام بعدما مكن له سبحانه وتعالى في الأرض  :

((  يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم )) .

إن التأمل في هذه الآية الكريمة، يكشف عن مجموعة من الصفات التي وصف بها الله تعالى عباده المؤمنين بعضها ضمني، والبعض الآخر صريح ، أما الضمني، فهو انتفاء الارتداد عن الدين ، وهو ما حذر منه سبحانه وتعالى مخاطبا عموم المؤمنين إلى قيام الساعة ، وهذا يعني أنه من كمال وتمام إيمان المؤمنين حيثما وجدوا ألا يحصل منهم ارتداد أبدا عن الإسلام بعد اعتناقه ، وإذا حصل لهم شيء من ذلك، فإنهم سرعان ما  يعودون إلى كنفه من جديد كما كان الحال بالنسبة للرعيل الأول الذين ارتد يعضهم  بعد إسلامهم  لكنهم بادروا بالعودة إليه ، فترسخ  الإيمان القوي في قلوبهم كما سجل ذلك التاريخ .

ولمّا كان القرآن الكريم هو رسالة الله عز وجل الأخيرة والخاتمة للعالمين  بين يدي الساعة ، فإنها تضمنت أوامره ونواهيه سبحانه وتعالى إليهم .  ومما نهى عنه بل حذر منه  تحذيرا قويا هو الارتداد عن الدين الذي ارتضاه لعباده وهو الإسلام ، ولم يرض لهم غيره كما أنه لم يرض لهم الكفر. ولم يكن هذا التحذير خاصا بمن عاصروا نزول الوحي بل هو يعني كل من دخل الإسلام من العالمين جميعا  إلى يوم الدين ثم ارتد عنه إما إلى كفر كان عليه أو على دين غيره لا يقبله الله تعالى .

والآية الكريمة تخبر المرتدين عن الإسلام في كل زمان وفي كل مكان أن ما يحصل إذا وقعت منهم الردة  هو إتيان الله عز وجل بمن يعتنقه، ولا يرتدد عنه ،وهو وعد  ناجز منه سبحانه وتعالى . ولقد بينت الآية الكريمة صفات هؤلاء الذين يعتنقون الإسلام حق الاعتناق ، ولا يفسدونه بارتداد عنه ،وهي كالآتي :

ـ عدم الارتداد بعد اعتناق الإسلام ، وهو ما يعني الصدق واليقين  .

ـ محبة الله عز وجل لهم ، ومحبّتهم له ، أما محبته لهم سبحانه وتعالى، فتتجلى في رضاه عنهم ، و في توجيههم إلى فعل الخيرات ، وأما محبتهم له، فتتجلى في تعظيمه ،وامتثال أوامره ،والثبات على دينه .

ـ أذلة على المؤمنين ، وهو ذل يعني لين الجانب ،وتوطئة الكنف ، والتواضع،

وشدة التراحم  فيما بينهم والذي تعكسه أفعالهم وأقوالهم  من خلال التعاون فيما بينهم طلبا لمرضاة الله عز وجل .

ـ أعزة على الكافرين ، وهي عزة تتمثل في إظهار القوة، وشدة البأس ، وصلابة القناة ، و والثبات على المبدإ ، ورفض الدنية في الدين ، ومصدر هذه العزة إنما هو عطاء من الله عز وجل .

ـ جهاد في سبيل الله عز وجل ، وهو جهاد يكون من أجل صون بيضة الإسلام ، ويأخذ أشكالا متعددة، فيكون بالنفس ، وبالمال ، وبالحال وبالمقال ... وكل ما فيه بذل للجهد من أجل دفاع عن دين الله عز وجل حين يستهدف فهو جهاد  في سبيل الله .

ـ عدم خوف لوم اللائمين ، وهو مطلق اللوم الذي يواجه به المؤمنون ، ذلك أن اللائمين يلومونهم إذا دافعوا عن دينهم، وعن أنفسهم، وعن أرضهم ، وعن أعراضهم ، وعن أموالهم ، وعن كرامتهم وعزتهم ... والخوف من لومة اللائم تكون بالتراجع عن المبدإ والتراخي فيه ،و الانصراف عن الحق إلى الباطل إرضاء للخلق  وإسخاطا  للخالق سبحانه وتعالى .

هذه هي الصفات التي وصف بها الله تعالى عباده المؤمنين الذين يحبهم ويحبونه حين يرتدد عن دينه من يرتدد مما يسبقهم  إلى الإسلام أو يعاصرهم ، وهذا وعده الناجز سبحانه وتعالى ، وهو يحصل كلما حصلت الردة في كل زمان ، وفي كل مكان حتى تقوم الساعة . وقد يصيب  أحيانا اليأس بعض المسلمين حين يرون بعض من كانوا مثلهم  مسلمين ثم ارتدوا ، ويشعرون بالأسى والحزن لكنهم لو استحضروا وعد الله الناجز بإتيانه سبحانه وتعالى من أشاد بأوصافهم لانبعث الأمل في نفوسهم حتى في أسوأ الأوقات  وأعصبها والتي تبدو فيها الردة طاغية ومسيطرة .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بتحذير الله عز وجل  عباده المؤمنين من الارتداد عن دينهم مهما كان نوع هذا الارتداد ، وتبشيره  حين يقع الارتداد منهم بإتيانه بمن يثبتون على دينهم ، ولا يرتدّون . وما أحوجنا في هذا الزمان بالذات إلى تدبر هذا التحذير الإلهي خصوصا وقد شاعت في المسلمين أنواع من الردة تتمثل في رفض بعض ما شرع الله عز وجل والمطالبة ببدائل عنه بل بلغ الأمر عند بعض المحسوبين على الإسلام حد المطالبة بتعطيله جملة وتفضيلا بذريعة عدم مسايرته للعصر ، وهو إنكار لكونه شرعا عالميا يجب أن يسود العالم حتى تقوم الساعة .

ومقابل الاحتراز من الوقوع في أي نوع من أنواع الردة ، يجب الحرص على الاتصاف بالصفات التي أشاد بها الله تعالى عند من لا يرتدون عن دينهم ، ويتمسكون به مهما كانت الظروف والأحوال ، ومن هذه الصفات حبهم له جل وعلا  بما يقتضيه هذا الحب من دليل وبرهان يتجلى في طاعته الطاعة الكاملة فيما أمر وفيما نهى ثم إظهار الذلة للمؤمنين مقابل إظهار العزة للكافرين ، والجهاد في سبيل الله على اختلاف أنواع الجهاد المشروع دون خوف من لوم اللائمين .

وليس من كمال الإيمان والإسلام أن تنقلب اليوم  الموازين عند المؤمنين، فتصير عزتهم على بعضهم البعض ، وذلتهم على الكافرين ، وخوفهم من لومهم إن هم التزموا ما أمر به الله عز وجل من صفات المؤمنين حقا . وها نحن في هذا الزمان نرى ونسمع إظهار بعضنا العزة  على المؤمنين بتجريحهم وذمهم وتقبيح سعيهم واغتيابهم بل وبهتهم  ....مقابل الذلة  على الكافرين بتفضيلهم، وحبهم ، وتنزيه أعمالهم ، ومدحهم ، والتقرب منهم ، والتزلف إليه ، والخضوع التام  لهم ،وإظهار الخوف منهم ، والرضا أمامهم  بالدنية في الدين ... مع أن المثل يقول : " المنية ولا الدنية " .

وليعلم المؤمنون اليوم إن ارتضى بعضهم الارتداد عن دينهم مهما كان نوع ارتدادهم  أن وعد الله عز وجل ناجز لا محالة  بالإتيان بغيرهم ممن هم خير منهم وأثبت على دينهم . وأمام هؤلاء  باب التوبة النصوح مفتوح على مصراعيه للرجوع عن ارتدادهم كما حصل ذلك عند الرعيل الأول ممن ارتدوا بعد الإسلامهم لكنهم سرعان ما عادوا إليه أشد تمسكا به ، ودفاعا عنه ،ونشرا له في أصقاع لم يكن قد وصلها من قبل ، وخير شاهد على ذلك ما سجله تاريخنا الإسلامي  

اللهم إنا نسألك حبك سبحانك ، وحب رسولك عليه الصلاة والسلام ، ونسألك حب دينك ، ونسألك ذلة على المؤمنين ، ونسألك عزة على الكافرين ، ونسألك جهادا في سبيلك دون خوف من لومة لائم ، ونسألك  كل فضل وعدت به عبادك المؤمنين في كل وقت وحين ، اللهم آمين .  

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .  

وسوم: العدد 1001