( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا )

من المعلوم أن الله عز وجل قد ضمّن كتابه الكريم العديد من صفات عباده المؤمنين لحثهم على التخلّق بها ، وهم يتلون كتابه . ومن أهم تلك الصفات ملازمة القرآن الكريم قراءة أو تلاوة وسماعا . ولقد سمي المتن القرآني آيات لأنه دليل على صدقه ،علما بأن من معاني الآية  في اللسان العربي الحجة والبرهان والدليل .

ومن أجل ملازمة المؤمنين لكتاب الله تعالى يوميا وباستمرار، افترض عليهم عبادة الصلاة التي لا تنفك عنها تلاوة أو سماع آياته . ولقد جاء الأمر الإلهي في القرآن الكريم بتلاوة ما تيسر منه على الدوام ، وهو قدر معلوم الغاية منه أن يظل الارتباط به قائما باستمرار إما في أوقات الصلاة أو خارجها .

ومن الصفات التي خص بها الله تعالى عباده المؤمنين أنهم إذا تلوا آيات الذكر الحكيم أو تليت عليهم، زادهم ذلك إيمانا مصداقا لقوله عز من قائل : (( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا )) . ومعلوم أن الإيمان كما عرفه أهل العلم هو تصديق النفس بثبوت نسبة شيء لشيء أو انتفاؤه عنه تصديقا جازما لا يلابسه شك أو ريب  . والإيمان المتعلق بالله تعالى هو اليقين بوجوده سبحانه وتعالى ، ووجود صفاته التي تدل عليها أدلة عقلية أو شرعية ، وهو اليقين بما ارتبط بوجوده جل في علاه من ملائكة كرام ، وكتب منزلة من عنده ، ورسل أرسلهم للناس صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، ويوم آخر قد قرره ، وقدر جعله خيرا وشرا .

ومعلوم أن الإيمان عند بعض أهل العلم لا ينقص كما نقل ذلك عن  مالك  بن أنس رضي الله عنه ، أما البعض الآخر فقد جعل زيادة الإيمان مما يدل على إمكانية وقوع حالة نقصانه إلا أن المقصود عندهم بنقصانه كما جاء في قول ابن أبي زيد  القيرواني : " الإيمان قول باللسان ، وإخلاص بالقلب ، وعمل بالجوارح ، يزيد بزيادة الأعمال ، وينقص بنقصانها ، فهي التي يكون بها النقص ، وتكون بها الزيادة ". وخلاصة القول عند عموم أهل العلم أن المقصود بزيادة الإيمان هو كماله ، وهو قوة اليقين التي تحصل مع وجود كثرة وقوة الأدلة الدافعة لكل شك قد يعرض للنفس . ولقد قالوا إن الإيمان لا ينقص لأنه إذا  أمكن نقصانه بطلت ماهيته .

و كيفية تأثير تلاوة آي القرآن الكريم  في زيادة الإيمان كما قال أهل العلم أن دقائق الإعجاز التي تحتوي عليها تلك الآي تزيد من يتلوها أو تتلى عليه يقينا بأنها منزلة من عند الله تعالى ، وبذلك يقوى إيمانه ويزداد ، ويبلغ عمله الكمال الذي تقتضيه قوة الإيمان وزيادته . ومن زيادة الإيمان أيضا زيادة إدراك معاني آي الذكر الحكيم ، والتعمق فيها ، وليس المؤمنون سواسية في إدراكها وفهمها أعمق الفهم.

ومع أن زيادة الإيمان عند تلاوة أو سماع آيات الذكر الحكيم إنما هو نعمة من الله تعالى ، وهبة منه ومنة ، فإنه لا بد من الأخذ بأسباب تلقي تلك الآيات تلاوة أو سماعا ، ومن تلك الأسباب تحصيل الحد الأدنى من علوم القرآن الكريم ، وأول تلك العلوم علوم اللغة العربية صرفها، ونحوها ، وبلاغتها ، ولا بد لكل من يتلو القرآن الكريم أو يتلى عليه  أن يكون لديه رصيد من معرفة هذه اللغة ، وأدنى ذلك الرصيد هو المعلوم منه بالضرورة . ولا يخفى ما للمعرفة باللغة العربية من دور في استيعاب كلام الله عز وجل وفهمه وتدبره ، وذلك مما يفضي إلى زيادة الإيمان بزيادة العمل بما جاء  فيه من أوامر ونواه .

ومعلوم أن الآية الواحدة من كتاب الله عز وجل تتلى على مجموعة من المؤمنين ، فيكون نصيب كل واحد من فهمها على قدر ما يعرفه من اللسان العربي ، ومن ثم يكون قدر العمل بها متفاوتا بينهم ، ولنضرب مثالا على هذا التفاوت من خلال فهم قوله تعالى في سياق ذكر بعض صفات المؤمنين  : (( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ))  ، فلا بد من فهم كيف يكون كظم الغيظ انطلاقا من معرفة باللسان العربي ، ذلك أن الكظم  في هذا اللسان هو الإمساك والإخفاء منعا للظهور ، وهو مأخوذ من قولهم : " كظم القربة " إذا ملآها وشد فمها ، وقال المبرد الكظم تمثيل للإمساك مع الامتلاء، علما بأن الغضب مما يصعب على النفس البشرية إخفاؤه ، ولا يقوى على ذلك إلا أهل العزائم القوية . والغيظ صوت الغليان ، ويشبّه به  شدة الغضب ، فكما أنه ليس من السهل إخفاء الغليان ، فكذلك الشأن بالنسبة لشدة الغضب . و فعل كظم الغيظ يكون على قدر فهم هذا السلوك ، وهو فهم يتوقف على مدى فهم  واستيعاب دلالة اللفظين ( الكظم والغيظ ) ، ولهذا يختلف الناس في سلوك كظم الغيظ على قدر فهمهم اللغوي . وليس من بدا منه ما يدل على غيظ بكاظم ،  وإن ادعى ذلك ، تماما كم أن القربة الممتلئة دون أن يشد فمها  ليست بمنجاة من أن يهرق ماؤها.

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بدلالة قول الله تعالى : (( وإذا تليت عليهم آياته زادهم إيمانا )) مع تذكيرهم بالأخذ بأسباب تحصيل زيادة الإيمان بما في ذلك التمكن من المعلوم بالضرورة من معرفة اللسان العربي ، وقد دعا إلى هذا الحديث حدث الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية ، وهو ما يقتضي التذكير بهذا الحدث لارتباط اللغة  العربية بكلام الله تعالى الذي هو رسالته للعالمين إلى يوم الدين ، والتعريف بلسانها العربي المبين هو من صميم العبادة، لأنه ما لا يكون الواجب إلا به، فهو في حكم  الواجب .

ولمّا كان للسان العربي هذه الصلة بكلام الله عز وجل المطلوب منا ملازمة تلاوته أو سماعه ليل نهار ، فإن الاهتمام بالوعاء الذي احتواه لا يقل عن الاهتمام به ، فهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر .

وإذا كان كثير من المؤمنين يتلون القرآن الكريم أو يتلى عليهم بالليل والنهار ، فإن القلة منهم هم الذين يشتغلون بمعرفة اللسان العربي ، ويعتبرون ذلك من الاشتغال بالقرآن الكريم ، وهم ممن يحرصون بذلك على ازدياد إيمانهم لأنهم يعلمون أن زيادة الإيمان لا تتأتى إلا من فهم كلام الله عز وجل ، وأن فهم هذا الأخير لا يتأتى إلا بفهم اللسان العربي المبين كما وصفه الله عز وجل .

وإن كثيرا من المؤمنين يحرصون على تعلم ألسنة غير اللسان العربي ، ويحرصون على تعليمها لأبنائهم ، لكنهم لا يبالون بجهلهم وجهل أبنائهم  الفظيع باللسان العربي ، وهو ضرورة دينية لا مندوحة لهم عنها ليحصل انتماؤهم إلى حظيرة الإيمان الذي لا يمكن أن يزداد إلا بمعرفة لسان الذكر الحكيم .

ومؤسف جدا أن يفاخر البعض بأنهم يتقنون ألسنة أجنبية ، ويفاخرون بذلك ، وفي المقابل لا يشعرون بوخز ضمير من جهلهم الفظيع بلسانهم العربي ، ولا يعيرون تعلمه أهمية ، وإنهم لينتشون بأحاديث أبنائهم بالألسنة الأجنبية أمام الناس لكنهم لا يبالون بجهلهم بلسانهم العربي ، ويكتفون بالحديث باللسان العربي  العامي أو الدراج ، وهم يفضلونه على اللسان الفصيح مع أن العامي عالة على الفصيح ، ومنهم من يطالب بإحلال العامي الدارج محل الفصيح في تلقين المعارف للناشئة المتعلمة ، وما أولئك إلا المستلبون ثقافيا وهوياتيا إن صح هذا التعبير .

ولا بد من تحبيب تعلم اللسان العربي لناشئتنا المتعلمة باعتبار ذلك ضرورة دينية قبل أن يكون وسيلة لتعلم المعارف ، لأن أول ما يجب معرفته من المعارف هو كلام الله عز وجل المتضمن للحقائق الثابتة، والتي تسعى كل المعارف الأخرى لإدراكها .

وعلى من أوكل إليهم شأن منابر الجمعة أن يخصصوا  عددا من خطبهم للتعريف بأهمية وضرورة معرفة وتعلم اللسان العربي دينيا ، وعلى الوزارة الوصية على الشأن الديني أن تحثهم على ذلك ، وتلزمهم بإجادة التعبير بالفصحى في خطبهم ووعظهم وإرشادهم  ، مع تنكب اللجوء إلى العامية لتعويد الناس على سماع الفصحى  وإكسابهم الأذن المتذوقة لها ، و ذلك لإدراك معاني كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه المطلوب لتحقيق هدف زيادة الإيمان كما أمر بذلك ربنا سبحانه وتعالى  .

اللهم علّمنا ما جهلنا من لسان ذكرك الحكيم ، واجعلنا ممن تزيدهم تلاوته أو سماع تلاوته إيمانا يزداد باستمرار عن طريق العمل بما جاء فيه من هديك ، والثبات على ذلك حتى نلقاك وأنت راض عنا .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1011