( وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسّكم الضر فإليه تجأرون )

من المعلوم أن الناس منذ بدء الخليقة هم : إما مؤمنون برهم مقرون له بالوحدانية والألوهية والربوبية، لا يشركون به شيئا ، ويقرون له بالنعم التي أنعم بها عليهم ، ويستعينون بها على طاعته ، أو كافرون به لا يقرون له بوحدانية ولا بألوهية ، ولا بربوبية ، بل منهم من يجعلون له أندادا يتخذونهم أربابا من دونه ، ويجحدون نعمه ، ويستعملونها في معصيته .

وهذا الاختلاف العقدي بين هؤلاء وهؤلاء، ينعكس على طرق وأساليب خوضهم غمار هذه الحياة الدنيا التي جعلها الله تعالى دار ابتلاء يعقبه حساب وجزاء في حياة أخرى ، فأما المؤمنون، فيخوضون غمار الحياة الدنيا بقناعة أو باعتقاد مفاده أنهم سيرحلون عنها إلى الآخرة لا يخامرهم في ذلك شك أو ريب أو تردد ، وهذا يجعلهم يختارون خوضها وفق ما أمرهم به خالقهم سبحانه وتعالى ، وأما الكافرون، فإن خوضهم لها يسقط منه اعتبار الانتقال منها إلى الآخرة ، ولهذا يعرضون فيه عما أمر به الخالق سبحانه وتعالى ، ويتبعون في ذلك ما تمليه عليهم أهواءهم .

والله عز وجل في كتابه الكريم يخاطب المؤمنين والكافرين على حد سواء ، وقد يوجه إليهم الخطاب جميعا ، وقد يخص كل فريق منهم بخطاب خاص بهم . ومما خاطب به الله تعالى الجميع قوله عز من قائل : (( وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون )) ، ففي هذه الآية الكريمة تذكير للمؤمنين والكافرين على حد سواء بأن الإنعام إنما هو من عند الله عز وجل بحيث لا وجود لنعمة من النعم يمكنها أن تخرج عن إنعامه ، فهو خالق كل شيء ، وهو خالق الأسباب التي بها تحصل النعم .

ويختلف تصور المؤمنين عن تصور الكافرين بخصوص تلك النعم وأسباب الحصول عليها ، فالمؤمنون يعتقدون أن وراء تلك الأسباب مسببا هو الله عز وجل ، ويعترف الكافرون بالأسباب، لكنهم ينكرون ويجحدون المسبب ، ويجعلون الطبيعة مكانه مع أنها مخلوقة ، وموضوعة فيها الأسباب من طرف المسبب سبحانه وتعالى . والكافرون حين يعتمدون أسباب تحصيل النعم يظنون بأنفسهم أنهم أكثر من مجرد مستعملين لها أو متصرفين فيها وقد وجدت وفق ضوابط من وضع الخالق سبحانه وتعالى ، وهي التي لا يد لهم فيها ، ويرون أنفسهم وهم يتصرفون فيها سادة هذا الكون وكأنهم هم من وضعوها ووضعوا ضوابطها .

وأما المؤمنون، فهم بإيمانهم يعتقدون اعتقادا جازما أن وراء الأسباب الموصلة إلى النعم مسببا هو الخالق سبحانه وتعالى ، وأنهم مجرد مستعملين أو مستخدمين لها كما وجدت وضعت ، ومن ثم يعتبرون كل النعم المحصلة بها إنما هي من عند الله عز وجل .

وحين نقارن بين المؤمنين والكافرين بخصوص اختلافهم في مسبب أسباب النعم ، نجد المؤمنين أسلم منطقا من الكافرين ، وأقوى حجة خصوصا وأن الله تعالى كشف في كتابه الكريم بأدلة قاطعة أنه هو المسبب حين يذكّر الإنسان بكل الأسباب الكامنة وراء خلقه الذي هو أكبر نعمة أنعم بها عليه ، وذلك عبر مراحل فصلها تفصيلا ، ولا يمكن أن ينكر الإنسان تلك الأسباب وتسلسلها وترتيبها ، ومنطقها ، ولا يمكنه أن يجد لها أسبابا بديلة ، فهو رغم أنفه إن كان كافرا تبدأ نشأته بمني يمنى ثم يتطور خلقه كما ذكر الله تعالى عبر مراحل لا يمكن أن ينكرها حتى يصير إنسانا سويا ، وعليه إن أنكر ذلك أن يأتي ببديل عما ذكره الله تعالى . وما ينطبق على خلقه ينطبق على كل المخلوقات المحيطة به والمسخرة له وبنفس المنطق . أليس الله تعالى قد تحدى الإنسان أن يخلق منيّا يمنى أو ينزل ماء من السماء أو ينبت نباتا في الأرض أو يخلق نارا ...؟ إن الله تعالى قد جعل لهذه الأمور التي تحدى الإنسان أن يخلقها أسباب هو مالك زمامها ، وهو المنعم بها ، وليس للإنسان يد فيها بل هو يخضع لها ، ولو تعطلت ما أمكنه أن يحصّل شيئا مما يدركه بها ، لهذا ينبه الله تعالى الإنسان إلى ما قد يحدث إذا ما تعطلت تلك الأسباب من قبيل غور الماء على سبيل المثال لا الحصر .

ولا يسع الإنسان إن كان سوي الفطر سوي العقل إلا التسليم بأن مسبب الأسباب هو الله عز وجل كما جاء ذلك في كتابه الكريم بحجة دامغة ، ومن ثم هو المنعم بكل النعم ، فهي من عنده بأسبابها ونتائجها . ومن ينكر المسبب والمنعم سبحانه وتعالى، فهو منحرف الفطرة ،أسير الهوى، ومعطل عقله .

وإذا كان الغالب على الإنسان ألا يبالي بالنعم مع أنه يتنعم بها ، ويبدو له ذلك أمرا عاديا ، فإنه حين يحرم منها، يعرف لا محالة قدرها وقيمتها ، وهو ما جاء في الآية الكريمة في قوله تعالى : (( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون )) ، وكفى بزوال النعم ضرا . ولقد عبر الله تعالى عن حلول الضر بالإنسان بالمس الذي هو حركة خفيف ، لأنه سبحانه وتعالى لا يرسل الضر كله بل بعضه فقط ،لأن طبيعة الإنسان الجزوع الهلوع لا تطيق كل الضر ولا تستطيع عليه صبرا ، وهو الذي إذا ما مسه شيء منه، لا يصبر بل يجزع ويجأر إلى من بيده الضر ، والجؤار هو رفع الصوت أو الصراخ بالتضرع إلى الخالق سبحانه وتعالى لكشف الضر .

وإذا شئنا أن نمثل لحال الإنسان الذي لا يبالي بالنعم ، وفي المقابل يجأر إلى الله تعالى إذا ما مسه الضر ، نذكر نعمة المطر أو الغيث ،فعند وفرته لا يلتفت إليه الإنسان ، ويرى نزوله في أوانه أمرا عاديا وطبيعيا ، ولا يشكره باعتباره نعمة جعل لها الخالق سبحانه وتعالى أسبابا ، ولا يستعين بها على طاعته بل يوظفها لمعصيته ، فإذا ما انحبس المطر، ولم يأت في أوانه، انتبه الإنسان إلى قيمته كنعمة مفقودة ، فإن كان مؤمنا جأر إلى ربه يسترضيه ، ويستغفره كي يرسله بعد انحباسه ، وقد هيأ له نعمة طلبه بصلاة استسقاء يصليها ويكون فيها جؤار ، أما إن كان كافرا، فهو يشكو، ويتذمر ويسخط ، مع أنه لا حل عنده لإرسال القطر المنحبس والممتنع أو المتأخر عن أوانه دون أن يتعظ ، ويدرك أنه لا حول له ولا قوة ، وأن المسبب هو الله تعالى، وليست الطبيعة كما يظن ، والتي هي تأتمر بأمره جل وعلا ، وتترقب منه أمره في قوله: ((كن فيكون)).

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين باستحضار نعم الله تعالى عليهم باستمرار وعلى الدوام ومعرفة قيمتها وقدرها وشكرها ، واستعمالها في طاعة خالقهم سبحانه وتعالى ، تماما كما يجأرون إليه عند قلتها أو زوالها. ولنكون أكثر توضيحا، نقول إننا نعمنا زمنا طويلا بنعمة الرخاء ورخصان أو رخاصة أو رخوصة أسعار ما نستهلكه من مواد معيشتنا ، وقليل منا من كان يقدر هذه النعمة ، في حين أن الكثرة الكاثرة منا ،كانت غافلة عن تقديرها ، وتعتبرها أمرا عاديا حتى حصل ما حصر من غلاء ، وهو من الضر، فانتبه من كانوا غافلين عن نعمة الرخصان ،وجأروا إلى الله تعالى كي يعيد عليهم نعمته كما كانت من قبل ، وقد جعل سبحانه ذلك لتذكيرهم بغفلتهم عن شكر تلك النعمة ، واستعمالها في طاعته ، عوض توظيفها في معصيته .

ولا يفوتنا في هذا الحديث أن نلتفت إلى ما نبهنا إليه الله عز وجل من خلال الزلزال الذي أصاب إخواننا الأتراك والسوريين ، وهو موعظة لنا وللعالمين كي نلتفت إلى نعمة الأمن الذي ننعم به على ظهر هذه البسيطة ، ولا نبالي به ، ولا نعرف أو لا نعترف بقيمته ، ولا نشكره ، وما الزلزال إلا مس من الضر عسى أن نجأر إلى خالقنا بالضراعة إليه، والدعاء ،ونسأله دوام نعمة استقرار الأرض تحت أقدامنا ، وقد عاينا ما حل بغيرنا حين زلزلت الأرض زلزالها .

اللهم إنا نجأر إليك ضارعين، مستغفرين، تائبين أن تكشف عنا كل مس من ضر مهما كان ، وأن تسقينا عاجلا غيثا نافعا ، وأن ترفع عنا ما حل بنا من غلاء ، وأن تصرف عنا ما ابتليت به غيرنا مما لا طاقة لنا به ، واجعلنا اللهم لك شاكرين نعمك ، غير غافلين عن شكرها ،مستعينين بها على طاعته .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1019