واليوم ... يا أحفاد أصحاب جبل الرماة !

في ساعة الشدة كان النداء الرباني : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) فطاعة الله وتنفيذ أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم هما باب الفوز والفتح المبين ، إذ ذاك تأتي نسائم النصر تثبت المؤمنين في ساحات الوغى : ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) . جند الله هم المنتصرون رغم كثرة الأعداء وما يبدو في أيديهم من عُدد وعتاد ، فهم يقاتلون للحفاظ على دنياهم الزائلة الزائفة ، كانوا يوم ( غزوة أحد ) ثلاثة آلاف مقاتل ، وكان عدد المجاهدين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خيانة المنافق عبدالله بن أبي سلول وانسحابه بثُلث الجيش لايتجاوز سبع مئة مجاهد ــ رضي الله عنهم ــ

وعند أحد أعدَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم العدة ، وأصدر تعليماته لجنده ، حيث جعل على الجبل خمسين راميا تحت إمرة عبد الله بن جبير ، وقال لهم :

( إن رأيتمونا قد انتصرنا فلا تبرحوا، وإن رأيتمونا ُنقتل فلا تنصرونا ).

أي اثبتوا في مكانكم ، لاتغادروا الجبل إن انتصرنا أو خسرنا ، ودارت رحى المعركة ، وانتصر جندُ النبوة وهم قِلَّةٌ على جند الباطل وهم كثرة ، وانهزم العدو ، والمسلمون خلفهم يقتلونهم ويجمعون الغنائم . وهنا كان الابتلاء ، وهنا نسي أصحاب الجبل من الرماة وصية نبيِّهم صلى الله عليه وسلم ، فتركوا أماكنهم، وخالفوا أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يبق غير أميرهم عبد الله بن جبير ـ رضي الله عنه ومعه عدد قليل .

اغتنم قادة المشركين خلو الجبل من الرماة ، فهاجموا مَن بقي عليه ، فكان القتل ، وبدأت الهزيمة ، ولكن الثبات على الحق لم ينهزم من قلوب أصحاب الموقعة المؤلمة ، كان المشركون في أوج غرورهم ، وحاولوا الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه ، ولكن الرجال الأبرار صمدوا وهم يدافعون عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأجسادهم وأرواحهم، وضحوا بأنفسهم أمام نصرة دين الله سبحانه وتعالى . وهذا الصمود والثبات زعزع ثقة المشركين بأنفسهم ، ويئسوا من إحراز النصر ، فآثروا السلامة وانكفؤوا إلى دروب تراجعهم وخذلانهم . وأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يشد من عزيمة جنده ، وأن يُرِيَ الكفار بأس الذين آمنوا ، فأمرهم باللحاق بالمشركين ، بعد أن أنزل الله عليهم الأمنة والنعاس ليذهب عنهم الألم والتعب ، ويبث فيهم روح القوة والثبات ، قال الله عز وجل: ( ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ) 154 / آل عمران . وخذل الله المشركين ، وبعث في قلوبهم الرعب فعادوا من حيث أتوا .

وهنا كان الدرس البليغ : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) . أجل * إنه حبُّ الدنيا ، الدنيا بكل مفاتنها وإغراءاتها ...

* وإنه حبُّ هذا الدين العظيم الخالد ...

* وإنه حبُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من أصحابه الأبرار الأطهار ، أصحاب الجبل ومَن حوله ، فحين حاول المشركون الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أولئك الأصحاب رضي الله عنهم أجسادهم سياجا حول نبيِّهم يقيه من رمي النبال : فهذا يصيح : نحري دون نحرك يارسول الله ، وهذا يمسح الدم عن وجهه صلى الله عليه وسلم ، والآخر جلس ليرقى على ظهره رسول الله ليصعد إلى طرف الجبل ، وتلك قُتل زوجها وأخوها وأبوها فلم تبال ، وهُرعت تسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا رأته قالت : (كل مصيبة بعدك جلل يارسول الله )ـ أي هيِّنة لاقيمة لها .

أجل : هاهم روَّاد الآخرة ، وهم يعلمون : معنى قول الله تعالى: ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) 30/ الشورى . ومن أجل ذلك سقط حب الدنيا من حسابات رواد الآخرة ، فقد قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه : ( ما كنت أرى أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد قولُ الله تعالى : ( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) 152 / آل عمران ، فالدنيا تغر الناس ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ) رواه مسلم .

ألا فليعلم أحفاد أصحاب جبل أحد أن النصر والتمكين لهم ــ بإذن الله ــ والسر لمَن لايعلمه عند أبي سفيان رضي الله عنه الذي كان يقود معركة الكفر يوم أحد ، وهو يقول بأعلى صوته : اعلُ هُبل ، وإذا به يوم فتح مكة يردد بأعلى صوته : ( لا إله إلا الله محمَّد رسول الله ) ، والسر كذلك عند وحشي قاتل سيد الشهداء يوم أحد عم المصطفى صلى الله عليه وسلم حمزة رضي الله عنه ، وهو الذي قتل مسليمة الكذاب يوم ادعى النبوة . والسر أيضا خلود هذا الإسلام ، وترجمة هذا الإيمان إلى صور عالية غالية من الفداء والبطولة والإقدام على مرِّ العصور ...

فيا أحفاد أولئك الرجال من أصحاب جبل الرماة ... اثبتوا في مواقعكم ، ولا تهنوا لقوة عدوكم ، ولا تحزنوا على ما أصابكم من قتل وجراح ، ولا تتلاشى عزائمكم من كيد الكائدين ومكر الماكرين ، فالله معكم ولن يتركم أعمالكم .

وسوم: العدد 1021