دُرَرٌ عُظْمَيَات، من سورة الحُجُرات (1، 2، 3)

د. محمد بسام يوسف

دُرَرٌ عُظْمَيَات، من سورة الحُجُرات (1)

الدُّرَّةُ الأولى: نفحاتٌ وإضاءات (إيمانيةٌ وشرعيةٌ وأخلاقيةٌ)

أولاً: سُمِّيَتْ سورة (الحُجُرات) بسورة (الأخلاق).. وهي:

- سورةٌ مدنية.

- نزلت في السنة التاسعة للهجرة.

- تتكوّن من ثماني عشرة آية (18 آية).

ثانياً: تحتوي سورة (الحجرات) على حقائق كبيرةٍ في التشريع والتوجيه، وترفع بناءً ضخماً للأخلاق الإسلامية والعلاقات بين المسلمين، وتؤسِّسُ قواعد راسخةً للإيمان وحقيقته.. ما يجعل أهميتها عظيمةً يفوق حجمها (18 آية فحسب).. ويجعل منها منهجاً متكاملاً ودستوراً ناضجاً لكل مسلم.

أول ما يبرز لنا عند دراسة هذه السورة العظيمة.. أربعة حقائق:

1- إنها ترسم لنا عالماً قائماً خاصّاً، يقوم على قواعد وأصولٍ ثابتةٍ راسخةٍ من التربية والتهذيب والسلوك الإنسانيّ النظيف، الذي يجب أن يسودَ بين البشر، ضمن مجتمعٍ مسلمٍ خالص.

2- إنها تمثّل أنموذجاً ومثالاً حَيّاً، للجهد القرآنيّ الضخم، وللتربية النبوية العظيمة في إنشاء الأمة المسلمة وتربيتها.. وهي الأمة التي أصبحت حقيقةً واقعةً حيةً على الأرض، وأعطت المثل لكل مسلمٍ، أنّ بناء هذا المجتمع المسلم ممكن وحقيقيّ، وليس ضَرباً من الخيال.. وأنّ القرآن الكريم يرسم لنا الخطوط العامة والقواعد والأصول، التي يمكن -عند اتباعها وتَمَثُّلِها- أن يُنتِجَ مجتمعاً مسلماً حقيقياً، يشبه ذلك المجتمع المثاليّ الذي شيّد بُنيانَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأسّس حضارةً فريدةً متميّزةً في الأرض.

3- إنها تؤكّد على حقيقةٍ كبيرةٍ تشغلنا جميعاً -نحن المسلمين- وتشغل كلَّ أبناء الأمة الإسلامية، هي: إنّ الأمة الإسلامية المثالية التي يمكن أن تُبنى حقيقةً واقعةً على الأرض.. كما بُنِيَت في فترةٍ سابقةٍ من التاريخ الإنسانيّ.. هذه الأمة المسلمة لم تنشأ من حالةٍ مُفاجئة، وإنما نمت نموّاً طبيعياً مُتدرِّجاً، بحكمةٍ ودأبٍ وصبرٍ وجُهدٍ حثيثٍ وجهادٍ متواصلٍ.. في التربية والإعداد والرعاية والعناية والتسديد والتصويب.. واحتاجت إلى المعاناة والتجارب الطويلة والابتلاءات الشاقة، وإلى رعاية الله عزّ وجلّ أولاً وأخيراً، في كل مرحلةٍ من مراحل بنائها.. ما أثمر جيلاً فريداً، ودولةً قويةً، وحضارةً متقدّمةً، وأمةً كانت خير أمةٍ أُخرِجَت للناس.

4- إنها تربط ربطاً وثيقاً بين: الإيمان والأخلاق، فالمسلم عندما يؤمن بالله عزّ وجلّ تمام الإيمان، فلابد أن يسعى بشكلٍ حثيثٍ لإرضائه عزّ وجلّ، ما يؤدي به إلى التحلّي بالأخلاق الإسلامية الفاضلة الحميدة التي أرادها سبحانه وتعالى للإنسان.. وارتفاع مستوى تَـمـَــثُّل الأخلاق الفاضلة، سيؤدي بالضرورة إلى ازدياد قوّة الإيمان في النفس الإنسانية المسلمة.. من ذلك نستنتج الحقيقة الكبيرة الآتية:

إنّ أعداء الإسلام حين يَشنّون عليه حروبهم المتنوّعة متعدّدة الأشكال.. يُركِّزون هجماتهم الشرسة على الأخلاق الإسلامية، لِيُخرِجوا المسلمَ، بشتى الوسائل، عن هذه الأخلاق الفاضلة.. لكنّهم في الحقيقة يَهدفون من وراء ذلك، إلى النيل من إيمان الإنسان المسلم.. الذي عندما تتخلخل أخلاقه.. فإنه يتخلخل إيمانه.. فيخرج عن الإسلام وتعاليمه، وعن أهدافه في بناء الأمة القوية الـحُرّة المستقلّة الشامخة.. وهذا هو، في حقيقة الأمر، هدف الأعداء بالضبط، للنيل من المسلمين، وللحيلولة دون بناء الأمة الإسلامية القوية الراقية.

*     *     *

- من أهم المراجع:

(تفسير ابن كثير)، و(في ظلال القرآن)، وكتاب (البيّنات في تفسير سورة الحجرات).

دُرَرٌ عُظْمَيَات، من سورة الحُجُرات (2)

الدُّرَّةُ الثانية: لا تُقَدِّموا بين يَدَيِ اللهِ ورَسولِهِ

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

(الحجرات: 1).

هذه الآية الكريمة تمثل الأصل الأول الذي تقوم عليه حياة المسلم.. هو أنّ التلقي في أمور الحياة ونظامها، لا يكون إلا من الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم.. فالحكم في شؤون حياتنا كلها، هو لله عزّ وجلّ وحده، وإنّ طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.. هي طاعة له سبحانه وحده لا شريك له: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ..) (النساء: من الآية80).

*     *     *

تبدأ (سورة الحُجُرات) بالنداء للمؤمنين، تمهيداً لما سيُلقى عليهم من تكليف، فيقول الله عزّ وجلّ لهم: يا مَن آمنتم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً ونبياً، وبكتابه دستوراً.. يا هؤلاء.. لا تقطعوا أمراً، ولا تقوموا بأي فعلٍ أو عملٍ، ولا تُبدوا رأياً أو قولاً في قضيةٍ من قضايا دينكم وحياتكم وتنظيمها.. إلا بعد أن يحكمَ اللهُ ورسولُهُ بها.. أو يأذن بذلك.. واحذروا مخالفة أمره ونهيه عزّ وجلّ.. فالله يعلم وأنتم لا تعلمون، وهو يسمع أقوالكم، ويعرف أفعالكم ويعلم بها.. فالتزموا مَنهجه وشرعه.. فإن خرقتم هذه القاعدة الإيمانية، فإنكم بذلك ترفعون من منزلتكم إلى مستوى منزلة رب العالمين الحاكم الـمُشَرِّع الآمر الناهي.. أو ترفعون من منزلة مَن تُطيعونهم من البشر.. إلى منزلة الله عزّ وجلّ الواحد الأحد.. وبذلك تقعون في الشرك وتأثمون، لأنكم بذلك، تُشاركون طاعتكم، في التشريع والحكم، البشرَ القاصرين.. تشاركونهم طاعتَكَم اللهَ عزّ وجلّ، وهو المُشرِّغ الواحد الأحد الذي يضع لكم الدستور والشرع الصالح لكم، الذي يؤمّن لكم العدالة والحياة السعيدة، لأنه عزّ وجلّ وحده الذي لا يُخطئ، فهو لايظلم، بينما البشر، في طبيعتهم وجِبِلّتهم، خَطّاؤون (كثيروا الأخطاء)، فهم يظلمون، حتى لو لم يريدوا ممارسة الظلم!..

إذن.. فالآية الكريمة توضّح لنا مفهوم العبودية لله عزّ وجلّ وحده لا شريك له، وضرورة الإذعان لمنهجه وشرعه في نواحي الحياة كلها.. وفي ذلك قال الله سبحانه وتعالى في مُحكَم التنزيل:

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65).

هكذا إذن: تسليم مطلق لله عزّ وجلّ ولـِـحُكمه ومَنهجه ودينه وشرعه.. ومن غير أي حرجٍ نفسيّ!.. ويتأكد لنا ذلك في قوله عزّ وجلّ أيضاً:

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36).

وكذلك في قوله عزّ وجلّ:

(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران 32). هكذا: لا يحب الكافرين، أي لايحب الذين لايطيعون اللهَ ورسولَه وشرعَه ومنهجَ الإسلام الذي ينظم حياة الناس كلها، بكل جوانبها.

لنتدبّر في نتائج (عدم) الالتزام بمنهج الله عزّ وجلّ

يمكن أن نجمل نتائج عدم الالتزام هذا.. بما يأتي:

التناحر، والتنازع، والاختلاف، والضلال، والوقوع في الشرك، والخضوع للأحكام الوضعية الجاهلية التي يضعها البشر.. (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50).

لنتدبّر في الدروس والعظات المستوحاة من الآية الكريمة

1- وجوب الطاعة المطلقة لله ورسوله، ووجوب الالتزام بمنهج الله عزّ وجلّ وشرعه، وحده لا شريك له.

2- الالتزام بمنهج الله عزّ وجلّ من علامات صِحّة الإيمان أولاً.. ومن علامات تقوى الله عزّ وجلّ ثانياً.

3- التطاول على دين الله عزّ وجلّ وشرعه ومَنهجه.. برفع منزلة البشر والطواغيت والطغاة إلى منزلة الله سبحانه وتعالى، وذلك حين الاعتراف بشرائعهم، أو حين وضع التشريعات والمناهج للناس، والادّعاء بأنها أحكم أو أعدل من منهج الله عزّ وجلّ وشرعه.. هذا التطاول، إنما هو شرك بالله جلّ وعلا.

كيف امتثل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة؟!..

فور نزول هذه الآية الكريمة، ما عاد أحد منهم يُدلي برأيه في حكمٍ أو أمرٍ قبل أن يرجعَ إلى حُكم الله ورسوله، وهذه بعض الأمثلة:

1- [روى أحمد وأبو داود والترمذي.. عن معاذٍ رضي الله عنه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن: بمَ تحكم؟.. قال: بكتاب الله سبحانه وتعالى.. قال: فإن لم تجد؟.. قال: بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال: فإن لم تجد؟.. قال: أجتهد رأيي ولا آلو (لا أقصّر).. فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم].

2- (عن أبي بكرة الثقفي، أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل في حجة الوداع: أي شهرٍ هذا؟.. قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال: أليس ذا الحجة؟.. قلنا: بلى، قال: أي بلدٍ هذا؟.. قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال: أليس البلدةَ الحرام؟.. قلنا: بلى، قال: فأي يومٍ هذا؟.. قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت.. فقال: أليس يومَ النحر؟.. قلنا: بلى)!..

هكذا إذن.. فقد كان الصحابة رِضوان الله عليهم يتحرّجون من الإجابة، على الرغم من معرفتها!.. لاحظوا قولهم: (الله ورسوله أعلم)، وذلك خشيةً من أن يكونَ قولهم تقدّماً بين يدي الله ورسوله!..

3- (قَدِمَ "عَديُّ بنُ حاتم" على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وكان عَديّ نصرانيّاً قبل إسلامه، فسمعه (أي سمع رسولَ الله) يقرأُ هذه الآيةَ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة 31)، قال: فقلتُ له: إنَّا لسنا نعبدُهم، قال: أليسَ يُحرِّمونَ ما أحلَّ اللهُ فتحرِّمونَه، ويُحِلُّونَ ما حرَّمَ اللهُ فتحلُّونَه، قال: قلتُ: بلى، قال: فتلك عبادتُهم). (ابن تيمية).

ومثل ذلك من الأمثلة..

- إذن: امتثال الصحابة رضوان الله عليهم، كان التزاماً كاملاً بمنهج الله عزّ وجلّ.. مع أدبٍ جمٍّ تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو ناقل الشرع والمنهج الذي يُنظِّم حياة الناس، عن الله سبحانه وتعالى.

*     *     *

- من أهم المراجع:

(تفسير ابن كثير)، و(في ظلال القرآن)، وكتاب (البيّنات في تفسير سورة الحجرات).

دُرَرٌ عُظْمَيَات، من سورة الحُجُرات (3)

الدُّرَّةُ الثالثة: الأدبُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم

- بعد الآية الكريمة الأولى التي تحدّثت عن الأصل العام الذي يضبط حياة المجتمع المسلم (في التلقي عن الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم).. جاءت الآيات الكريمة التالية لها، تتحدّث عن: الآداب الواجبة على الأمة تجاه نبيّها صلى الله عليه وسلم، الذي يتلّقون عنه منهجهم ودينهم:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الحجرات 2).. أي:

- يا أيها الذين آمنوا: إذا كلّمتم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فالتزموا الأدب الكامل، واخفضوا أصواتكم ولا ترفعوها فوق صوته، وحين مخاطبته لا تجهروا بالقول كما يجهر بعضكم لبعض، ولا تخاطبوه باسمه وكنيته، بل خاطبوه بما هو أهل له، وبما يميّز مقامه عن مقامكم.. لأنكم إن فعلتم، أي إن خاطبتموه باسمه وكنيته ورفعتم أصواتكم فوق صوته.. فقد يسوقكم ذلك إلى الاستخفاف بمن يبلّغكم رسالة الله عزّ وجلّ، وبالتالي إلى الاستخفاف بالرسالة ذاتها، وهذا قد يؤدي إلى بطلان ثواب أعمالكم وضياعها دون أن تدروا أو تشعروا بهذا المنزلق الخطير، الذي قد يوصلكم إلى الكفر المحبِط للعمل.. إنه تحذيرٌ وتخويفٌ للمؤمنين من اتباع ذلك السلوك.

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (الحجرات 3).

- أما الذين يغضّون أصواتهم ويخفضونها في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد هيأ الله قلوبهم لتلقي الهبة العظيمة والجائزة الكبيرة منه عزّ وجلّ، وهي هبة التقوى، التي ستؤدي في النتيجة إلى الخوف منه سبحانه، وإلى الإنابة إليه، ثم إلى استحقاق مغفرته جلّ وعلا واستحقاق أجره العظيم الذي يؤدي إلى الجنة.. إنه ترغيبٌ عميقٌ بعد تحذيرٌ مخيف!..

(إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الحجرات 4 و5).

- ثم أشارت الآيات الكريمة إلى حادثٍ وقع مع وفد بني تميم (في عام الوفود)، حين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أعراباً جُفاةً، فنادوا من وراء حجرات النبيّ عليه الصلاة والسلام، المطلّة على المسجد النبويّ الشريف: يا محمد!.. اخرج إلينا!.. فَكَرِهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذه الجفوة وهذا الإزعاج: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ).. لأنهم لم يبلغوا في صفاتهم العقلية ما يدلّهم على كيفية التعامل مع الذي يُبلّغ رسالةَ الله عزّ وجلّ، ولم يتّبعوا أدب العاقلين الناضجين في التعامل مع الناس.

لقد كان الأجدر بهم أن ينتظروا ويصبروا حتى تخرجَ إليهم، فذلك أفضل لهم عند الله وعند الناس، لما فيه من مراعاةٍ للأدب في مقام النبوّة.. ولكن الله عزّ وجلّ يقول بعد ذلك: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وهو ترغيب بالتوبة والإنابة (الرجوع) إليه، والعودة إلى الأصول في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الترغيب في الرحمة والمغفرة، إذ اقتصر قول الله عزّ وجلّ على تحذيرهم وتقريعهم، ولم ينزل العقاب عليهم.. مراعاةً لطبيعتهم التي توصَف بالجفاء.

كيف امتثل المؤمنون من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الآيات؟!..

- منهم مَن أقسم ألا يُكلّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلا سرّاً (أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه).. ومنهم من حرص على خفض صوته حتى يستفهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ومنهم مَن بقي خائفاً وَجِلاً من أن يَحبَطَ عملُهُ لأن صوته جهورياً حاداً (ثابت بن قيس).. ومنهم.. ومنهم.

- في صلح الحديبية، يقول مفاوض قريش (عروة بن مسعود الثقفي): (والله ما تنخّم رسول الله نخامةً إلا وقعت في كفِّ رجلٍ منهم (يقصد الصحابة).. ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه.. وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه (أي على الماء الناتج عن الوضوء).. وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده..).. (والله لقد وفدتُ على قيصر في مُلكه.. وعلى كسرى في مُلكه.. وعلى النجاشيّ في مُلكه.. والله ما رأيت مَلِكاً قطّ، يُعظِّمُهُ أصحابه مثل ما يُعظِّمُ أصحابُ محمدٍ محمداً)!..

فلنتأمّل، ولنتدبّر، وليكن الصحابة رضوان الله عليهم قدوتنا!..

لنتدبّر في الدروس والعظات المستوحاة من الآيات الكريمة

1- وجوب الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حياته وحضرته.. وبعد مماته، وذلك مع سنّته وأحاديثه وسيرته.

2- الصغائر قد تجرّ إلى الكبائر، والإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر التي قد تؤدي إلى الكفر المحبِط للعمل.

3- إنّ مما يُرتَكَب من الذنوب.. ما يذهب بثواب الأعمال، من غير أن يدري المخطئ أحياناً أبعاد عمله المسيء الذي يرتكبه!.. لذلك علينا مراقبة أعمالنا وأقوالنا جيداً، كي لا نقع بالخطأ والذنب الذي يُودي بصالحات أعمالنا (وتحسبونَه هيّناً وهو عندَ اللهِ عظيم)!..

4- إنّ الأدب يدل على التمتع بالعقل، فمن كان مؤدّباً فهو عاقل، ومن جُرِحَ أدبه فهو ناقص العقل.

5- الأدب والتأدّب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. يقتضي التأدّب مع العلماء المؤمنين المخلصين، الذين يعملون لإقامة شرع الله، وللدفاع عن حُرُماتِه.. فإنهم ورثة الأنبياء.. وكذلك التأدّب مع كل ذي شأنٍ من أصحاب العلم والفكر، الذين يرومون رِفعةَ هذه الأمة الإسلامية، ويعملون للدفاع عنها وعن دينهم، ويجتهدون في دفع الخبث والشبهات عنها، وفي تعرية أعدائها والدخلاء عليها وعلى مَنهجها الإسلاميّ القويم.

*     *     *

- من أهم المراجع:

(تفسير ابن كثير)، و(في ظلال القرآن)، وكتاب (البيّنات في تفسير سورة الحجرات).

وسوم: العدد 1026