( ذلك بأن الله هو الحق وأن ما تدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير )

كثيرة هي الآيات الكريمة في الذكر الحكيم التي يمتن فيها الله عز وجل على خلقه بسابغ نعمه  ظاهرة وباطنة ، وفي نفس الوقت ينفي عقبها مباشرة أن يكون له شركاء فيما خلق وفيما أنعم . ومن تلك الآيات قوله تعالى : (( ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما تدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير )) ، ففي هذا النص القرآني نجد أنه سبحانه وتعالى امتن على عموم الخلق مؤمنهم وكافرهم بنعمه وأفضاله التي لا تعد ولا تحصى، والتي منها  إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل ، وهما آيتان  تتوقفان على تسخير الشمس والقمر بجريانهما إلى أجل مسمى . وفي تكرار ذكر هذا الإيلاج بين الليل والنهار في هذه الآية الكريمة  تأكيد على أن الخالق  هو وحده الفاعل لذلك ، وهو ما يقطع كل شك في أن غيره  يشاركه في فعله الذي هو   تسخير الشمس والقمر  اللذين بجريانهما يستفيد الخلق من نعمة السكون بالليل ، ومن نهار السعي وابتغاء فضل الله تعالى بالنهار، وما تستقيم حياتهم إلا بذلك.  

 وبعد امتنانه سبحانه وتعالى بهاتين النعمتين الكبيرتين اللتين تترتب عنهما نعم كثيرة أخرى  تكتمل الظروف المواتية لخوض غمار الحياة الدنيا خوضا قد قدره الله تعالى تقديرا، يسوق مباشرة إفحام من ينسبون الإنعام لغيره تعالى عما يصفون علوا كبيرا، ذلك أن أمر إيلاج كل من الليل والنهار في بعضهما  إنما يتولاه سبحانه وتعالى وحده دون شريك على وجه الحقيقة ، ولذلك قال جل في علاه : (( ذلك بأن الله هو الحق وأن ما تدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير )) . وواضح من هذه الآية الكريمة  أن ما ينسبه منكرو نعمه سبحانه وتعالى لغيره ممن يتخذونهم شركاء إن هوإلا محض باطل تعالى الله عنه علوا كبيرا . وإذا ما كان سبب نزول هذه الآية الكريمة هو الرد على المشركين زمن الرسالة  ، فإن ما يترتب عن عموم لفظها يلزم جميع الخلق إلى قيام الساعة ، ذلك أن كل من ينسب نعمة من نعم الله تعالى لغيره من خلقه،  يكون على الباطل مهما كان شكل أو أسلوب شركه  .

وإذا كان المشركون زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعلوا حول بيته الحرام أصناما يجعلونها شركاء لله تعالى ، فإن غيرهم في كل العصور ينهجون نهجهم في الشرك  وإن اختلفت بأساليب شركهم باختلاف العصور والبيئات . ومن أنواع الشرك عندما سبق من الخلق ، ولا زال موجودا إلى يومنا هذا أن يعزى للطبيعة وهي مسخرة من طرف الخالق سبحانه وتعالى من الأفعال ما هو خاص بألوهيته وربوبيته . ولا زال كثير من الناس في عصرنا هذا ممن يدعون العلم والمعرفة  يكابرون بنسبة ما يحدث في الطبيعة إليها متجاهلين خالقها ومدبر أمرها الذي لا يغفل عنها طرفة عين ولا أقل من ذلك ، وهو المسبب خالق كل الأسباب . ومن مكابرة  هؤلاء أنهم يقرون بمبدإ  السببية حين يتعلق الأمر بغير الله تعالى ، فإذا تعلق الأمر به سبحانه وتعالى كمسبب أنكروا هذا المبدأ علوا واستكبارا ، وكفى بهذا باطلا صارخا معبرا عن عنادهم ومكابرتهم ،وعن تناقضهم وهم الذين  يباهون برجاحة عقولهم التي  يشغلونها عندما يتعلق الأمر بكل المسببات  على اختلاف أنواعها ، بينما يعطلونها عندما يتعلق الأمر بالخالق المسبب لكل الأسباب سبحانه وتعالى .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين إلى خطر الوقوع في باطل نسبة  الأسباب لغير مسببها سبحانه  وتعالى ، وذلك يقع من بعضهم عن جهل أو غفلة أو تقليد أعمى كما الشأن على سبيل  بالنسبة لمن يدعون من بالأضرحة من أموات ، ويطلبون منهم ما  لا  يطلب إلا من الله عز وجل .

ومما يوقع في هذا النوع من  الشرك  كثرة انتشار مثل هذه الأضرحة على نطاق واسع حتى صار وجودها  في كل شبر من الأرض ، والتي يزكى من هم ثاوون فيها ،علما بأنه لا أحد من الخلق يمكن أن يزكى على الله عز وجل، وإن ظن به الخير، لأن سر تزكيته علمه عند خالقه سبحانه ، وهو وحده من  يزكي من يشاء من عباده  .

ولا تقتصر تزكية كثير من الناس على بعض الأموات جهلا أو غفلة أو تقليدا   الذين ينسبون لهم ما لا ينبغي لهم مما يختص به الخالق سبحانه وتعالى وحده دون شركاء  بل قد يزكى أيضا بعض الأحياء فيقصدون طلبا للحاجات التي  لا تطلب إلا من الخالق جل في علاه ، و بذلك يقعون في الشرك وهم لا يشعرون .

ومن المؤسف أن يظن من يقصدون من هؤلاء بأنفسهم ما يتوهمه  فيهم طالبو تلك الحاجات ، وهم بذلك يكرسون  شيوع الأوهام ، ويصرفون الناس عن التوجه إلى خالقهم دون غيره من الشركاء  ممن لا يملكون لهم  صرف الضر عنهم ولا جلب النفع  لهم .وكم من هؤلاء من تشد إليهم الرحال ،وتشيع عنهم  من الأخبار ما هو من باطل الشرك بالله تعالى .  

وكل من ينطلق من تزكية أي مخلوق مهما كان من غير الذين زكاهم الله تعالى من صفوة خلقه في محكم تنزيله ، ويرجو منهم بناء على تزكيته المتوهمة  ما لا يرجى إلا من الله تعالى فإنه على باطل كما جاء في قوله تعالى : (( وأن ما تدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير )).

وما أكثر من يعتقدون بهذا الباطل في هذا الزمان ممن يزكون أمواتا أوأحياء من الخلق، ويلتمسون عندهم المطالب والحاجات ،مع أنهم لا يملكون من ذلك شيئا إن هم إلا يتوهمون .

اللهم إنا نعوذ بك من كل شرك ما ظهر منه وما بطن ، ونعوذ بك أن نلجأ إلى أحد من خلقه مهما كان  رغبة  فيما لا يعطيه سواك ، تعاليت ربنا عن كل ند  وشريك . اللهم إنا نسألك الرحمة لكل من نظن به خيرا من خلقك أمواتا وأحياء  دون أن نزكيهم عليك ، ودون أن نسألهم  شيئا مما لا نطلبه إلا منك يا ربنا وخالقنا العلي الكبير .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1030