(إياك نعبد وإياك نستعين)

(إياك نعبد وإياك نستعين)

شريف قاسم

[email protected]

تعيش الأمة اليوم أحداثا جِساما ، وتعاني من نوازل و مصائب مالا عين رأت مثلها ــ من قبل ــ ولا أُذُن سمعت . فلا القلوب مطمئنة ، ولا المشاعر هادئة هانئة ، وأبناء الأمة يستغيثون اللهَ ، ويسألونه الفرج . ولكن المتأمل في أحوالهم يرى العجب ، ثم تأخذه الحيرة ، فيضطر للبحث عن العلة ، والوقوف على الأسباب ، والنظر إلى المخرج . وهذا المتأمل في حال الأمة يرى ملايين المسلمين يؤدون الصلوات يوميا في الليل والنهار ، جماعة أو فرادى ، في السفر وفي الحضر ، وفي حال الصحة وفي حال المرض ، وهذه الملايين تردد في اليوم والليلة : (إياك نعبد وإياك نستعين ) سبع عشرة مرة على أقل تقدير  ، إياك نعبد ، فمَن يقصدون ومَن يريدون ومَن يناجون ؟ وإياك نستعين ، ومَن هذا الذي يستعينون به على الشِّدَّات والمشقات ؟

إنَّ القلب ليتفطر ألما وحسرة إذا ماسمع الجواب ، وإن العيون لتدمع ، بل تبكي دما بدل الدموع . حيث تقف الأمة أمام ربها في الصلوات المفروضات وهي تردد : ( إياك نعبد ) ، حيث تقر ألسنة أبنائها بأن العبودية لله وحده وتعترف بذلك : ( وإياك نستعين ) ، إنه سياق جميل أن تلتزم الأمة بتقديم الطاعات لربها ، ثم تسأله الاستعانة على مافي الحياة من مشقات وأهوال ورزايا . ولكنْ ... يستدرك المتأمل في حال الأمة الحقيقة المرَّة التي تعيشها ، حين يعلم هشاشة الأخذ بالعبودية الحقة في نفوس أبنائها ، وحين يعلم أن القلوب خاوية من قيم الانقياد لله رب العالمين  . فيردد وهو مطأطئ الرأس ، حزين القلب ، كسير النفس : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) . وتشرق بين عينيه مرة أخرى السبعُ المثاني ، متلألئة بأنوارها وأسرارها ... إنها فاتحة الكتاب المبين ... الله أكبر ... ما أعظم َهذه السورة ، وما أجلَّ أسرارها ومعانيها ومنطلقاتها ، فهي كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( هي السبع المثاني والقرآن العظيم  الذي أُوتيتُه ) رواه البخاري وأحمد ،  فالرب الخالق المدبر هو الله ، هو رب العالمين ، وهو الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ... هو يوم يدين الله العباد بأعمالهم ، فيجازيهم بها ، كما قال قتادة  ، ولا يظلم ربك أحدا ، وقُدمت العبادة على الاستعانة لكون الأولى وسيلة إلى الثانية كما قال العلماء ، ونأتي إلى : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، والصراط المستقيم هو الإسلام  بشرائعه وأحكامه ، وسُمُوه وما فيه من رحمة وسكينة ، وقوة وعزة ... إنَّه الإسلام الذي غيَّر حياة عبدة الأوثان إلى أمة دانت لها الدنيا وما فيها من شعوب وأمم ، إنه الإسلام الذي حمله الهُداة رحمة وخيرا إلى الخلق أجمعين ، إنه الإسلام الذي رفرفت راياته بأيدي أبنائه المجاهدين ، ففتح الله بهم للخلق أبواب  الرحمة وأسباب الخروج من الجاهليات والضلالات ، ومن جور الباطل وظلم الطغاة إلى مافي هذه الشريعة المحمدية  من الحق والخير والعدل والإخاء . أجل إنه الصراط المستقيم الذي كان عليه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأصحاب مُحَمَّدٍ  رضي الله عنهم أجمعين ، وصلى وسلم على نبيِّهم سيِّد الناس أجمعين ، الذي اجتباه ربُّه واصطفاه ، وأنطقه بالهدى للمستبصرين ، وأنار بسُنّته حياة الأمة ودنياها ، فلا يعروها ضلال ولا يطمسها ظلام ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبٍ ، أنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ قَالَ : ( أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلا إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ ، أَلا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلالٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ، أَلا لا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ ، وَلا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ ، وَلا لُقْطَةٌ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ ، إِلا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا ) . وفي حديث آخر  عن  المِقْدَامَ بْنَ مَعْدِي كَرِبٍ قال : قال  : حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ أَشْيَاءَ يَوْمَ خَيْبَرَ ثُمَّ قَالَ : ( يُوشِكُ رَجُلٌ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ مثل مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ) . واللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) 7/ سورة الحشر  .

فلا يُعذرُ مَن عصى الله سبحانه وتعالى ، مهما كان موقع هذا العاصي في الأمة ، ومهما كانت معصيته ،  وخصوصا أولئك الذين حاربوا شريعة الله ، وعطَّلوا العمل بأحكامها ، وانقلبوا إلى مناهج الضلال يأتون بها من أقاصي الأرض ليُخرجوا أبناء الأمة من حمى عقيدتهم ، إنَّ المكذبين للإسلام والمستكبرين على أحكامه ، وأهل الريبة والنفاق لاشك أنهم هم أهل البوار والخسران في الدنيا والآخرة . وهؤلاء هم الذين لايعبدون الله ولا يسألونه ، وهؤلاء هم معاول الهدم  لعزة الأمة وكرامتها ، فقد ذهب الله بنورهم لأنهم أدبروا عن الصراط المستقيم ، فأملقت نفوسهم وتشعبت آراؤُهم واستبدلوا صبغة الله النقية بزخرف أهل الباطل ، فاستحقوا أن يمحق الله مايملكون  من قوة أو متاع أو أفكار ، وفي المعجم : ( المَحْق: النقصان وذهاب البركة. مَحَقَهُ يَمْحَقَهُ مَحْقاً، أي أبطله ومحاه ) . فلا خير فيهم ولا في خطاهم حيثما اتجهوا ،  فقد استهانوا بحدود الله فضيعوها ، وأسقطوا من حياتهم قيم العبودية لله رب العالمين . فحرموا أنفسهم منزلة التَّدبر لكتاب الله العظيم ، وسُنَّة نبيِّه الحبيب صلى الله عليه وسلم ، لأن التَّدبُّر هو مفتاح العمل ، وهو إشراقة الوعي الذي يمنع الغفلة أن تأخذ القلبَ إلى سراب الحياة الزاهي وهو كذوب ، وينير سبل السَّعي إلى مايرضي الله عزَّوجلَّ ، وما سقط هؤلاء السفهاء في مستنقعات الضلال والفساد والإلحاد والهوان إلا لعمىً في قلوبهم  ، وما أعظم ماجاء في الآثار عن بعض السلف وكان يختم القرآن الكريم مرات ومرات ، وحين سُئِل بأي شيء تدعو الله إذا ختمتَ القرآن ؟ فقال : إني إذا ختمت القرآن الكريم أستغفر الله وأسبحه ، لأني إذا ختمته وتذكرت مافيه من الحثِّ على فعل الصالحات خشيت المقتَ ، إن تدبر مافي كتاب الله من الهدى والتشريع كفيل بأن يشعل جذوة التغيير في النفس الإنسانية ، يقول الشاعر الكبير محمد إقبال رحمه الله وهو يحث أبناء الأمة الإسلامية على تدبُّر القرآن العظيم : ( أقول لكم ماأُومن به وأدين ، إنه ليس بكتاب وحسب ، إنه أكثر من ذلك ، إذا دخل في القلب تغيَّر الإنسانُ ، وإذا تغيَّر الإنسان تغيَّر العالَم ، إنه كتاب حيٌّ خالدٌ ناطقٌ ،إنه يحتوي على حدود الشعوب والأمم ، ومصير الإنسانية ) . فالأخذ بما في القرآن اطمئنان للقلوب ، ومسارعة إلى رياض الباقيات الصالحات ، ورغبة ملحة إلى انقياد النفس الإنسانية إلى كل مايرضي بارئها سبحانه وتعالى . وهذا هو الصراط المستقيم الذي مَن لزمه عاش في طاعة الله ، وأما أعداء الله من المرتدين والمنافقين فإنهم يجدون طعم الطعام الطيب الحلو على خلاف ماهو عليه ــ كما يُقال ــ فيرى الحُلو حامضا ، وهؤلاء السفهاء لايرون جلال  الصراط المستقيم الذي هو الإسلام ، ولا يرون عذوبة الهداية الربانية وهي من نعم الله العظمى على الإنسانية ، ولم يُتيحوا الفرصة لألبابهم وقلوبهم أن تعي  وترصد القيم الغالية وتتدبر معانيها وما ترمي إليه ، لأن خانوا طبيعتهم البشرية النقية التي جبلهم الله عليها . وهدموا أركان الأواصر الكريمة التي تؤكد انتماء الإنسان إلى ركن العبودية لله رب العالمين . وإنَّ  النأيَ عن هذا الركن هو انهيار  القيمة الإنسانية في حياة هؤلاء السفهاء ، وهو سقوطهم  في سوء المنقلب ، حيث الحيرة الممضة ، والقلق الذي لايُرى من خلاله إلا غروب السكينة التي أكرم اللهُ بها أولياءَه الصالحين . ولعل الخروج الآمن من هذه الظُّلم والغُمم هو كائن في فتح أبواب العبودية للخالق العظيم ، حيث يشعر العبد بثقل التَّبعة نحو قيمة تلك العبودية شعورا يغشى فؤادَه الذي أمضَّتْهُ الحسرات ، ولا يجد إلا الدخول من جديد إلى أروقة الفضل الإلهي  ، إن السفهاءَ أنفسَهم يعترفون بأن الله هو الخالق ، وهو مالك الملك ، وإن الجاحد منهم لينطق بالحق رغم أنفه إن غُلبَ في دائرة المجادلة ، ووالله إن أحد الملحدين وفي نقاش حول وجود الله تبارك وتعالى ، وقد حوصر من كل جانب ، وقد انفعل ، فأقسم : ( بالله العظيم ) أن الله غير موجود ؟!  فسبحان الله القائل : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ 87/ الزخرف . وجلَّ جلال الله المنزِل في كتابه : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه 25/ لقمان . وسبحان الله مالك الملك وبحمده حيث يقول : ( قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ 84/ المؤمنون . سؤال يحمل إجابته معه رغم المنكرين الجاحدين الذين : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ . قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ 89/ المؤمنون . فلن تصفو الحياة ، ولن تطيب الأيام والليالي إلا بعبادة الله سبحانه وتعالى ، وهانحن نرى ضياع مسيرة البشرية وتخبطها في الضلالات وفي الفساد ، وسيجبرها هذا الضياع للبحث عن طريق النجاة والخلاص ، ولن يكون إلا في دين الله رب العالمين : ( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ 123/ هود . فالعودة إلى الله لابد منها ، وإن الله عزَّوجلَّ لم يحرم الإنسان من متع الدنيا التي أحلها وطيَّبَها للناس ، ولكن على أن لاتصد الإنسانَ عن طريق الآخرة : ( وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ 77 / القصص .

    إن أمتنا تعيش  في محن داجية ، وفي ميدان اختبار ثقيل عاصف بالشدائد والفظائع ، ولا نجاة لها إلا بالعودة إلى منهاج النبوة ، والتَّبرؤ من الاستكبار الفضِّ ، وإلى أحضان العبودية لله ، أنبأنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بحال الأمة اليوم ، فقد جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص  رضي الله عنهما  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) إن أُمَّتكم هذه جُعِلَ عافيتُها في أوَّلها ، وسيصيبُ آخرَها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها ، وتجيء فتنة فيُرقِّقُ بعضُها بعضًا ، وتجيء الفتنةُ فيقولُ المؤمنُ: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنةُ فيقول المؤمنُ هذه هذه (، وهذه الجملة للتعظيم؛ يعني: هذه هي الفتنة الدَّاهية، قال النبي صلى الله عليه وسلم:  (  فمَنْ أحبَّ أن يُزحزح عن النار ويُدخل الجنّة فَلْتأته منيتهُ وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) .

    وهنا نعلم علم اليقين معنى قوله تعالى : (  وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) 87 / الحجر . إنها فاتحة الكتاب التي نكررها في كل ركعة ، يحمل قارئُها الحبَّ لله ، والأملَّ في نيل  رحمته ، والخضوع لعظمته ، والخوف من عقابه يوم الدين ، كاليهود الذين غضب الله عليهم ، وكالنصارى الذين ضلُّوا الطريق المستقيم ، فهل علمنا لماذا لاتقبل الصلاة إلا بفاتحة الكتاب ؟