موسى والرجل الصالح
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الثالثة والثلاثون
موسى والرجل الصالح
   
د.عثمان قدري مكانسي
   
   
   othman47@hotmail.com 
حدّث أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : 
قام
موسى النبي صلى الله عليه وسلم في بني إسرائيل  يعلمهم ويرشدهم – وهذا دأب الدعاة
في كل زمان ومكان ، فمهمتهم الأخذ بيد الناس إلى طريق الهدى ومنهج النور – 
 
فسُئل : أيّ الناس أعلم يا نبي الله ؟. 
وكان عليه السلام يظن أنه أعلم الناس في عصره لأنه كليم الله ورسوله إلى بني
إسرائيل  
فقال : أنا أعلم الناس . 
فعتب الله تعالى عليه إذ لم يردّ العلم إليه سبحانه وكان عليه أن يقول : الله أعلم
، فيكل العلم والمعرفة إلى الله عزّ وجلّ . 
فأوحى إليه سبحانه : أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك .... 
قال
موسى : ربّ ؛ وكيف لي به ؟ وما السبيل إلى لقائه ؟ فقد أحب أن يلتقيه ويتعلم منه . 
قيل
له : احمل سمكة في سلة ، ثم انطلق بحثاً عن هذا الرجل ، واتجهْ إلى المكان المحدد –
بين البحرين – ( عند مصب النهر في البحر ) هناك ستقابله . 
فانطلق موسى عليه السلام ومعه فتاه يوشع بن نون – الذي ورثه في النبوّة والدعوة في
بني إسرائيل – ويوشع الذي فتح القدس – حتى إذا وصلا المكان وفيه صخرة كبيرة مستوية
أحسّا بالتعب ، فوضعا رأسيهما ، وغرقا في نوم عميق . وانسلّ الحوت من المكتل( السلة
) ، واتخذ سبيله في البحر سرباً ( مسلكاً ومنفذاً ) .. حدث هذا الأمر المعجزة وهما
نائمان ، فكان أمراً عجباً  إذ كانت السمكة مشوية . 
انطلقا بعد ذلك سائريْن بقية ليلتهما ويومهما . 
 فلما أصبح الصباح ، وأسفر وجه النهار قال موسى عليه السلام لفتاه : "
 آتنا غداءَنا ، لقد لقينا من سفرنا هذا نصَباً "
( تعباً ) . ولم يجد موسى عليه السلام مسّاً من النّصَب حتى جاوزا المكان الذي أمر
به وأراد الله تعالى أن يلتقي فيه موسى بالرجل الصالح العالم .  
لما
طلب موسى عليه السلام الغداء من فتاه – وكان فتاه قد نظر في السلة فلم يجد الحوت –
فقال له : " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة ! فإني نسيتُ
الحوت " . 
قال
له موسى عليه السلام : فذلك ما كنا نبغيه إذ إننا سنلتقي الرجل الذي وُعدنا به في
المكان الذي نفقد فيه الحوت . هذا الرجل أعلم مني ، وكنت أود أن أتعلم منه ما
يفيدني في الدعوة إلى الله تعالى . هلمّ - يا ولدي - إلى الصخرة فثمّ نراه .... 
"
فارتدّا على آثارهما قصصاً " وعادا أدراجهما إلى
ذلك المكان . فلما وصلا إليها رأيا رجلاً مسجّى ( مغطّى ) بثوبه ، فسلم موسى عليه ،
فقال الرجل – واسمه الخَضِرُ - : وأنّى بأرضك السلام؟!  
قال
له : أنا موسى بن عمران . 
قال
الخضر : موسى بني إسرائيل؟ 
قال
موسى : نعم . وقص عليه سبب شد الرحال إليه ، وطلب إليه أن يسمح له أن يكون تلميذاً
يتعلم منه مما علمه الله تعالى . " هل أتبعك على أن
تعلمَن ِ مما عُلـّمْتَ رُشدا ؟ " . 
قال
الخَضِر : إنك لن تستطيع معي صبراً – يا موسى – إني على علم من علم الله علـّمنيه
لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علـّمك الله إياه لا أعلمه ، فكل منا على علم اختصه
الله به ، لا يعلمه الثاني .إن عِلْمَ الخضر ( لدنّيّ ) وعلم موسى ( شرعي ) .
والفرق بينهما بيّن .  
قال
موسى :  " 
"  وصبْر التلميذ على معلمه مطلب مهم  ، ينبغي أن يتحلّى به المريد كي يستفيد من
علم معلمه .  
عاد
يوشع الفتى إلى قومه ، وانطلق النبيان يمشيان على سـِيف البحر ، ليس لهما سفينة ...
فمرّت بهما سفينة ، فكلّماهم أن يحملوهما ، فعرف أهل السفينة الخضر ، فحملوهما بغير
نَوْلٍ ( أجرة ) ، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة ، فنقر من الماء نقرة أو
نقرتين  وهكذا يشرب العصفور في البحر – ولعل السفينة كانت في بحيرة طبريا يصب فيها
نهر الأردن – وقد تكون بحيرة حلوة غيرها جفـّت على مرّ الأيام ، والله أعلم . ولا
ننسَ أن البحر يطلق على النهر والبحيرة كذلك ، دليله قوله تعالى في سورة الفرقان
الآية الثالثة والخمسين :" وهو الذي مرج البحرين ، هذا
عذب فرات ، وهذا ملح أجاج ..." . فقال الخضر منبهاً موسى عليهما السلام إلى
سعة علم الله تعالى : يا موسى ؛ ما علمي وعلمك وعلم المخلوقات إلى علم الله إلا كما
شربه العصفور من ماء البحر !!  
ثم
عمد الخضر في غفلة من أصحاب السفينة إلى لوح من ألواحها ، فنزعه ، ثم نزلا من
السفينة قبل أن يشعر أصحابها بما فعل الخضر بها .  
قال
موسى عليه السلام  مستنكراً فعلته : قومٌ حملونا بغير نَول عمدتَ إلى سفينتهم ،
فخرقتها لتغرق أهلها ؟! لقد فعلت مفسدة عجيبة لا يستحقونها منك !   
قال
الخضر عليه السلام : " ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً ! 
قال
موسى عليه السلام : قد نسيت فلا تؤاخذني يا أخي الحبيب ، 
 فقبل الخضر عليه السلام عذره ، وانطلقا في طريقهما ، فإذا غلام يلعب مع الغلمان ،
فأخذ الخضر برأسه من أعلاه ، فاقتلع رأسه بيده .  
قال
موسى عليه السلام محتجاً مرة ثانية : أتقتل الفتى دون جريرة ارتكبها؟! وتزهق نفساً
زكية دون سبب ؟ ما هذا المنكر الغريب الذي أتيتَه ؟!  
قال
الخضرعيه السلام مرة ثانية بأسلوب أشد عتباً من الأولى إذ زاد في قوله 
) 
لك ) " ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟! "
 
فشعر موسى عليه السلام أنه – للمرة الثانية – لم يلتزم بوعد قطعه على نفسه أن يسكت
– فقال معتذراً " إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني ، قد
بلغتَ من لدنّي عذراً " . 
قبل
الخضر عليه السلام عذره كرة أخرى،  فانطلقا حتى وصلا قرية كبيرة ، سألا أهلها
طعاماً ، فكانوا بخلاء ، لم يستجيبوا لهما ، ولم يستضيفوهما . فوجدا جدارً مائلاً
يكاد أن ينهدم ، فأومأ الخضر عليه السلام بيده إليه ، فعاد بإذن الله معتدلاً
مستوياً !  
قال
موسى بعدما رأى بخل أهل القرية وإقامة الجدار وأنهما يستحقان أجرة لذلك العمل
الإيجابي : "  لو شئتَ لاتخذْتَ عليه أجراً "
.وكانت هذه هي المرة الثالثة التي يتدخّل فيها موسى عليه السلام  بما لا يَعنيه ،
وقد كان وعد أن يسكت منتظراً الخضر عليه السلام أن يشرح له ، ويوضح ما التبس على
موسى مما يرى حين يجد الوقت ملائماً .  
هنا
آن للخضر أن يفارقه ، فقد صبر عليه ثلاث مرات ، ولا حرج أن يعتذر إليه وينصرف عنه ،
فصرّح له قائلاً " هذا فراق بيني وبينك " ولكنه
قبل أن يفارق موسى قص عليه  ما استغلق  عن الفهم . وهذا ما نجده في سورة الكهف  : 
أما
السفينة فقد خرقها الخضر لأن ملكاً ظالماًً على الطرف الآخر من البحر كان يغتصب
السفن الصالحة ، فيضمها إليه ، وكان أصحاب السفينة فقراء ليس لهم عمل سوى هذه
السفينة ، يصطادون بها ، وينقلون بها البضائع والركاب ، فلما رأى الملك العيب الذي
أحدثه الخضر في السفينة زهد فيها ، وتركها لأصحابها . 
وأما الفتى فسوف يكون – في علم الله حين يصير شابّاً – فاسقاً يُتعب والديه
المؤمنَين ويرهقهما ، فأراد الله سبحانه أن يعوّضهما خيراً منه زكاة ، وأقرب رحماً
، فرزقهما فتاة صالحة كانت بعدُ زوجة لنبي من أنبياء الله سبحانه . 
وأما الجدار الذي أقامه الخضر فقد كان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنز
لهما خبّأه والدهما الصالح لهما حتى يكبرا ، فأراد سبحانه الرؤوف بعباده أن يبلغا
أشدّهما فيستخرجا هذا الكنز – لا يستولي عليه غاصب  وهما صغيران – وهذا من فضل الله
تعالى ورحمته بهما إكراماً لوالدهما ، فالله يحفظ الأبناء بصلاح الآباء . 
 
وقد
أخبرنا الخضر عليه السلام أنه إنما عمل ما عمل بإذن الله ، فهو مأمور . 
قال
النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين المتحلقين حوله يستمعون القصة معتبرين بمواعظها
الجليلة : " يرحم الله موسى ؛ لَودِدْنا لو صبر حتى يقص
علينا من أمرهما ما استغلق " .  
ملاحظة
:  في موقع"  أدباء الشام  ،  قسم حديث الروح"  تأملات تربوية في " قصة موسى والخضر
عليهما السلام  " تحمل معاني تربوية مفيدة ، يمكن الرجوع إليها . 
صحيح البخاري ج1 كتاب العلم 
باب/ ما يُستحب للعالم إذا سُئل أي الناس أعلم؟ فيَكـِل العلم إلى خالقه. 
        
        
![]()