رمضان في عيون الإخوان المسلمين

الإمام الشهيد حسن البنا

حقيقة كنت قبل قليل أطالع خواطر رمضانية للإمام الشهيد حسن البنا، وتحدث أستاذنا ومعلمنا عن الأصول الرئيسية التي تقوم عليها الهداية القرآنية في رمضان، وأحببت أن أطلعكم عليها.

نحمد الله تبارك وتعالى، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

أيها الإخوان.. رمضان شهر شعور وروحانية وتوجه إلى الله، وأنا أحفظ – فيما حفظت – أن السلف الصالح كانوا إذا أقبل رمضان ودع بعضهم بعضاً حتى يلتقوا في صلاة العيد، وكان شعورهم: هذا شهر العبادة وشهر الصيام والقيام، فنريد أن نخلوا فيه لربنا، والحقيقة أيها الإخوان، إني حاولت أن أوجد فرصة نقضي فيها حديث الثلاثاء في رمضان فلم أجد الوقت الملائم، فإذا كنا قد قضينا معظم العام في نظرات في القرآن فأنا أحب أن نقضي رمضان في تطبيق هذه النظرات، خصوصاً وكثير من الإخوان يصلي التراويح، ويطيل فيها فيختم القرآن ختمة واحدة في رمضان، وهي طريقة بديعة، وفيها معنى من معاني الإفاضة، كان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل سنة مرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جواداً سخياً، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يدارسه جبريل القرآن، فإذا به صلى الله عليه وسلم أجود من الريح المرسلة، وظلت هذه المدارسة حتى كان العام الذي اختير فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، فعارضه جبريل القرآن مرتين، وكان هذا إيذاناً للنبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا ختام حياته في الدنيا.

ورمضان أيها الإخوة شهر قرآن، يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربى منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان ) رواه الإمام أحمد والطبراني.

أيها الإخوان:

إن في نفسي فكرة أحب أن أتحدث فيها، ولما كنا على أبواب شهر الصوم فليكن الحديث منثورات وخواطر حول شهر الصيام.

أيها الإخوان:

لقد تحدثنا طويلاً عن عاطفة الحب والتآخي التي ألف الله بها بين قلوبنا، والتي كان من أبرز آثارها هذا الاجتماع على الله، وإذا كنا سنحرم هذا اللقاء أربعة أسابيع أو أكثر فليس معنى هذا أن تخمد العاطفة أو تخبوا أو ننسى أبداً ما كانت تفيض به قلوبنا ومشاعرنا في هذا المجلس الطيب من أسمى معاني العزة والتآخي في الله، بل أنا أعتقد أنها ستظل متمثلة ومشتعلة في نفوسنا حتى نحظى بلقاء كريم بعد هذه الإجازة إن شاء الله، فإذا جاء أحدكم يصلي العشاء في ليلة الأربعاء لي رجاء أن يدعو لإخوانه بالخير، فلا تنسوا هذا، ثم أحب أن تذكروا أننا إذا كانت عاطفتنا ستتعطش إلى هذا اللقاء خلال هذه الأسابيع، فأحب أن تعلموا بأنها ستروى من معين أفضل وأكمل وأعلى، وهو الاتصال بالله تبارك وتعالى، وهو خير ما يتمناه مؤمن لنفسه في الدنيا والآخرة.

فاحرصوا أيها الإخوة على أن تكون قلوبكم مجتمعة على الله تبارك وتعالى في ليالي هذا الشهر الكريم، فإن الصوم عبادة احتجزها الله لنفسه (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به)، وذلك يشير يا أخي إلى أن كل الأعمال التي يقوم بها الإنسان فيها نوع من الفائدة الظاهرة الملموسة، وفيها كذلك شيء من حظ النفس، فقد تعتاد النفس الصلاة، فيكون من حظها أن تصلي كثيراً، وقد تعتاد الذكر فيكون حظها أن تذكر الله كثيراً، وقد تعتاد البكاء من خشية الله فيكون حظها أن تبكي كثيراً، أما الصوم يا أخي فليس فيه إلا الحرمان وهو بريء من كل الحظوظ، فإذا كنا سنحرم من أن يلقى بعضنا بعضاً فإننا سنسعد كثيراً بمناجاة الله عز وجل، والوقوف بين يديه تعالى خصوصاً في صلاة التراويح.

وتذكروا أيها الإخوان دائماً أنكم صائمون امتثالاً لأمر الله تبارك وتعالى واجتهدوا أن تصاحبوا ربكم بقلوبكم في هذا الشهر الكريم، فرمضان أيها الإخوة شهر فاضل حقاً، وله منزلة كبرى عند الله تبارك وتعالى أشاد بها في كتابه الكريم: ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينت من الهدى والفرقان ).

والآية هنا يا أخي تجدها في آخرها: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }، فالصيام فائدة لا ضرر فيها، وقد رتب الله على إكمالها هداية منه لعبده، فإذا وفقك الله لإكماله في طاعة الله كانت هداية وكانت هدية تستحق الشكر وتكبير الله على تلك الهداية: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }، ثم انظر يا أخي إلى ما ترتب على هذا كله: { وإذا سألك عبادى عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون }.

هنا يا أخي ترى أن الحق تبارك وتعالى قد وضع هذه الآية في هذا الموضع ليدل على أنه تبارك وتعالى أقرب ما يكون لعبده في هذا الشهر الفاضل.

ولقد ميز الله تعالى شهر رمضان، وجاءت فيه الآيات والأحاديث، قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا جاء شهر رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين، ثم نادى مناد من قبل الحق تبارك وتعالى: يا باغي الشر أقصر، ويا باغي الخير هلم ).

فتحت يا أخي أبواب الجنة لإقبال الناس على الطاعة والعبادة والتوبة فيكثر أهلوها وصفدت الشياطين أي غلت، لأن الناس سيكونون منصرفين إلى الخير، فلا تستطيع الشياطين شيئاً، فأيام رمضان يا أخي وليالي رمضان هي مواسم تشريفات من قبل الحق تبارك وتعالى ليزداد المحسنون فيها إحساناً، ويتعرض المسيئون فيها لفضل الله وتبارك وتعالى فيغفر الله لهم، ويجعلهم من المحبوبين المقربين.

إن أفضل فضائل هذا الشهر الكريم وأكرم خصائصه وغرره، أن الله تبارك وتعالى قد اختاره ليكون وقتاً لنزول القرآن، هذه ميزة امتاز بها شهر رمضان ولهذا أفردها الله تبارك تعالى بالذكر في كتابه، فقال تعالى: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن }.

وهناك رابطة معنوية وحسية بين نزول القرآن وشهر رمضان، هذه الرابطة هي: كما أنه أنزل القرآن في رمضان، فقد فرض فيه الصيام، ذلك لأن الصيام معناه حرمان للنفس من شهواتها وأهوائها، فهذا انتصار للمعنى والروح والفكر الإنساني سيتخلص في رمضان من مطالب الجسم ومقومات الحياة البدنية، فالروح الإنساني في هذه الحالة على أصفى ما يكون، لأنها غير مشغولة بالشهوات والأهواء، وتكون أكثر ما تكون استعداداً، للفقه والتلقي عن الله تبارك وتعالى ولهذا كانت قراءة القرآن أفضل العبادات عند الله تبارك وتعالى في هذا الشهر الكريم رمضان.

وبهذه المناسبة أيها الإخوة ألخص لحضراتكم نظراتنا في كتاب الله تبارك وتعالى في كلمات قصيرة.

أيها الإخوان الفضلاء:

إن المقاصد الأساسية في كتاب الله تبارك وتعالى، والأصول الرئيسية التي تقوم عليها الهداية القرآنية أربعة:

إصلاح العقيدة:

إنك تجد يا أخي أن القرآن الكريم قد أكثر من الآيات التي تفصل العقيدة وتلفت الأنظار إلى ما جيب أن يتركز في نفس الإنسان المؤمن تركزاً حقيقياً لينتفع بها في الدنيا والآخرة، العقيدة في أن الله تبارك وتعالى هو الواحد القهار المتصف بالكمال كله، والمنزه عن النقائص كلها، ثم الاعتقاد باليوم الآخر لتحاسب كل نفس على ما قدمت وأخرت، ولو جمعت يا أخي الآيات الخاصة بالعقائد في القرآن لوجدتها أكثر من ثلث القرآن، قال الله تبارك وتعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فرشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرت رزقاً لكم فلا تجعلوا الله أنداداً وأنتم تعلمون }.

وكلما قرأت يا أخي في هذه السورة تجد هذا المعنى يعترضك، وقال سبحانه وتعالى في سورة المؤمنون: { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السموت السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون * بل أتينهم بالحق وإنهم لكذبون }.

وقال تعالى في سورة المؤمنون أيضاً: { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يؤمئذ ولا يتساءلون * فمن ثقلت موزينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خلدون }.

وقال تعالى: { إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان مالها * يومئذ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها * يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعملهم * فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شر يره }.

وقال تعالى: { القارعة * ما القارعة * وما أدراك ما القارعة }.

وقال تعالى: { ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون }.

هذه الآيات يا أخي تبين اليوم الآخر بياناً واضحاً يلين معه القلب القاسي.

تنظيم العبادات:

وأنت يا أخي تقرأ عن العبادات قوله تعالى: { وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة }.

وقوله تعالى: { يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم }.

وقوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً }.

وقوله تعالى: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً }.

إلى غير ذلك من الآيات.

تنظيم الأخلاق:

وتقرأ يا أخي عن تنظيم الأخلاق قوله تبارك وتعالى: { ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها }.

وقوله تعالى: { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }.

وقوله تعالى: { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلوة وأنفقوا مما رزقنهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار }

فتجد يا أخي أن مكارم الأخلاق منثورة في كتاب الله تبارك وتعالى وأن الوعيد على رذائلها وعيد شديد: { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار }.

وهذه القوانين أيها الأخوة هي في الواقع أرقى ما عرف الناس ذلك، لأن فيها كل ما يريده الناس ذلك، لأن فيها كل ما يريده الناس لتنظيم شؤون مجتمعهم، فإنك حين تستعرض

طائفة من الآيات تجد هذه المعاني واضحة بينة، فهذا ربع (الخمر) الذي يبدأ بقول الله تعالى: { يسلونك عن الخمر والميسر }.

هذا الربع يا أخي قد اشتمل على أكثر من خمسة وعشرين حكماً عملياً: الخمر، والميسر، اليتامى، إنكاح المشركين والمشركات، الحيض، الإيمان، الإيلاء، الطلاق، الرجعة، الخلع، النفقة إلى غير ذلك من الأحكام الكثيرة تجدها يا أخي في ربع واحد، لأن سورة البقرة قد نزلت لتنظيم المجتمع الإسلام في المدينة.

أيها الإخوة الأحباء:

اتصلوا بكتاب الله، وناجوا ربكم بكتاب الله، وليضع كل منا هذه الأصول الأساسية التي ألمحت إليها فإنها ستفيدك يا أخي كثيراً وتنتفع بها إن شاء الله تعالى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وسوم: العدد 670