الأساس الذي أقام عليه الإسلام شعائره التعبدية من خلال تفيؤ ظل من ظلال الشهيد سيد قطب رحمه الله

محمد شركي
mohammed.said.chergui@gmail.com

وأنا أتجول بين ظلال الشهيد سيد قطب رحمه الله تفيأت ظلا من ظلاله وقف فيه عند حدث تغيير المسلمين قبلتهم بأمر إلهي من رب العزة جل جلاله ، وهو حدث وسم الأمة الإسلامية بوسم ميزها عن غيرها من الأمم التي استحفظها الله عز وجل رسالاته ولم تحفظها ، فاستحفظ الأمة الإسلامية رسالته الخاتمة المصدقة لما بين يديها من الرسالات والمهيمنة عليها والتي بلغت بالبشرية كمال السمو والرقي الإنساني . ولقد وجدت في هذا الظل الوارف  لطيفة من اللطائف أسوقها بتعبير الشهيد وهي كالآتي :

" إن في النفس البشرية ميلا فطريا ـ ناشئا من تكوين الإنسان ذاته من جسد وروح مغيب ـ إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر النفسية المضمرة . فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ أو لا تستقر حتى تتخذ لها شكلا ظاهرا تدركه الحواس ، وبذلك يتم التعبير عنها . يتم الحس كما تم في النفس ، فتهدأ حينئذ وتستريح ، وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغا كاملا ، وتحس بالتناسق بين الظاهر والباطن ، وتجد تلبية مريحة لجنوحها إلى الأسرار والمجاهيل ، وجنوحها إلى الظواهر والأشكال في ذات الأوان . وعلى هذا الأساس الفطري أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها . فهي لا تؤدى بمجرد النية ، ولا بمجرد التوجه الروحي ، ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلا ظاهرا قياما ،واتجاها إلى القبلة ، وتكبيرا ، وقراءة ، وركوعا ، وسجودا في الصلاة ، وإحراما من مكان معين ، ولباسا معينا ، وحركة ، وسعيا ، ودعاء ، وتلبية ، ونحرا ، وحلقا في الحج ، ونية ، وامتناعا عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم . وهكذا في كل عبادة حركة ،وفي كل حركة عبادة ليؤلف بين ظاهر النفس وباطنها ، وينسق بين طاقاتها ، ويستجيب للفطرة جملة بطريقة تتفق مع تصوره الخاص .

ولقد علم الله أن الرغبة الفطرية في اتخاذ أشكال ظاهرة للقوى المضمرة هي التي حادت بالمنحرفين عن الطريق السليم ، فجعلت جماعة من الناس ترمز للقوة الكبرى برموز محسوسة مجسمة من حجر وشجر ، ومن نجوم وشمس وقمر ، ومن حيوان وطير وشيء ... حين أعوزهم أن يجدوا متصرفا منسقا للتعبير الظاهر عن القوى الخفية ، فجاء الإسلام يلبي دواعي الفطرة بتلك الأشكال المعينة لشعائر العبادة ، مع تجريد الذات الإلهية عن كل تصور حسي وكل تحيز لجهة ، فيتوجه الفرد إلى قبلة حين يتوجه إلى الله بكليته ، بقلبه وحواسه وجوارحه فتتم الوحدة والاتساق بين كل قوى الإنسان في التوجه إلى الله الذي لا يتحيز في مكان ، وإن يكن الإنسان يتخذ له قبلة من مكان .

ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة ، وتخصيصه كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه ، فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد ، كما أنه بدوره ينشىء شعورا بالامتياز والتفرد .

ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم ، التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة كالنهي عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء ، ولم يكن هذا تعصبا ، ولا تمسكا بمجرد شكليات ، وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات . كان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة . وهذه البواعث هي التي تفرق قوما عن قوم ، وعقلية عن عقلية ، وتصورا عن تصور ، وضميرا عن ضمير ، وخلقا عن خلق ، واتجاها عن اتجاه في الحياة كلها عن اتجاه . فعن أبي هريرة  ـ رضي الله عنه ـ قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون ، فخالفوهم ) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد خرج على جماعة  فقاموا له : ( لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا ) . وقال صلوات الله وسلامه عليه : ( لا تطروني كما أطرت النصارى  ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ) .

نهى عن تشبه في مظهر أو لباس ، ونهى عن تشبه في حركة  أو سلوك ، ونهى عن تشبه  في قول أو أدب ، لأن وراء هذا كله ذلك الشعور  الباطن  الذي يميز تصورا عن تصور ، ومنهجا في الحياة  عن منهج ، وسمة  للجماعة عن سمة ، ثم هو نهى عن التلقي من غير الله ومنهجه الخاص  الذي جاءت هذه الأمة لتحققه في الأرض ، نهى عن الهزيمة  الداخلية أمام أي قوم آخرين في الأرض ، فالهزيمة الداخلية تجاه مجتمع معين هي التي تتدسس في النفس لتقلد هذا المجتمع المعين . والجماعة المسلمة قامت لتكون في مكان القيادة للبشرية ، فينبغي لها أن تستمد تقاليدها كما تستمد عقيدتها من المصدر الذي اختارها للقيادة . والمسلمون  هم الأعلون ، وهم الأمة الوسط ، وهم خير أمة أخرجت للناس . فمن أين إذن يستمدون تصورهم ومنهجهم ؟ ومن أين إذن يستمدون تقاليدهم ونظمهم ؟ إلا  يستمدونها من الله ، فهم يستمدونها من الأدنى الذي جاءوا ليرفعوه .

ولقد ضمن الإسلام للبشرية أعلى أفق في التصور ، وأقوم منهج في الحياة ، فهو يدعو البشرية كلها أن تفيء إليه . وما كان تعصبا أن يطلب الإسلام وحدة البشرية على أساسه هو لا على أساس آخر ، وعلى منهجه هو لا على أي منهج آخر  ، وتحت رايته هو لا تحت أية راية أخرى . فالذي يدعوك إلى الوحدة في الله ، والوحدة في الأرفع من التصور ، والوحدة في الأفضل من النظام ، ويأبى أن يشتري الوحدة بالحيدة عن منهج الله ، والتردي في مهاوي الجاهلية ليس متعصبا  أو هو متعصب  ولكن للخير والحق والصلاح . والجماعة المسلمة تتجه إلى قبلة مميزة يجب أن تدرك معنى هذا الاتجاه . إن القبلة ليست مجرد مكان أو جهة تتجه إليها الجماعة في الصلاة ، فالمكان والجهة ليس سوى رمز ، رمز للتميز والاختصاص ، تميز التصور ، وتميز الشخصية ، وتميز الهدف ، وتميز الاهتمامات ، وتميز الكيان .

والأمة المسلمة اليوم بين شتى التصورات الجاهلية التي تعج  بها الأرض جميعا ، وبين شتى الأهداف الجاهلية التي تستهدف الأرض جميعا ، وبين شتى الاهتمامات الجاهلية التي تشغل بال الناس جميعا ، وبين شتى الرايات الجاهلية التي ترفعها الأقوام جميعا . الأمة المسلمة اليوم في حاجة إلى التميز بشخصية خاصة لا تتلبس بشخصيات الجاهلية  السائدة ، والتميز بتصور خاص للوجود والحياة لا يلتبس بتصورات الجاهلية السائدة ، والتميز بأهداف واهتمامات تتفق مع تلك الشخصية وهذا التصور ، والتميز براية  خاصة تحمل اسم الله وحده فتعرف بأنها الأمة الوسط التي أخرجها الله للناس لتحمل أمانة العقيدة وتراثها .

إن هذه العقيدة منهج حياة كامل . وهذا المنهج هو الذي يميز الأمة المستخلفة  الوارثة لتراث العقيدة ، الشهيدة على الناس ، المكلفة بأن تقود البشرية كلها إلى الله . وتحقيق  هذا المنهج في حياة الأمة المسلمة هو الذي يمنحها ذلك التميز في الشخصية  والكيان ، وفي الأهداف  والاهتمامات ، وفي الراية والعلامة ، وهو الذي يمنحها مكان القيادة الذي خلقت له ، وأخرجت للناس من أجله ، وهي بغير هذا المنهج ضائعة في الغمار ، مبهمة الملامح ، مجهولة السمات ، مهما اتخذت لها من أزياء ودعوات وأعلام). انتهى كلام الشهيد سيد قطب.

وأنا  بدوري أدعو الأمة إلى هذا الظل الوارف لتستعيد شيئا من معالم  وجودها الضائع في هذا الزمان العصيب  .

وسوم: العدد 719