الخاطرة ٢٢٩ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٣٠

ز . سانا

خواطر من الكون المجاور الخاطرة

في المقالة ما قبل الماضية من سلسلة " ابن رشد الفيلسوف المظلوم " ذكرنا أن المخطط الإلهي الذي وضعه الله لتكوين الحضارة الإسلامية ، كان يعتمد على أمرين : الأول هو تحرير فكر المسلمين من سيطرة الاسلام السياسي الذي صنعه معاوية بن أبي سفيان ، وأن هذا الأمر قام به القديس يوحنا الدمشقي ، أما الأمر الثاني فكان تكوين قاعدة علمية صحيحة تضمن الاختيار المنهج العلمي الصحيح الذي يجب أن يتبعه العلماء المسلمين لتكوين الحضارة الإسلامية ، وأن هذا الأمر سيقوم به الإمام السادس جعفر الصادق عليه السلام الذي عاش في زمن القديس يوحنا الدمشقي ولكن في منطقة بعيدة عنه وبالتحديد في المدينة المنورة . 

أما في المقالة الماضية من السلسلة فتكلمنا عن الظروف الفكرية والدينية التي كانت عليها الأمة الإسلامية في الفترة التي بدأت تنتشر فيها معلومات كتاب المناظرة للقديس يوحنا الدمشقي ، حيث وضحنا أن مدرسة آل البيت في المدينة المنورة كانت تمهد الطريق لمواجهة جميع المسائل والقضايا الدينية والدنيوية ،وانها كانت تنشر علومها بشكل تدريجي بحيث يلائم تطور وعي المسلمين دون إحداث أي فوضى فكرية تعرقل تكوين حضارة إسلامية عالمية . فقلنا بأن القسم الديني من علوم مدرسة آل البيت كان رمزه منهج حسن البصري ، وأن القسم الدنيوي كان رمزه منهج واصل بن عطاء الذي أصبح من كبار علماء فرقة المعتزلة .

في هذه المقالة إن شاء الله سنتكلم عن المنهاج العلمي التي اتبعته مدرسة إل البيت في نشر علومها ، كي نأخذ فكرة عامة عن علوم مدرسة آل البيت كما وصلت إليه في زمن الإمام جعفر الصادق عليه السلام .

ولكن قبل أن نبدأ هذا الموضوع لا بد أن نوضح نقطة هامة جدا تُفسر لنا بعض الأسباب التي منعت نتائج وفوائد علوم آل البيت من أن تصل إلى عقول ونفوس عامة مسلمي السنة عند دخول الحضارة الإسلامية في عصر الإنحطاط ، ولماذا أيضا لم تصل إلى مسلمي الشيعة بشكلها الصحيح ليعرضوها على مسلمي السنة ليستطيعوا أن يفهموا حقيقة علوم آل البيت ليعملوا معا السنة والشيعة في وقف الإنحطاط الديني الذي تعيشه الأمة الإسلامية لتخرج من ظلمات هذا الإنحطاط إلى النور .

مدرسة آل البيت التي ظهرت في المدينة المنورة كانت بمثابة تلك البذرة التي زرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي ستنبت وتنمو لتتفرع منها جميع العلوم التي ستتكون منها القاعدة التي ستُبنى عليها الحضارة الإسلامية ، لهذا نستطيع أن نقول باختصار أنه لولا وجود مدرسة آل البيت لكانت الأمة الإسلامية قد إنهارت واندثرت خلال قرنين من الزمن بدون أن تستطيع تكوين أي حضارة ، ونستطيع أن نقول أيضا أن دخول الأمة الإسلامية في عصر الإنحطاط الذي بدأ منذ ثمانية قرون والذي لا يزال حتى اليوم ، سببه الحقيقي هو خروج علوم الأمة الإسلامية عن منهج مدرسة آل البيت .

وحتى نوضح هذه الفكرة بشكل أفضل سنذكر لكم بعض تلك الآراء التي ساهمت في تشويه حقيقة أئمة مدرسة آل البيت، والتي أدت إلى دخول الأمة الإسلامية في عصر الإنحطاط ، فابن تيمية الذي يعتبره اليوم الكثير من علماء السنة بأنه شيخ الإسلام ، ولكن لو بحثنا برؤية شاملة فيما كتبه سنجد أنه في الحقيقة إمام علماء الإنحطاط ، ففي كتبه نجده يتبع اسلوب ماكر يطعن فيه ذرية رسول الله باسلوب غير مباشرة ، فهو في الظاهر يدعي أنه يحب آل البيت ، ولكن اسلوبه في الكتابة عنهم تجعل روح القارئ دون أن يشعر أن لا يأخذ منهم شيئا على الإطلاق ، ونذكر هنا بعض الأمثلة : في كتابه ( منهاج السنة النبوية جزء ٤ صفحة ١٤٥) يستند على الأية الكريمة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا . ٩٦ مريم) ليطعن بشخصية علي عليه السلام فيقول (ومعلوم أن الله قد جعل للصحابة مودة في قلب كل مسلم لا سيما أبو بكر وعمر ، فإن الصحابة والتابعين كانوا يودُّنهما ، وكانوا خير القرون ، ولم يكن كذلك علي ، فإن كثيرا من الصحابة والتابعين كانوا يبغضونه ويسبونه ويقاتلونه) . وفي نفس الكتاب (الجزء ٤ صفحة ٥٤٥-٥٤٦) نجد ابن تيمية يبحث في أدلة مختلفة فقط ليثبت في النهاية أن علي عليه السلام عندما كان صبيا كان كافرا . هذا هو رأي ابن تيمية بعلي عليه السلام الذي حاول نشره في عقول ونفوس مسلمي مذاهب السنة والجماعة ، تصوروا أن علي الذي أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان عمره خمس سنوات ليعيش معه في بيته ليتكفله ويربيه وكأنه إبنه ، ابن تيمية يقول عنه أنه كان في صغره كافرا ، وفي كبره مبغوضا من المؤمنين . ابن تيمية هنا لا يطعن بشخصية علي فقط ، ولكن أيضا يطعن بشخصية رسول الله وفي الاسلام كله ، فمعنى كلام ابن تيمية عما ذكره عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبا ومربيا فاشلا ، حاشاه الله أن يكون كذلك ، ولكن هذه هي حقيقة ما يقصده ابن تيمية ، فابن تيمية من خلال مؤلفاته هو في الحقيقة ليس شيخ اسلام محمد صلى الله عليه وسلم ولكن شيخ الإسلام السياسي الذي صنعه معاوية وهذا الإسلام هو من روح السوء .

أما عن الإمام علي زين العابدين حفيد علي عليهما السلام ، فابن تيمية في كتابه ( منهاج السنة النبوية - الجزء ٧، صفحة ٥٣٤ ) يقول (وكذلك علي بن الحسين أخذ العلم عن غير الحسين أكثر مما أخذ عن الحسين ، فإن الحسين قُتل سنة إحدى وستين وعلي صغير ، فلما رجع إلى المدينة أخذ عن علماء أهل المدينة) ، وهنا ابن تيمية يكذب ليطعن بعلوم ذرية رسول الله ، فمعظم الروايات تؤكد أن علي زين العابدين عليه السلام لم يشارك في معركة الكربلاء ليس لكونه كان صغيرا ولكن كونه كان مريضا ، فعمره آنذاك كان ٢٣ عاما ، عاش منها مع جدّه علي أمير المؤمنين سنتين ، ومع عمّه الحسن ۱۰ سنين ، ومع أبيه الحسين ۲۳ ، وهذه المدة الزمنية التي عاشها مع هؤلاء أئمة آل البيت عليهم السلام ، كانت كافية لأن تكون علومه التي إكتسبها منهم أرقى بكثير من علوم جميع علماء المسلمين في زمانه . ولهذا لم يكن زين العابدين عليه السلام بحاجة لأي معلم بعد وفاة أبيه .

أما بخصوص الإمام جعفر الصادق عليه السلام فابن تيمية حتى يشكك المسلمين بعلوم جعفر الصادق ، يقول في كتابه (مجموع الفتاوى الجزء ٤ صفخة ٨٧) " حَتَّى يُقَالَ : مَا كُذِبَ عَلَى أَحَدٍ مَا كُذِبَ عَلَى جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " . وحتى يقلل أيضا من أهمية علوم مدرسة آل البيت، يذكر في كتابه (منهاج السنة الجزء ٤ صفحة ٥٢) فيقول عن مصدر علوم جعفر الصادق : ( أخذ العلم عن جده أبي أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وعن محمد بن المنكدر ونافع مولى ابن عمر والزهري وعطاء بن أبي رباح وغيرهم " . ابن تيمية لا يذكر أسم شخص واحد من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكأن ابن تيمية هنا يريد بطريقة غير مباشرة أن يقول أن ذرية أبو بكر رضي الله عنه وغيره كانت أكثر علما من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم. بينما الحديث الشريف يقول (تَركتُ فِيكم الثَّقلين، ما إن تمسَّكتُم بهما، لن تضلُّوا: كِتابَ اللهِ، وعِترتي أهلَ بيتي) . أبن تيمية في اسلوبه الذي يتبعه في كتبه عن ذرية الرسول وكأنه يحاول أن يحذف القسم الثاني من الحديث الشريف من قلوب وعقول المسلمين .

المسلمون منذ دخول الأمة الإسلامية في عصر الإنحطاط وحتى اليوم يتبعون منهج إسلام ابن تيمية وليس منهج اسلام السنة النبوية ، وكما حصل مع المذاهب السنية حدث أيضا مع المذاهب الشيعية التي تخلت عن منهج آل البيت وأتبعت منهج الشيعة الصفوية التي ملأت كتبهم بشتى أنواع الأكاذيب . ولهذا وصلت الأمة الاسلامية إلى أسفل مكانة بين بقية الأمم .

رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته في حديثه الشريف قال (تَركتُ فِيكم الثَّقلين، ما إن تمسَّكتُم بهما، لن تضلُّوا : كِتابَ اللهِ، وعِترتي أهلَ بيتي) ، فكتاب الله هو الثقل الأكبر الذي يجب أن يكون الميزان الأول بالنسبة للعلماء في تقييم جميع آرائهم واجتهاداتهم عن الأمور الدينية والدنيوية . أما الثقل الأصغر فهو علوم عترة أهل البيت ، والمقصود هنا هو علوم ذرية الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم أقرب الناس في تكوينهم الروحي إلى التكوين الروحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما ذكرنا بمقالة ( فلسفة العصمة) أن صحة ما يفعله وما يقوله الإنسان في اجتهاداته في الأمور يعتمد على نوعية ومستوى معارفه الموجودة في عقله ( الخارجي والباطني) أو بشكل أوضح يعتمد على تكوينه الروحي . فهذا الحديث الشريف يوضح لنا أن مستوى علوم أئمة أهل البيت كان أرقى بكثير من مستوى علوم بقية العلماء المسلمين ، فأئمة أهل البيت هم في الحقيقة ليسوا فقط أحفاد الرسول الذين ورثوا عنه تكوينه الروحي ولكن كانوا من تربيته أيضا .

حتى نوضح لكم هذه الفكرة بشكل أبسط سنعرض هذا المثال : الشجرة الجميلة ستعطي شجرة جميلة مشابهة لها ، ولكن حتى تأخذ جمالها التي ورثتها من الشجرة الأم يجب أن يتم العناية بها بشكل مشابهة تماما لتلك العناية التي كانت على شجرة الأم ، فالله عز وجل هو الذي قام برعاية الرسول ليعصمه عن الأخطاء ، والرسول بدوره هو قام برعاية علي وفاطمة وهما بدورهما قاما براعية أبنائهما ، وهكذا فعل تماما بقية الأئمة مع ابنائهم .

بعض الجهلة من مسلمي السنة في محاولتهم للطعن بمذاهب الشيعة يقولون أن أختيارهم للأئمة أهل البيت كان حسب نزعة سياسية فارسية وليست دينية وأن أئمة اهل البيت هم فقط من سلالة الحسين وزوجته الفارسية (شهربانو) ، ولكن هذا المعتقد غير صحيح فإبن الحسين علي زين العابدين تزوج من فاطمة بنت الحسن ، وهذا يعني أن الإمام الخامس محمد الباقر هو من سلالة الحسن والحسين ، فمع زوج علي زين العابدين مع ابنة الحسن عادت السلالة ثانية لتحمل ذرية الرسول ، ولهذا سمي بمحمد الباقر ، لأنه جمع النوعين من العلوم : العلوم التي رمزنا لها ( الروح النباتية) والعلوم التي رمزنا لها ( روح الأسد) ، ولهذا كانت أمه من سلالة الحسن وأبوه من سلالة الحسين وليس العكس ، فلو كان العكس لكانت قصة أئمة أهل البيت قصة عشوائية لا معنى لها .

إن توضيح حقيقة علوم مدرسة آل البيت وتدرجها في نشر علومها يحتاج إلى سلسلة من مقالات عديدة ، ولكن هنا سنركز على دور الإمام السادس جعفر الصادق عليه السلام ، الذي عاش في فترة ظهور كتاب ( المناظرة) للقديس يوحنا الدمشقي والذي أحدث ضجة دينية وفكرية عند المسلمين . ولكن قبل أن نتكلم عن دور الإمام جعفر الصادق لا بد لنا أن نأخذ فكرة بسيطة عن دور الإمام علي عليه السلام في تكوين مدرسة آل البيت .

في المقالة (٢١٧) ذكرنا أن هناك علاقة تناظر رقمية بين أسم ( أحمد) وأسم (علي) وهذه العلاقة لها الشكل ( ٣٥٨ - ٨٥٣) والتي تعني أن علي عليه السلام هو القسم الأيسر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى أن رسول الله يتكلم عن روح الأشياء ، بينما دور الإمام علي أن يعرض التعبير الروحي لهذه الأشياء ، بمعنى آخر أن دور الإمام علي هو ربط مضمون التكوين الروحي مع شكله ليتحول إلى مفهوم عملي له علاقة بسلوك الإنسان مباشرة . لهذا إذا ذهبنا وتمعنا بشكل دقيق جدا في حكم وأقوال علي عليه السلام ، سنجد أنه لم يأتي بشيء جديد من عنده رغم أن العديد منها ستبدو لنا وكأنها غير مذكورة لا في القرآن ولا في الأحاديث الشريفة ، ولكن في الحقيقة فإن عبقرية الإمام علي تكمن في أنه رأى في القرآن والآحاديث الشريفة ما لم يستطيع أحد رؤيته لا الخلفاء الراشدين الثلاثة ولا الصحابة ولا العلماء . فما رآه هؤلاء كان يخص منطقة معينة في زمن معين ، بينما كانت رؤية علي عليه السلام للأمور تخص الإنسانية بأكملها في كل زمان وفي كل مكان .

ولهذا مثلا نجد في العصر الحديث أن الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان يقول ( قول علي بن أبي طالب: "يا مالك، إن الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، هذه العبارة يجب أن تعلَّق على كلّ المنظمات، وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية) معنى نَظير : شبيه ومساوٍ ومثل في الأهميَّة أو الرُّتبة أو الدَّرجة ، فهنا يذكر علي عليه السلام (إن الناس) والمقصود ليس فقط المسلمين ولكن جميع شعوب العالم ، فمعنى هذه الحكمة أن التكوين الروحي يختلف من إنسان إلى آخر والإختلاف في الرأي قد لا يكون تعارض ولكن اختلاف في زاوية الرؤية . فزاوية رؤية الكيميائي للشيء تختلف عن زاوية رؤية الفيزيائي وتختلف عن زاوية رؤية الرسام أو الشاعر ، فكل رأي من هذه الآراء المختلفة لها نفس الأهمية أو الدرجة . الحكمة الموجودة في قول علي عليه السلام هي المبدأ الأول لتكوين القاعدة العلمية التي تُبنى عليها كل حضارة جديدة . لهذا نجد بقية الصحابة كانت آرائهم تتعلق بأمور الإسلام نفسه كدين ، ولكن آراء علي عليه السلام لم تكن تتعلق فقط في الدين ولكن بجميع نواحي التكوين الروحي وعلاقته بما حوله كوجود إنساني في هذا الكون . ولهذا نجده يلخص ماهية وجود الإنسان في هذا الكون بعبارته الشهيرة ( تحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر) في الحقيقة هذه العبارة هي أروع ما نطقه لسان إنسان ليس بنبي في تاريخ البشرية بأكملها . فهي تفسر هدف خلق الكون وتضع الإنسان في مركزه كمكان وكتطور كوني ، وهي تفتح جميع ابواب العلوم لتتطور بشكلها الصحيح ، فجميع التطورات التي تحدث في الكون وعلى سطح الأرض سببها الأول هو خلق الإنسان ثانية وتنقيته من جميع تلك الشوائب التي شوهت تكوينه وأخرجته من الجنة ، فدور جميع العلوم والمعارف هو أن تساعد الإنسان في الوصول إلى الكمال .

الآن لننتقل إلى علوم مدرسة آل البيت في فترة الإمام جعفر الصادق عليه السلام . هكذا شاءت الحكمة الإلهية أن تكون فترة حياة جعفر الصادق الإمام السادس فترة حاسمة جداً من الناحية السياسية والفكرية ، فهذه الفترة شهدت إنتشار آراء القديس يوحنا الدمشقي التي أحدثت بلبلة فكرية دينية بين المسلمين ، وكذلك شهدت سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية ، مما سمح لمدرسة آل البيت في تلك الفترة أن تأخذ بعض الحرية والتحرك بعد زوال الإضطهاد والرقابة الأموية عليها ، فسمحت لأعداد كبيرة من المسلمين من جميع مناطق الأمة الإسلامية أن يرسلوا أبنائهم إلى المدينة المنورة للدراسة في مدرسة آل البيت دون خوف ليأخذوا العلوم من مصدرها الحقيقي من ذرية الرسول صلى الله عليه وسلم، فأصبحت مدرسة آل البيت في عهد الإمام جعفر الصادق عليه السلام مدرسة علمية شاملة ومتكاملة تبحث في جميع العلوم الدينية والدنيوية : الفقه وعلم النفس والطب والطبيعة والكيمياء وعلوم الهيئة والفلك وعلوم الفيزياء والفلسفة والجغرافيا والتاريخ وغيرها الكثير ، حيث أخرّجت الآلاف من الطلاب والعلماء، حيث نجد الحسن الوشّاء عند مروره بمسجدالكوفة يقول «أدركت في هذا المسجد ٩٠٠ شيخ كلهم يقول: "حدثني جعفر بن محمد" ، رغم أن بين الكوفة ومدرسة آل البيت في المدينة المنورة مسافة شاسعة ومع ذلك كانت علوم مدرسة آل البيت قد وصلت إلى الكوفة وإلى مناطق بعيدة أخرى من الأمة الإسلامية .

على يد الإمام الصادق عليه السلام تتلمذ أبو حنيفة إمام المذهب الحنفي ، ومالك بن أنس إمام المذهب المالكي الذي قال عنه « وما رأتْ عَينٌ، ولا سمعت أذنٌ، ولا خَطَر على قلب بشرٍ، أفضل من جعفر بن محمّد الصادق، علماً، وعِبادة، وَوَرَعاً» ، وعلى يد الإمام مالك تتلمذ الشافعي إمام المذهب الشافعي ، وعلى يد الشافعي تتلمذ أحمد بن حنبل .. وبذلك يكون الإمام جعفر الصادق عليه السلام إمام الأول لجميع أئمة المذاهب الإسلامية بلا استثناء .

هناك حكمة إلهية في الفترة التي عاشها الإمام جعفر الصادق عليه السلام لم يفهمها العلماء المسلمين والسبب أنها لها علاقة بعلم الرموز ، فالرموز كما سبق وذكرنا هي حقائق إلهية تفسر لنا مضمون الأحداث ، فرقم تسلسل الإمام جعفر الصادق في مدرسة آل البيت هو الرقم (٦) ، وهذا الرقم في قانون الإثنا عشرية هو رقم نهاية المرحلة الثانية من القسم الأول من قانون الإثنا عشرية، فعلي والحسن والحسين عليهم السلام، هم المرحلة الأولى ، وعلي زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق عليهم السلام هم المرحلة الثانية ، ولهذا نجد أن الإمام السابع موسى الكاظم عليه السلام قد بدأ إمامته في المدينة المنورة ولكنه قضى آخر حياته في سجون بغداد واستشهد مسموما ودفن فيها ، فمع الإمام السابع تخرج مدرسة آل البيت من المدينة المنورة إلى بغداد وثم تنتقل مع الإمام الثامن علي الرضا عليه السلام إلى الخرسان في إيران . فخروج مدرسة آل البيت من المدينة المنورة كان رمز إنتهاء القسم الأول من قانون الإثنا عشرية.

حتى نفهم بشكل أوضح دور الإمام جعفر الصادق عليه السلام يجب أن نفهم دوره في القسم الأول من قانون الإثنا عشرية، فكما وضحنا في الجزء (١٦) من سلسلة "ابن رشد الفيلسوف المظلوم" أن عدد أجيال قبيلة قريش الذي يبدأ من فهر ( قريش الأوسط) الجيل الأول وينتهي بمحمد صلى الله عليه وسلم الجيل الثاني عشر ، هي رموز تشرح لنا قانون الإثنا عشرية في تطور التكوين الإنساني ، وأن القسم الثاني ( من قصي إلى محمد) هو القسم الروحي من مراحل التطور ، لهذا فإن الأئمة الإثنا عشرية هم في الحقيقة رمز للجيل الأخير في قانون الإثنا عشرية ( الذي رمزه محمد) أي المرحلة الأخيرة من التطور الروحي للتكوين الإنساني ولهذا كانت الديانة الإسلامية آخر الديانات السماوية ، فهذه المرحلة هي أيضا تتألف من إثنا عشر مرحلة ، حيث القسم الأول منها ( علي ، الحسن ، الحسين ، محمد الباقر ، جعفر الصادق) هو القسم الروحي من هذه المرحلة ، لهذا كانت علوم مدرسة آل البيت في زمن جعفر الصادق تشمل جميع العلوم ولكن البحث فيها كان من خلال رؤية روحية ، فالعلوم المادية : الطب ، كيمياء ، فيزياء ، فلك ...إلخ ، كما بحث فيها هؤلاء الأئمة كانت تنظر إلى الأشياء من خلال مضمونها وعلاقتها بالتكوين الروحي للإنسان، وليس نظرة مادية تتعلق بجسم الشيء نفسه ولنفسه فقط كما يحصل اليوم في المنهج العلمي الحديث. لهذا نجد انه عندما جرت مناظرة في علم الطب بين جعفر الصادق والطبيب يوحنا ابن ماسويه أشهر أطباء عصره، شعر ابن ماسويه بالفرق بين رؤية جعفر الصادق الشاملة للأمور والرؤية المادية للأطباء فقال له (أعد عليّ فوالله ما يحسن جالينوس أن يصف هذا الوصف) .

حتى نبسط هذه الفكرة بشكل أوضح سنعرض لكم بعض الأمثلة :

علماء تشريح جسم الإنسان اليوم يذكرون أن عدد فقرات رقبة الإنسان تتألف من (٧) فقرات ، بينما نجد الأمام جعفر الصادق يقول أن عددها (٨) . إذا تمعنا جيدا في هيكل عظمي لجسم الإنسان ، سنجد أن عدد فقرات رقبة الإنسان هي (٧) وليست (٨) ، فهل أخطأ جعفر الصادق في العدد ؟ الحقيقة هنا أن النظرة المادية ستجعلنا نظن أن رأي العلماء هو الصحيح ، ولكن هذا الرأي سيفصل تكوين الإنسان عن كل ما يحيط به وسيجعل الإنسان يبدو وكأنه مخلوق ظهر على سطح الأرض عن طريق الصدفة وأنه كائن نتج عن تطور الثديات كما تذكر نظرية داروين ، وعندها سنشعر وكأن الكون بأكمله ليس إلا أحداث عشوائية لا ترتبط ببعضها البعض . وبسبب ضعف مستوى علوم علماء عصر الحضارة الإسلامية ، وكذلك بسبب الإنحطاط الروحي لعلماء العصر الحديث لم يفهموا حتى الآن لماذا جعفر الصادق عليه السلام قال بأن عدد فقرات الرقبة هي (٨) وليس (٧) رغم أنه رأى أن عددها هو (٧) ، والجواب على هذا السؤال أن رأي جعفر الصادق لم يكن يتعلق بجسد الإنسان ولكن بتكوينه الروحي ، فرأيه هو عبارة عن تعبير روحي وليس شكل مادي فقط كما عبر عنه علماء التشريح . وسنحاول هنا أن نوضح الحكمة الإلهية في كون عدد فقرات الرقبة هو (٨) وليس (٧) :

الحديث الشريف يصف الخوارج بأن قراءتهم للقرآن لا تتجاوز عظمة الترقوة (يخرج منه قوم يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرَمِيّة.) ، هذا الحديث هو حديث رمزي وله معنى أن فهم الخوارج للقرآن يتم عن طريق الكائن السفلي فقط ، فعظمة الترقوة هي أسفل منطقة من الكائن العلوي وهي التي تفصل الكائن العلوي عن الكائن السفلي في جسم الإنسان ، فكما شرحنا في المقالة رقم (١٢٨) أن الكائن العلوي في الإنسان يتألف من الرأس والرقبة والكتف والزراعين ، وهذا القسم يشكل الرمز (Λ) وهو القسم الروحي من الرمز الإلهي (ΙΛ) . وإذا ذهبنا إلى المجموعة الشمسية سنجد أنها حسب تركيبها تتألف من قسمين : قسم داخلي وهو القسم الموجود داخل حزام الكويكبات ، وقسم خارجي وهو الموجود من خارج حزام الكويكبات وحتى سحابة أورط التي تحيط بالمجموعة الشمسية . القسم الداخلي هو رمز القسم الروحي من المجموعة الشمسية أي انه رمز القسم (Λ) من المجموعة الشمسية ، حيث الشمس هي رمز الرأس في الإنسان ، اما الكواكب مع أقمارها والتي عدد مجموعها هو الرقم (٧) : عطارد ، الزهرة ، الأرض والقمر ، المريخ وديموس وفوبس ، فهي عدد فقرات الرقبة السبعة ، ويحيط هذه المجموعة حزام الكويكبات ، حزام الكويكبات هو الفقرة الثامنة التي تتحد بها عظمة الترقوة والكتف وعظام الزراعين والكف والأصابع . لهذا يضع جعفر الصادق عليه السلام الفقرة الثامنة ضمن القسم الأول من العمود الفقري ليوضح لنا أن حزام الكويكبات هو من ضمن القسم الأول من المجموعة الشمسية ، وهذا ما يوافق عليه علماء الفلك لأن حزام الكويكبات له نفس تركيب كواكب المجموعة الأولى ، فبهذه الطريقة يؤكد لنا جعفر الصادق بأن تركيب جسم الإنسان لم يظهر عن طريق الصدفة ولكن أتى من المجموعة الشمسية ، أو بمعنى آخر أن المجموعة الشمسية لم تتشكل عن طريق الصدفة كما يعتقد علماء الفلك ولكن تشكلت بخطة إلهية ليولد الإنسان داخلها ، فجعفر الصادق عليه السلام بتحويله عدد فقرات القسم الأول من العمود الفقري من (٧) إلى (٨) يوحد علم الفلك مع علم التشريح ليأخذ النوعان من العلوم مبدأ ( العلم في خدمة الإنسان ومعرفة أسراره) . أما الرقم (٧) الذي يعتمده علماء التشريح فهو يفصل علم الفلك عن علم التشريح ويجعل النوعين من العلوم يعتمدان مبدأ ( العلم للعلم).

مثال آخر : في زمن جعفر الصادق عليه السلام، كان الفلاسفة يعتمدون رأي أرسطو الذي يقول بأن العالم يتألف من أربعة عناصر : الماء ، الهواء ، التراب ، النار . ولكن جعفر الصادق عليه السلام صحح هذه المعلومة وقال بأن الهواء والتراب ليست عناصر ولكنها مركبات يتألف كل منها من عناصر عديدة ، وحتى يعطي العناصر معنى شامل له علاقة بالتكوين الروحي للإنسان قسّم العناصر المكونة للجسم إلى ثلاثة أقسام : الأولى هي عناصر موجودة بكميات كبيرة وعددها ٤ ، الثانية وهي عناصر موجودة بكميات قليلة وعددها ٨ ، وعناصر موجودة بكميات ضئيلة وعددها ٨ .

وقد أثبت العلم صحتها في عصرنا الحاضر :

١- أربعة توجد في جسم الإنسان بكميات كبيرة وهي :

(الأكسجين – الكربون – الهيدروجين – النتروجين )

٢ - ثمانية توجد في جسم الانسان بكميات قليلة هي :

(الكالسيوم - المغنسيوم – الصوديوم – البوتاسيوم – الفوسفور – الكلور – الكبريت – الحديد )

٣ - وثمانية عناصر توجد في جسم الانسان بكمية ضئيلة هي:

(السيلينيوم- الفلور – الكوبلت – المنغنيز – اليود – النحاس – الرصاص - الزنك) .

هذا التقسيم الذي استخدمه جعفر الصادق عليه السلام لم يأتي عن طريق التحليل المخبري كما يحدث اليوم ، ولكن أتى من إتصال روحي مع الروح العالمية لأنه يسبق زمانه بأكثر من ألف عام ، فعلماء العصر الحديث يذكرون العناصر التي يتكون منها جسم الإنسان بشكل عشوائي حسب كمية وجودها في الجسم ، فنسبة العناصر الاربعة الأولى هي فعلا توجد بكميات كبيرة ، وهناك ثمانية عناصر توجد بكميات أقل وثمانية أخرى توجد بكميات ضئيلة ، وعناصر أخر توجد بكميات نادرة جدا ، ولكن الفرق هو أن تقسيم جعفر الصادق عليه السلام لمكونات تركيب جسد الإنسان يعبر عن التكوين الروحي وليس المادي فقط لجسم الإنسان ، فهو بهذا التقسيم يضع جميع الأمور تحت سيطرة الروح العالمية التي رمزها (ΙΛ) لذلك قسَّم عناصر تركيب جسم الإنسان إلى ثلاثة أقسام (٤+٨+٨) ، ومجموع العناصر هو ١٨ عنصر ، فهذا الرقم ليس صدفة ولكنه يعبر عن الرمز الإلهي (ΙΛ) حيث أن هذا الرقم هو أيضا يتألف من (٣) أقسام وكذلك هو رقم يعادل (١٨) ، فهذا الرقم هو في الحقيقة عدد الجسيمات النووية التي تتألف منها كل محتويات الكون بأكمله . وقد تكلمنا عن هذا الموضوع بشرح مفصل في المقالة التي تحمل الرقم (٣٥)

هكذا تماما كانت رؤية جعفر الصادق في جميع الأمور ،ولهذا نجد تلميذه جابر بن حيان والذي يعتبر من أشهر علماء الكيمياء في تاريخ البشرية ، ينظر إلى علم الكيمياء بطريقة مختلفة قليلا عن الرؤية المادية لعلماء الكيمياء وخاصة علماء العصر الحديث و الشيء نفسه حصل مع بقية العلماء الذين أخذوا علومهم من مدرسة آل البيت ، ولكن المشكلة تكمن أنه حتى اليوم لا تزال علوم مدرسة آل البيت محاطة بنوع من الغموض وذلك بسبب جهل العلماء بشكل عام في علوم الرموز الإلهية لذلك لم يتم فهم الدور الحقيقي الذي لعبته مدرسة آل البيت في تكوين الحضارة الإسلامية أولا وتكوين حضارة عصر النهضة ثانياً . ولكن برغم ذلك فالأمور سارت كما شاء الله لها فكان فهم العلماء لعلوم مدرسة آل البيت يتناسب مع المستوى العلمي لكل عصر .

خلاصة الحديث أن علوم مدرسة آل البيت وضعت التكوين الروحي للإنسان في مركز جميع العلوم لتكشف أسرار تكوينه الروحي لتستطيع توجيهه في الطريق الصحيح لتُنقيه من جميع شوائبه ليصل إلى الكمال كما خلقه الله في الجنة . في المقالة القادمة إن شاء الله سنتحدث عن مساهمة علوم مدرسة آل البيت في تطوير الفلسفة والعلوم المادية اللازمة لتكوين الحضارة الإسلامية وكذلك سنتكلم عن دور ابن الرشد في هذا الموضوع .

وسوم: العدد 839