في وداع 2019

م. محمد يوسف حسنة

clip_image002_019cb.jpg

عامٌ آخر يمر، صفحاتٌ تُطوى وصفحاتٌ تُفتح، صداقات تُنشأ وأخرى تنتهي، حبٌ يكبر وآخر يضمحل، مواقفٌ تُعرِّي العلاقات، ومواقف تزيد متانتها، بين شدِّ وجذب بين جزر ومدّ نستعد لطوي صفحة عام 2019، بين ثناياها دروس وعبر ومحطات يجب التوقف عندها دراسة وتدقيق فمن لم ينجح في قراءة الماضي سيكون عاجزاً عن الإبحار في المستقبل أو المضي في الحاضر.

تعلمت أن الإنسان يستطيع أن يتسلق ويصعد بالتقرب من صانع القرار وتزيين الأمور وتحسينها، يتمتع بالحماية ويزداد نفوذا طالما كان هناك مجال لمُداراة أفعاله وإمكانية التستر عليه، يجمع الرجال حوله يصبح القائد نافذ الكلمة، لا معاملة يعجز عن تمريرها ولا شيء يوقفه، في الطريق ينسى أنه ظلم هذا وأبكى ذاك وافترى على فلان، وينسى أن هناك من ينتظر وقوعه لينتقم، فإذا ما وقع فُتحت الأوراق القديمة والقضايا المنسية عنها، ونسى من تقرّب منهم على حساب الناس أفضاله وعطاياه – إن وُجدت – وانتقل من حال لحال والكل عنه قد تخلى مواجهاً مصيره وحيداً فلا نفاق نفعه ولا إنفاق أنقذه.

وتعلمت أن الناس ما زالت تمارس الوصاية على بعضها، وهم في مبدأ الوصاية سواسية بغض النظر عن مراتبهم ومواقعهم التنظيمية، الأسرية، المجتمعية، والمؤسسية وكأننا في عصر الكنيسة والرهبان، فالرأي ما رأوا لا يجب أن يُخالفوا، هم الأدرى بالمصلحة العليا، وهم الأقدر على تقييم المؤسسات والأفراد وتحديد مصلحة المجتمع.

ومشكلة الأوصياء ومنظوماتهم أن كثيراً ما يتم تضليلهم عبر وشايات كيدية وتقارير لا تعبر عن حقيقة وواقع، سماعون للإشاعة سريعو تناقلها، فيتطرفون بالقرار ويبنون عليها تدخلات تُنحي أهل الكفاءة والخبرة وترفع أهل النفاق والفاسدين مما يسهم في انهيار المجتمع لا بنائه، وهروب الفئة الصادقة التي ضاقت ذرعاً بالتضييق ولا يبقى في المواجهة إلا بعض الرواحل ممن وطنوا أنفسهم على أن جهاد الأوصياء وأدواتهم كمثل جهاد المحتل وأعوانه، فلا يمكن بناء وطن وبناء التغيير إلا بالمواجهة وإعلاء راية التغيير الواضحة.

وأكثر ما يؤرق الأوصياء أولئك الذين عزموا اتخاذ التصحيح درباً وإن كلفهم ذواتهم وأعمالهم الذين يحاولون هدم أسوار ورغبات الأوصياء والتخلص من كهنة المعبد الجديد.

ولعل جميل ما حدث في هذا العام أن كثير من أصنام الأوصياء سقطت ولم تعد لهم مواقع ومنابر، وتجرأ الكثيرون على مناهضتهم ومازالت محاولات اسقاط المزيد منهم مستمرة.

وتعلمتُ أن داء المصلحة زاد انتشاره فمن يُقدم الخدمة دون مقابل بات عملة نادرة، تقصدك الناس لقضاء مصالحهم فإن انتهت مصلحتهم أو قدرتك على تنفيذها انفضوا من حولك وكأنهم لم يعرفوك، وإن احتجت بعضهم لقضاء مصلحة متعثرة نظروا في أولوياتهم ومصالحهم و وازنوا العائد إن ما قدموها لك أو لغيرك فإن كان في ميزان المصالح غيرك أرجح فهو أولى، لا يُفيدك إلا حكّ جلدك بظفرك، قد تستطيع أن تحقق ما تريد بعيداً عمّن قصدتهم وقد يُحقق ما تُريد من أفراد كنت قد تجنبت الطلب منهم، إلا أنك تصل لخُلاصة أنك وحيداً دون جدار تركن إليه في لحظة ضعف ودون اسناد حقيقي يكفيك سؤال من لا تُريد.

وتعلمت أن الوطن مهما ساءت أوضاعه وتغيرت أحواله وطباع الناس فيه يبقى البيئة الآمنة والدرع الحامي والبيت الدافئ الأحق بالعطاء والبذل والاستثمار، وأن الغربة مهما تُعطيك من فسحة الحياة وحرية الحركة إلا أنك تُصبح حبيس المادة وتوفير متطلبات العيش خالي المشاعر محدود الارتباط لا أصل شجرة تستظل بها ولا رفاق درب كما كان في الوطن.

زادت قناعتي أن لا أحد يحتكر الصواب المطلق ولا يوجد شر مطلق وخير مطلق وأن جزء كبير من دُعاة المبادئ ماهم إلا تُجارٌ تتغير نبرات أصواتهم ووجهات ولائهم بتغير الحال، إلا أن المفارقة إن فعلوها هم باتت مصلحة وإن فعلها غيرهم باتت مفسدة، والعلاقة إن أقاموها هم ففيها مصلحة عليا وهدف مرسل وإن قام بها غيرهم فمن وراء ذلك هدف خبيث وأجندة غير محمودة.

وبت متأكداً أن الثابت الوحيد في السياسة هو المتغير، وبقاء الحال من المحال، ومراكز القوى في تغيير مستمر وأن هنالك حاجة للتوازن والمرونة ما بين متطلبات العلاقات الدولية وتشابك الساحة الإقليمية من جهة والثوابت والقيم والمبادئ من جهة أخرى دون أن يخل التوازن المطلوب والمرونة المفترضة بأصل الفكرة وأصل الهدف.

وتيقنت أننا وفي رحلة بحثنا عن التحرير تحول جزء منا من رجال إدارة صراع وتحرير وثورة وتنوير، إلى رجال إدارة أزمات متلاحقة وكوارث لا متناهية، وتحول بعضنا إلى تُجار وأغنياء لا يهمهم سوى الامتيازات والخشية على بطاقات VIP، ومستعد بعضنا للتنسيق والتعاون مع المحتل حتى يحفظ امتيازاته ومواقعه، ولا بأس من تصدير البيان باسم الشعب الفلسطيني باسم الثورة باسم الحرية ضمن مضمون بيان لا يرتقي حتى لمن تم تقديم اسمهم في رأس البيان.

وشاهدت أن جزء ليس باليسير لا يهمه تحقيق النتائج وإيصال الرسالة بقدر ما يهمه إحداث جلبة هنا وصراع هناك، وبحث عن اضطهاد من قبل السلطات، فبالمعارضة الدائمة ترتفع الأسهم ويُنال الثقة في صفوف المتذمرين والحانقين، ولا يدرون أنهم خذلوا الرسالة والفكرة ببحثهم عن تحقيق الذات على حساب الرسالة، ولا بأس باصطناع المعارضة والملاحقة وتكثيف الهجوم ففي رحلة الهجرة لخارج الوطن نحتاج لأدلة تثبت أننا قوم تحت التهديد من أبناء جلدتنا وأننا معرضون للهلاك ولا بأس من تشويه صورة المجتمع ولا مشكلة من تضخيم الاختلاف ليتقدم كره فصيل ومهاجمته على كره الاحتلال وفضح جرائمه.

أثبتت لي كم كنت مخطئا حين راهنت على وعي الشباب وأننا قادرون على قيادة وصناعة التغيير فما زال الفهم قاصر والوعي غير متحقق، والكره طاغي والحقد أعمى الصدور، غابت مصلحة الوطن وتقدمت مصلحة التنظيم، توارت المصلحة العامة وتقدمت المصلحة الخاصة، وبات ميزان الحكم على الأشياء بواعثه المزاج والميول لا الحقيقة والإنصاف، وتجرأت الأجهزة الأمنية في فلسطين لتصنع أدوات لها من بعض الشباب وتعمل على تصديرها للمشهد لإبقاء الانقسام في الحالة الشبابية وعدم توحدهم ولملمة جهودهم.

توصلت إلى أن معظم القادة الفلسطينيين السياسيين لا يستحقون مواقعهم وهم غير مؤتمنين على قضية العرب والمسلمين الأولى، ومنذ انطلاق النضال الفلسطيني حتى الآن عجزوا عن تحقيق أهداف سياسية أو حتى جبر الضرر، معظمهم هواة أسرى التجربة والخطأ ومستشارين عبء عليهم كما هم عبء على القضية، تجمعهم مصالح وإن بدا للشعب أنهم منقسمون، إلا أن أي منهم و بمكالمة تليفونية يمكن حل أي مسألة شخصية فيما بينهم و لصالحهم أما الشعب فعليه الانتظار والمناشدة.

لم يخل العام من مواطن أمل وبواعث نور ونقاط بيضاء كسرت سواد حالة الإحباط والتردي، فما زال البعض جسر أمل ونافذة حياة، قدوة في العطاء متقدم في البذل، وعلى قاعدة البقاء لمن صدق ليس لمن سبق نفتتح العام الجديد بأمل متجدد في الشباب وتغيير الحال وقرب للوطن وعودة للقيم.

وسوم: العدد 856