الخاطرة ٣٠٤ : فلسفة تطور الحياة (الروحي والمادي) الجزء ١٢

ز. سانا

خواطر من الكون المجاور

في المقالتين الماضيتين تكلمنا عن زاوية رؤية علوم الفيزياء والكيمياء في موضوع ولادة المادة وتطورها والتي منها سيتم بناء جسم الإنسان وجميع الكائنات الحية ، وذكرنا أن جميع خطوات تلك التطورات التي حصلت في تكوين المادة كانت تعتمد على قانون الرمز الإلهي (١٨) ، حيث من الاوتار الثلاثة التي يتألف منها هذا الرمز تم تشكيل ثلاث مجموعات من الجسيمات الأولية وهي (الألكترونات ، الليبتونات ، البوزونات) ، والتي ستدخل في تركيب الذرات ، حيث تركيب الذرة بشكل عام يتألف من قسمين : الأول وهو النواة والتي تتألف من نوعين من الجسيمات (البروتونات والنيترونات) وتمثل الرمز (٨) ، والقسم الثاني يتألف من الألكترونات ويمثل الرمز (١) . من تفاعل هذه الذرات واتحادها بع بعضها البعض سيتم تشكيل المركبات التي ستدخل في بناء الخلية الحية . وذكرنا أيضا أن أهم مركب في تكوين الأجسام الحية هو الماء والذي يعتبر هو أيضا صورة أخرى للرمز (١٨) حيث أنه هو الآخر يتألف من قسمين : الأول ويتألف من ذرتي هيدروجين ويمثل الرمز (٨) ، والثاني ذرة واحدة من أوكسجين ويمثل الرمز(١) .

ربما بعض القراء لم يعطوا أي أهمية لذلك التطابق بين شكل الأوتار الفائقة الثلاثة والجسيمات الأولية وتركيب الذرات وتركيب جزيء الماء مع تركيب الرمز (١٨) الموجود في كف يد الإنسان، وأعتبروا أن ما ذكرته عن الأوتار الفائقة وطريقة عملها في تكوين المادة هو من الغيبيات وأنه لا يوجد عليها أي دليل علمي يثبت صحتها . لهؤلاء القراء أود أن أقول لهم أن سبب هطول الأمطار بالنسبة للإنسان الذي عاش في العصور القديمة كان من الغيبيات أيضا ولكن اليوم فسبب هطول الأمطار أصبح معلومة فيزيائية بسيطة يعرفها الأطفال الصغار . ودور الأوتار في تكوين المادة أيضا أصبح معلومة فيزيائية يؤمن بصحتها نسبة كبيرة من علماء الفيزياء بعد ظهور نظرية الأوتار الفائقة ، أما عن حقيقة عدد وتفاصيل طريقة عمل هذه الأوتار فعلوم الفيزياء عاجزة وستبقى عاجزة عن تكوين فكرة حقيقية عنها كونه موضوع يتعلق بأمور روحية خارجة عن نطاق مقدرات البحث التجريبي ، ولكن الله عز وجل أعطى بعض المعلومات عنها في النصوص الدينية لتساعد العلماء في فهم أصل تكوين الكون وعلاقته بتكوين جسم الإنسان. ولكن المشكلة هنا أن علماء الفيزياء يفصلون العلم عن الدين ولهذا لم ينتبهوا لتلك المعلومات المذكورة في النصوص الدينية التي تتكلم عن هذه الأوتار ، أما بالنسبة لعلماء الدين فعدا عن أن معظمهم لا يملك ثقافة علمية فيزيائية تسمح لهم برؤية تلك الرموز التي تتكلم عن الأوتار الفائقة الموجودة في النصوص الدينية ، فهم أيضا يعانون اليوم من تعصب ديني ، حيث كل عالم دين يعتمد على نصوص كتب ديانته فقط ويرفض الإستعانة بالكتب المقدسة للديانات الأخرى ، فالآية في القرآن الكريم تذكر {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً .....(٣٦)النحل} وكذلك الأية {...... ۚ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ(٢٤)فاطر} ، فمن هذه الاوتار الفائقة تم تشكيل كل ما هو موجود داخل هذا الكون، فالموضوع يخص جميع الأمم وجميع العلوم وليس أمة واحدة أو علم واحد فقط، ولهذا كانت تعاليم هؤلاء الرسل من جميع الأمم هي من الذكر {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)الحجر} ، فالذكر موجود في جميع الديانات العالمية ورغم محاولة تشويهها ولكنها باقية إلى يوم الدين ، والحديث الشريف يؤكد صحة هذا الإعتقاد (إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ) أي هناك قسم كبير من مكارم الأخلاق موجود في نصوص الديانات التي سبقت الإسلام . الأخلاق بمفهومها العام هو سلوك الإنسان والذي في الحقيقة هو صورة روحية عن التكوين الروحي للإنسان ، فالتكوين الجسدي في الإنسان والكائنات الحية ليس إلا عبارة عن لوحة فنية تحتوي على تعابير روحية توضح لنا تلك الروح الموجودة في هذا الجسد . القرآن الكريم يحوي على كل معلومة ذُكرت في الكتب المقدسة الخاصه بالديانات الأخرى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) النحل} ، ولكن تم ذكر معظم هذه المعلومات على شكل رموز كونها موجودة في الكتب المقدسة الأخرى ولا يمكن لعلماء المسلمين فهمها إلا بالإستعانه بتلك الكتب . لهذا يظن بعض القراء المسلمين أن المعلومات التي أعتمد عليها في مقالاتي هي من خارج القرآن الكريم ، ولكن هذا غير صحيح فهذه المعلومات مذكورة بشكل رمزي في القرآن حيث تفسيرها يعتمد على الرؤية الشاملة التي تستعين بجميع زوايا رؤية الموضوع سواء كانت زوايا علمية أو زوايا دينية تتعلق بجميع الديانات العالمية .

كما ذكرنا قبل قليل أن موضوع ظهور الحياة هو موضوع فلسفي يستخدم الرؤية الشاملة ويعتمد بالدرجة الأولى على النصوص الدينية كونه يتعلق بشكل أساسي على مواضيع روحية تتعلق بأشياء حية . فالتناقض بين آراء مؤيدي نظرية التطور الداروينية الحديثة وآراء معارضي هذه النظرية يعطينا بداية في فهم حقيقة طريقة ظهور الحياة ،فمؤيدي هذه النظرية ليس الملحدون فقط ولكن هناك عدد كبير منهم يؤمن بالله والكتب المقدسة . فحسب علماء التطور أن الحياة (أي تكوين الـDNA) قد حدث نتيجة وجود ظروف مناسبة كانت تسمح بحدوث العديد من التفاعلات الكيميائية والتي أدت في النهاية إلى تكوين الخلية الحية البدائية ، بينما عند معارضي نظرية التطور أن هذا الأمر مستحيل وأنه قد حدث بواسطة تدخل إلهي والمعروف كمصطلح ديني بقوله تعالى (كن فيكون) ، فأي طرف هنا هو على صواب وأيهما على خطأ ؟ في الحقيقة أن الجواب هو أن كلاهما في المضمون على صواب ، أما في المعنى الظاهري فكلاهما على خطأ . كيف يمكن أن يحدث ذلك ؟ الأمر بسيط جدا ، فالنصوص الدينية في الحقيقة لا تتكلم عن خلق الحياة وخلق الإنسان في الجنة ولكنها تتكلم عن خلق الحياة والإنسان خارج الجنة، أي بعد طرده من الجنة . فهذه النصوص نفسها تحوي بعض الرموز التي تعطينا فكرة رمزية مبسطة جدا عما حصل في الجنة وعن نوعية الخطيئة التي تسببت في طرده منه ، فقوانين عالم الجنة مختلفة عن قوانين الكون التي يحدث فيها صراع بين روح الخير العالمية وروح السوء العالمية . فسورة التين تذكر {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥)} ، فخلق الإنسان في أحسن تقويم حصل في الجنة ولكن مع خروج الإنسان منها إنهار تكوين الإنسان إلى أسفل سافلين ، أي أنه أصبح روح عشوائية بلا جسد أي بلا مادة ، ولهذا وجب إعادة خلقه من جديد من اللاشيء ماديا من أجل تنقية تكوينه من جميع تلك الشوائب التي دخلته بسبب الخطيئة ، فهدف الخروج من الجنة هو إعادة تكوين الإنسان الروحي والمادي ليصبح ملائما للعودة إلى الجنة والعيش فيها . فتم في البداية إعادة الأوتار الفائقة التي تمثل الرمز (١٨) إلى شكلها الحقيقي مما أدى إلى حدوث الإنفجار العظيم في الثقب الأسود البدائي حيث ظهرت المادة لأول مرة فحدثت عندها ولادة الكون . فعملية خلق الإنسان خارج الجنة لم تحدث بشكل فجائي عن طريق (كن فيكون) ولكن بدأت منذ أن كان تكوين الإنسان في أسفل سافلين كما تذكر الآيات القرآنية { {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (٨)الإنفطار} ، فخلق الإنسان خارج الجنة بدأ بحادثة الإنفطار وكلمة إنفطار لها معنى التصدع والإنشقاق وهو ما حصل تماما عند إنفجار الثقب الأسود البدائي ، فخلْق الإنسان خارج الجنة بعد ظهور المادة استغرق حوالي /١٤/ مليار عام ، حيث عملية الخلق من جديد مرت بمراحل عديدة وأخذت أشكال عديدة حتى وصلت كل مرحلة إلى شكلها الصحيح ثم في الأخير تم جمعها في كائن واحد وظهر الإنسان بصورته الحالية. فالكون بأكمله هو بمثابة رحم حواء الذي يتم به إنجاب إنسان جديد بتكوين مماثل لتكوين هابيل الذي تقبل الله قربانه والذي عندما رأى أخاه يريد قتله قال له {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(٢٨)المائدة} . فما حصل في داخل الثقب الأسود وكذلك ما حصل من تطور في تكوين المادة والحياة هو مشابه لما يحصل في رحم الأم عند حملها {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍۢ وَٰحِدَةٍۢ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلْأَنْعَٰمِ ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍۢ ۚ يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ خَلْقًا مِّنۢ بَعْدِ خَلْقٍۢ فِى ظُلُمَٰتٍۢ ثَلَٰثٍۢ ۚ.....(٦)الزمر} ، هذه الآيه الكريمة تذكر (ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍۢ ۚ) الرقم (٨) هو الذي يؤلف القسم الأول من تكوين الرمز (١٨) ، وكما ذكرنا في مقالة ماضية أن هذا الرمز هو المصدر الأساسي للطاقة الكونية . والآية تذكر أيضا (ظُلُمَٰتٍۢ ثَلَٰثٍۢ) الرقم (٣) وهو الذي يعبر أيضا عن عدد الأوتار الفائقة في الرمز (١٨) ، فلكل وتر من الأوتار الثلاثة عملية خلق خاصة به ، فالظلمات الثلاث في الآية تشرح لنا حقيقة ما حدث من تصحيح في علاقة الأوتار الثلاثة مع بعضها لتأخذ شكلها الصحيح في الثقب الأسود ، أي عند تحوله من الشكل (٧) إلى الشكل (٨) حيث إرتباطه بالوتر (١) أدى إلى ظهور الأبعاد الثلاثة للمادة (طول ، عرض ، إرتفاع) والذي أدى إلى إنفجار الثقب الاسود البدائي . المعجزات التي حصلت في قصة موسى عليه الصلاة والسلام وخروجه من مصر والتي شرحناها في مقالة ماضية لم تكن صدفة ولكن لها معاني تساعدنا في فهم دور هذه الأوتار الثلاثة في عملية الخلق (خَلْقًا مِّنۢ بَعْدِ خَلْقٍۢ ) .

الآيات الأولى من سورة العلق والتي كانت بداية نزول القرآن الكريم كعلامة لبداية البعثة النبوية وظهور الإسلام كدين جديد ، هي أيضا تساعدنا في فهم دور هذه الأوتار في خلق الإنسان {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (٤)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ، فخلق الإنسان بدأ من (علق) ، وتعليمه بدأ ب(القلم) .هناك ترابط مباشر بين معنى كلمة (علق) ومعنى كلمة (قلم) ، فخلق الإنسان لم يكن من شيء واحد ولكن كان من عدة أشياء (ظُلُمَٰتٍۢ ثَلَٰثٍۢ) وهي الأوتار الفائقة الثلاثة (١٨) فرغم أنها تعمل كوحدة واحدة ولكن طريقة عملها يعتمد على نوعية تعلق هذه الأوتار ببعضها البعض ، فالمعنى العام لكلمة علق مصدره تعلق هذه الأشياء مع بعضها البعض أي إرتباطها مع بعضها البعض بشكل متناغم في تركيبة معينة ، فتكوين جزيء الماء -مثلا- ينتج من تعلق ذرتين من الهيدروجين مع ذرة من الأوكسجين . أما كلمة (قلم) فلها معنيين : الأول وهو من فعل (تقليم) ويعني أن فهم تكوين الأشياء يحتاج إلى فصل عناصر هذه الأشياء عن بعضها البعض لدراسة وفهم دور كل عنصر يدخل في تركيبها . أما المعنى الثاني للقلم فهو من المعنى العام لمفهوم كلمة (قلم) والذي يعني الأداة التي تستخدم في الكتابة ، فشكل القلم بشكل عام له شكل الوتر ، فالقلم هنا هو رمز الوتر الذي يدخل في تركيب الرمز (١٨) ، فالقلم عند تحريك رأسه على الصفحة يكتب لنا حرف والحرف له معنى بسيط جدا ، ولكن مجموع بضعة حروف تعطينا كلمة لها معنى محدد لصفة واحدة (كبير ، سريع ، جميل ... إلخ) ، حيث مجموع بعض الكلمات تعطينا جملة تحدد عدة صفات عن الشيء ، ومجموع عدة جمل تعطينا فقرة حيث تقدم لنا فكرة واحدة عن الموضوع ... وهكذا ، فكلما زاد عدد الكلمات وعدد الجمل وعدد الفقرات وعدد الفصول كلما أتضح مفهوم الموضوع أكثر فأكثر . هكذا تماما يعمل الوتر فمع كل إهتزاز يعطينا طاقة معينة ، ومع إتحاد الأوتار الثلاث بطرق مختلفة نحصل على طاقات بنوعيات مختلفة ينتج عنها الجسيمات الأولية ، ومن إتحاد هذه الجسيمات بشكل متناغم نحصل على نوع معين من الذرات ، ومن إتحاد الذرات المتنوعة نحصل على المركبات الكيميائيه الضرورية لتكوين أجسام الكائنات الحية البدائية التي تمثل أنواع معينة من وحيدات الخلايا ، ومع إتحاد هذه الخلايا نحصل على كائنات أرقى تمثل قسم من أجهزة الجسم ، وهكذا وفي الأخير مع إتحاد جميع الكائنات الحية نحصل على الإنسان .

فخلق الإنسان خارج الجنة حصل ضمن مراحل عديدة وليس بشكل فجائي {قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ(٢٠)العنكبوت} والآية {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (١٤)نوح} ، القرآن الكريم يطلب منا دراسة الكون والكائنات الحية لنستطيع من خلالها فهم مراحل خلق الإنسان . وهذه المراحل تبدأ من بداية تكوين المادة ثم ظهور الحياة ثم ظهور الإنسان وتطور الأديان والحضارات حتى يومنا هذا ، فجميع هذه المراحل لها علاقة بتطور تكوين الإنسان المادي والروحي . فتفسير عبارة (خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) بأن المقصود منها هو (نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم ... الخ ) هذا تفسير كان مناسبا للقرون الماضية فدراسة ما يحصل من تطور الجنين داخل الرحم بفصله عن تطور الحياة لن يُفيدنا كثيرا في فهم خلق الإنسان ، واليوم وبتقدم العلوم المادية يجب التعمق في تفسير هذه الآية بناءً على معنى الآية ({قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ(٢٠) العنكبوت} فعن طريق المقارنة بين تكوين الإنسان وتكوين بقية الكائنات الحية يمكننا فهم تلك التطورات التي حصلت والتي أدت إلى ظهور الإنسان .

هناك ملاحظة هامة يجب الإنتباه إليها في فهم معاني آيات القرآن والكتب المقدسة الأخرى ، وهي أن كلمة (آدم) في اللغة العبرية والتي هي لغة أول ديانة سماوية تعني (إنسان) ، فذكر كلمة (آدم) في القرآن والكتب المقدسة الأخرى، ليس بالضرورة أنها تعني آدم كشخص ، ولكن قد تعني أيضا الإنسان بشكل عام . فبسبب عدم الإنتباه إلى هذه الإزدواجية في معنى (آدم) ، ظن العلماء أن الآيات التي تتكلم عن خلق آدم يقصد بها خلق الإنسان في الجنة فقط، ولكنها في الحقيقة تقصد أيضا خلق الإنسان خارج الجنة.

فمسألة هل ظهور الحياة كان بسبب تدخل إلهي أم أنه تم من تلقاء نفسه ؟ فالجواب على هذا السؤال هو أنه تم من تلقاء نفسه ، لأن التدخل الإلهي قد حدث قبل ولادة الكون ، الله وضع شيفرة مشابهة في المبدأ لتلك الشيفرة التي توضع في الكمبيوتر ليجعل الآلات العديدة والمختلفة في المصنع تعمل من تلقاء نفسها لتصنع من الأشياء البسيطة منتجات ذات تركيب معقد جدا ، كعلب الكونسرفا والساعات والطائرات وغيرها . ف(DNA) هي شيفرة تعمل من تلقاء نفسها بصنع جميع خلايا وأجهزة جسم الكائن الحي ، وأيضا هناك شيفرة روحية إلهية موجودة داخل الكون تقوم بتنظيم مراحل الخلق من بدايته إلى نهايته من تلقاء نفسها والتي تكلمنا عنها في مقالات ماضية وهي (روح الخير العالمية) . الإنسان اليوم تمكن من صنع مثل هذا الكمبيوتر بشكله البسيط جدا ، فهل من المعقول أن الله عز وجل القادر على كل شيء أن يستخدم أسلوب بدائي في خلق ومراقبة الأشياء والتدخل فيها في كل لحظة ليغير شكلها ومسارها ؟ من يؤمن بهذا النوع في طريقة خلق الإنسان خارج الجنة فهو مخطئ في فهم القدرات الإلهية .ففكرة إكتشاف الكمبيوتر لم تحصل بالصدفة أو بفضل عقل بشري ولكنها في الحقيقة أتت من روح الخير العالمية إلى تكوين الإنسان ومنه إلى عقله .

التدخل الإلهي بمفهومه العام - كما ذكرنا قبل قليل - موجود من خلال المعلومات التي وضعها الله داخل شيفرة الكمبيوتر الروحي في روح الخير العالمية ، ولهذا نجد أن نموذج تركيب الـ(DNA) يتبع نموذج تكوين الرمز (١٨) ، فالشيفرة الوراثية في (DNA) تتألف من شريط مضاعف يلتف حول نفسه بشكل حلزوني (كما توضح الصورة) ، حيث كل شريط فيه يتكون من سلسلة مركبات عضوية تسمى نيوكليوتيدات مرتبطة ببعضها البعض على شكل درجات السِّلم ، حيث نجد كل نيوكليوتيد منها هو الآخر يتألف من قسمين : القسم الأول هو النيوكليوزيدات والتي تتألف من مركبين (أساس+سكر) ، فالنيوكلوزيد رمزيا يمثل الرمز (٨) . أما القسم الثاني فهو حمض الفوسفور والذي يمثل رمزيا الرمز (١) ، فالشريط الحلزوني المضاعف لـ (DNA) يوجد بشكل رمزي في شكل خطوط كفي يدي الإنسان اليمنى واليسرى (٨١-١٨) حيث مجموعهما كأرقام يعادل (٩٩) وهو عدد الأسماء الحسنى . فتركيب النيوكليوتيدات لم يتكون على هذا الشكل عن طريق الصدفة ولكن ضمن قانون الرمز (١٨) . بمعنى أن ولادة الـ (DNA) لم تحصل نتيجة ظهور فجائي لشيء جديد ولكن كان نتيجة تطور حتمي لتلك الأشياء التي سبقت وجوده . ولكن في الـ (DNA) ظهرت صفة مهمة جدا لم تكن موجودة في صفات المادة ، وهي إستطاعته على صنع نفسه والتكاثر والتي جعلت منه كائن حي مختلف عن العناصر والمركبات المادية . هذه الصفة الجديدة (التكاثر) التي حولت كتلة من المركبات الكيميائية إلى كتلة حية هي أيضا كانت موجودة داخل الكون فصفة (التكاثر) هي من أحد صفات الأوتار الفائقة الثلاثة في الرمز (١٨) فكل وتر من هولاء لديه المقدرة على صنع نفسه والتكاثر فلولا وجود هذه الصفة في الأوتار الفائقة لما حدث الإنفجار العظيم في الثقب الأسود البدائي. فهنا لدينا مرحلتين من التطور : المرحلة الأولى وهي مرحلة تكوين المادة التي بدأت عن طريق ولادة المادة وتطورها لتكوين جميع العناصر المادية الضرورية لبناء أجسام الكائنات الحية ، والثانية وهي المرحلة الروحية والتي بدأت بتكوين الـ(DNA) لتكوين جميع الخلايا والأجهزة الضرورية لتكوين جسم الإنسان فجسم الإنسان أيضا يمر في مرحلتين : مرحلة الطفولة حيث الطفل لا يستطيع التكاثر ، هذه المرحلة تمثل التكوين المادي ، ومرحلة البلوغ حيث عندها يستطيع الإنسان البالغ التكاثر . ولهذا تذكر الآية القرآنية {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍۢ(٣٨) ق} ، فرقم (٦) المذكور في الآية ليس رقما عشوائيا ، ولكن المقصود به (٣) أيام لتكوين العناصر المادية ، و(٣) أيام لتكوين المادة الحية ، فالرقم (٣) هو عدد الخطوط التي يتألف منها الرمز (١٨) حيث كل خط في هذا الرمز يمثل نوع معين من صفات التطور . ولهذا نجد أن العناصر الكيميائية توجد في (٣) حالات (جامدة ، سائلة ، غازية) ، وكذلك الكائنات الحية هي أيضا توجد في (٣) حالات (كائنات مائية ، كائنات يابسة ، كائنات جوية) ولهذا تذكر النصوص الدينية أن الإنسان ظهر في نهاية اليوم السادس للخلق ، واليوم السادس هو يوم الجمعة ، فوضع أسم (الجمعة) لهذا اليوم ليس صدفة ولكن حكمة إلهية لها معنى أنه تم جمع جميع أنواع هذه التطورات الستة ووضعها في كائن واحد وهو الإنسان كما تقول الآية القرآنية {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ(١٦)النمل} ، الطيور هي المرحلة الأخيرة في التطور العام للكائنات الحية ، ولهذا تأتي بعدها عبارة (وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ) ولهذا كان اليوم السادس في الأسبوع يحمل أسم (الجمعة) .

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : هل يمكن صنع كائن حي من المادة ؟ الجواب نعم يمكن ذلك إذا وجدت طريقة يمكن بها التحكم في السيطرة على عمل الأوتار الفائقة الثلاثة ، فوضع هذه الأوتار بشكل معين يمكن خلق كائن حي من مركبات مادية ، معجزات عيسى عليه الصلاة والسلام المذكورة في القرآن الكريم تؤكد ذلك منها إحياء الموتى ، وكذلك تحويل تمثال طير من طين إلى طائر حي {....أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ...(٤٩)آل عمران} ، ولكن المشكلة هنا أن مثل هذا النوع من العلوم هي من العلوم الإلهية التي لن يصل إليها العقل لا في المستقبل القريب ولا في المستقبل البعيد {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥)الإسراء}.

في المقالة القادمة إن شاء الله سنتابع موضوع ظهور الحياة وتطورها على سطح الأرض..

.... والله أعلم.

وسوم: العدد 960