حياتك من صنع أفكارك!

هايل علي المذابي

شدتني مقولة للدكتورة مناهل ثابت نشرتها على إحدى صفحاتها بأحد مواقع التواصل الاجتماعي، لكتابة هذا المقال كقراءة فاحصة وشارحة لها والمقولة هي: "إن العقل اللاواعي يتقبل الكلمات والأفكار التي يرددها المرء على نفسه ثم ما تلبث أن تتحول إلى أحداث وحقائق على الواقع"..

على ذات النسق نتذكر قصة قديمة تقول أن شخصا كان مطلوبا للعدالة وهاربا من وجهها، وإثر مطاردته وجد قطارا فاستقله ولم يجد بين مقطوراته مكانا للاختباء بداخله سوى ثلاجة القطار، وظل الرجل يحدث نفسه طيلة ليلته وحتى الصباح مرددا عبارة واحدة هي:" أنا سأموت .. أنا سأتجمد من البرد.. أنا سأموت .. أنا سأتجمد من البرد" وحين لاح الصباح وُجِد ذلك الرجل ميتا بداخل تلك الثلاجة وعندما قاموا بتشريحه لمعرفة سبب الوفاة وجدوا أن جميع أعضاءه قد تجمدت وأن سبب وفاته هو شدة البرد..

ليس المهم كيف مات ذلك الرجل.. المهم أن ثلاجة القطار كانت معطلة..!!

لقد عرف العرب قديما هذا السلوك معنىً لكنهم جهلوه أسماً، شأنهم في ذلك شأن علوم كثيرة، وقد سموه بــ" الكذب على النفس" ومما يؤكد ذلك قول لبيد بن أي ربيعة في معلقته:

" واكذب النفس إذا حدّثتها / إن صدق النفس يُزري بالأمل "

ومثل ذلك قول نافع بن لقيط:

" وإذا صدقت النفس لم تترك لها / أملاً ويأمل ما اشتهى المكذوبُ"

وجاء في الأثر عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله:" إذا حّدثت النفس خالياً فاكذبها " أي إذا اختليت بنفسك فاكذب عليها حتى لا تثبط من عزيمتها، فإذا حدثت نفسك بأنك بلغت قمة النجاح فهذا مؤذنٌ بالسقوط لأن ليس بعد القمة سوى الهاوية، وإذا كنت فاشلاً وحدثت نفسك بأنك إنسانٌ ناجح فإنك ناجح وستنجح فقط وببساطة لأن "حياة الناجحين مسلسل من الفشل" وأيضاً لأن قولك هذا يتحول إلى سلوكيات وأفعال على الواقع بمعنى أنه يهندس حياتك ويُصيغُ عالمك ويبرمج ذاتك ويمنحك الأمل والنجاح والنجاة كذلك، وقد أُطلِقَ على هذا في علم المنطق بــ" الخداع الذاتي"، وفي الفلسفة كما سماه الفيلسوف الفرنسي " جان بول سارتر" بـــ" خداع النفس" "self deception"  و"الإيحاء الذاتي " في علم النفس، وثمة مؤلَفْ غربي بعنوان " The Secret" "السر" وهو يعبِّر ويتناول قضية السياق الذي يردده المرء على نفسه دائماً وامتدادات سلطته في خضم الحديث عن سر العظمة وأسرار العظماء في التاريخ وما كان وراء عظمتهم، هذا السر كما يصفه الكتاب كان مجرد أفكار، والأفكار كالمغناطيس، تجذب الخير وتجذب الشر، تجذب السعادة وتجذب الشقاء، تجذب الفرح والسرور وتجذب الحزن، تجذب العظمة وتجذب الخيبة، وعليه فإن تفكير الإنسان في الخير يحُدث الخير وبالمثل تفكيره في الشر يجذب الشر، ولبوذا قولٌ يختزل فيه كل هذا وهو: "حياتك من صنع أفكارك"، وكذلك: "نحن ما نفكر فيه، وكل ما فينا ينبع من أفكارنا، وبأفكارنا نصنع عالمنا"، فإذا رُمت وفكرت في شيء ورددت على نفسك شيء فليكن كما قال الشاعر: "إذا ما كنت في شرفٍ مرومٍ/ فلا تقنع بما دون النجومِ"

فإن فكرت في أنك عظيم أو في أنك ستصبح عظيم ورددت الفكرة على ذاتك، فهذه عظمة بحد ذاتها، لأنها تقتضي الكثير من الشجاعة وجرأتك في هذا التفكير هي دليل عظمتك، حتى ولو لم يرى ذلك الآخرون، سببٌ آخر هو أن إيمانك بما تفكر فيه وبما تود أن تكونه وتردده دوماً على ذاتك يصبح بلا شعور وتلقائياً رسائل إلى العقل الباطن، تتحول من ثمّ، بوعي وبدون وعي، إلى سيطرة مطلقة متحكمة في كل أفعالك وسلوكياتك، فتكون هذه الأخيرة تمثيلاً لما يدور بخلدك وبما تفكر فيه، وتذكر فيما يخص العظمة أن الأمم لا تنجب العظماء إلا مرغمة، فإن أردت أن تصبح عظيماً فيجب عليك سلفاً أن تتغلب على أمتك جمعاء..، من ذلك أيضاً أن نابليون عرُف بأنه كان يقول دائماً ويردد على نفسه " فليُعطنا الله المجد وليأخذ عنّا راحة البال " ليتحقق قوله هذا من ثم ويُعطى المجد ويُسلب راحة البال فيموت كسيحاً منفيا معزولاً عن العالمين..

ثمة تجربة طبية أجريت، وتمثل فتحاً كبيراً في هذا المجال بجامعة هارفارد الأمريكية، للطبيب "هينري بيشر" على مجموعة من طلبة الطب، عددهم مائة طالب، حيث أعطى 50 منهم كبسولات حمراء وهي عبارة عن منشط هائل " باربيتورات" وأعطى النصف الآخر منهم كبسولات زرقاء وهي عبارة عن مهدئ هائل " إمفيتامين" ثم قام بتغيير محتوى الكبسولات فصار محتوى الكبسولات الحمراء هو المهدئ والكبسولات الزرقاء صار محتواها المنشط، وكانت النتيجة مذهلة حقاً فبعد أن تناولها الطلاب أدت نفس الاعتقاد المسبق في أذهانهم عنها وليس ما احتوته الكبسولات بعد تغيير محتواها، بمعنى أنهم لم يُعطوا دواءً غُفلاً ليس له تأثير، بيد أن السلطة للقناعات والاعتقاد المسبق لديهم كان أقوى من المفعول الكيميائي للعقار نفسه..!!؟

مثل ذلك وصفة " البلاسيبو" الطبية التي يصفها الطبيب لمرضى الجهل والخوف والتوهم المرضي، والبلاسيبو مجرد أقراص سكر تشبه في شكلها الحبوب الدوائية الأخرى، ورغم أنها لا تحتوي على أي تركيبة دوائية خلا مذاق السكر، إلا أنها فعالة جدا..!

إن الأفكار كالمغناطيس التي تجذب ما نفكر فيه وتحققه على الواقع.. وهذا التفكير وهذا الاعتقاد المطلق والصدق فيها يشبه في تفاصيله مسألة العقيدة، في عالم القناعات، وهي عقيدة بمعنى أدق لأنك إن لم تكن مؤمناً بما تفكر فيه فإن ذلك يُبطل تحققه على الواقع، ولأجل ذلك ليس ثمة غرابة أن نجد في مسألة العلاج والمرض مثلاً، والمشاعر والأحاسيس كالخوف والأمن والشجاعة والجبن والقلق والطمأنينة، وما إليه من الضديات من المشاعر، يقول بوذا تعبيراً عن هذا: "إن الإنسان لا يصل إلى العقل الخالص والحقيقة الخالصة إلا عندما يُدرك أن كل ما في هذه الحياة مجرد وهم."!! نعم وبالفعل الحياة وهمٌ كبير، ولندرك ذلك نذكر قول المتنبي:

" وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى / وما الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا "

وأيضاً قول الفيلسوف العبد " إيبكتيتوس":" ليست الأشياء في ذاتها خيراً أو شراً، وإنما يخيف الإنسان منها هو أفكارهُ وتصوراتهُ عنها ".

وسوم: العدد 988