خواطر من الكون المجاور.. الخاطرة 112 : راسبوتين الراهب الشيطاني

ز.سانا

في بداية القرن التاسع عشر وبعد إنتهاء عصر النهضة كانت اﻹنسانية تستعد لدخولها في مرحلة جديدة وبنوعية جديدة من مراحل تطورها، تماما كإنتقال الحياة من كائنات تعيش على اليابسة إلى كائنات لها أجنحة تطير في السماء. ورغم أن علماء وفلاسفة عصر النهضة كانوا قد مهدوا الطريق بشكل تدريجي لتدخل اﻹنسانية بهذه المرحلة إلا أن اﻷمور وبسبب روح السوء العالمية سارت بشكل مناقض تماما، حيث بدأت تظهر آراء علمية وفكرية تستند على حجج قوية كان هدفها الحقيقي هو تدمير كل معلومة أو إحساس يساعد على تقوية شعور اﻹنسان بذلك الجزء من روح الله في داخله ، فظهور نظرية داروين التي تحمل في جوهرها فكرة ( أصل اﻹنسان قرد )، ساعدت كثيرا الفيلسوف المطفف كارل ماركس الذي إستخدم مبادئ نظرية داروين في محاولة إثبات أن الله غير موجود وأن قصص اﻷنبياء المذكورة في الكتب المقدسة ليست إلا مجموعة من الخرافات ، حيث شن هجوما عنيفا ضد اﻷديان وخاصة الديانات السماوية حيث قال عبارته الشهيرة (الدين أفيون الشعوب وزفرة العقول اليابسة ) .

فكرة أصل اﻹنسان قرد وكذلك آراء ماركس وإثباتاته عن عدم وجود الله ، أحدثت تغيير جذري في طبيعة مفهوم اﻹنسان عن نفسه ، وهذا بدوره أحدث تغيير في طبيعة التعبير في مختلف أنواع الفنون ، فحتى تلك الفترة كان دور الفن بجميع أنواعه هو تنمية القيم السامية في اﻹنسان ليظهر كم هو اﻹنسان مختلف عن الحيوانات ولكن في القرن التاسع عشر بدأت تظهر تيارات فكرية تقوم بدور عكسي لتؤكد كم هو اﻹنسان مشابه للحيوانات فتحول الفن من تعبير الروح الكائن العلوي ( اﻹنساني ) إلى روح تعبير الكائن السفلي ( الحيواني ) .

محاولة سيطرة المذهب المادي على منهج البحث العلمي في القرن التاسع عشر أحدث صراعا عنيفا بين أصحاب المذهب المثالي وأصحاب المذهب المادي وهذا الصراع بدوره أحدث نوع من القلق على العديد من المفكرين البارزين فنجد روح اﻷديب الروسي فيودور ديستوفسكي التي شعرت بذلك الهجوم العنيف الذي بدأ يحدث من جميع الجهات ضد روح الله فنجده يذهب ويكرس كل ما يملك من معارف فلسفية ودينية ونفسية وبراعة في الصياغة اﻷدبية ليكتب روايته الخالدة " اﻷخوة كارامزوف " لتكون جرس إنذار يدق بأعلى صوته ليستيقظ المثقفون ليروا حقيقة ما يحدث ، حيث ذكر فيها عبارته الفلسفية الشهيرة " إن لم يكن الله موجود فإن كل القيم واﻷخلاقيات تسقط عن نفسها ويصبح كل شيء مباح من أصغر الذنوب إلى أبشع الجرائم ".

في تلك اﻷجواء الفكرية المتوترة ، ولد " راسبوتين " الراهب الشيطاني والذي سيلعب الدور المناقض تماما لتلك المرحلة الجديدة من التطور التي كان على اﻹنسانية أن تدخلها لولا نجاح المذهب المادي في السيطرة المطلقة على المنهج المادي في البحث العلمي. راسبوتين في الحقيقة ليس إلا رمزا يعبر تماما عن نوعية القاعدة الثقافية في العصر الحديث التي غابت فيها روح الله لتظهر بدلا منها روح السوء لتحدث نوعا من الغسيل الدماغي في عقول الناس لتدمر كل شيء جميل في المجتمع .

لتوضيح هذه الفكرة من اﻷفضل أن نلقي نظرة سريعة على سيرة هذه الشخصية الغامضة التي دفعت البعض باﻹعتقاد بأنها ليست إلا تجسيدا لشيطان نفسه.

في القرن التاسع عشر كما ذكرنا كان عصر النهضة قد مهد الطريق للإنسانية لتدخل مرحلة تطور روحية جديدة تختلف عن المراحل السابقة وكانت عجلة القيادة ستتحول شيئا فشيء من الشعوب الغربية في أوربا إلى الشعوب الشرقية في آسيا ،ﻷن الشعوب الشرقية - كما ذكرنا في المقالات الماضية - هي المسؤولة عن التطور الروحي للإنسانية ،فليس من الصدفة أن جميع الديانات ظهرت في آسيا ومنها إنتقلت إلى جميع شعوب العام . في تلك الفترة كانت روسيا هي رمز لهذا اﻹنتقال إلى المرحلة الجديدة ﻷنها تقع بين الشرق والغرب وكأنها صلة الوصل بين الحضارات الغربية والحضارات الشرقية.

في القسم الشرقي من روسيا وبالتحديد في سيبريا عام 1869 ولد غريغري يافيموفيتش الملقب براسبوتين ، في قرية ريفية فقيرة تدعى بوكروفسكوي. منذ طفولته ظهرت به بعض اﻷشياء تدل على أن هذا الطفل يختلف عن بقية اﻷطفال ،في البداية وبسبب اﻷحداث التي مرت بها عائلته، أهل القرية إعتبروه طفلا منحوسا ، فعندما كان بعمر 12 عام إحترق بيته وماتت أمه ، وبعد فترة قصيرة غرق هو وأخاه وتم إنقاذهما من قبل أحد أهالي القرية ولكن توفي أخاه في اليوم التالي أما هو فوقع في غيبوبة لعدة أيام ، وكذلك بعد فترة قصيرة من هذه الحادثة سقطت أخته في النهر عندما كانت تغسل الثياب فغرقت وماتت هي اﻷخرى ولم يبقى في العائلة سوى هو وأباه ، وبمعنى آخر جميع أفراد عائلته كانت وفاتهم إما حرقا أو غرقا ، وهو أيضا في آخر حياته ستكون سبب وفاته ليس التسمم أو طلقات الرصاص التي أصابته ولكن أيضا الغرق.

ويقال أنه بعد إستيقاظ راسبوتين من غيبوبته الطويلة بسبب غرقه في النهر مع أخيه ، أصبح يتمتع بقدرات عجيبة خارقة لا يمكن تفسيرها علميا. فكان مثلا يملك قدرة على شفاء أمراض الناس والحيوانات عن طريق لمس المريض دون اﻹستعانة بأي نوع من أنواع اﻷدوية أو اﻷعشاب ، وكذلك كان لديه المقدرة على إكتشاف السرقات ومعرفة الشخص الذي قام بالسرقة . وفي فترة المراهقة وبسبب علاقاته الجنسية الفاضحة وشرب الخمور تم تسميته ( راسبوتين ) وتعني بالروسية (الفاجر ، الفاسق ).

عندما أصبح بعمر 18 عام ترك قريته وذهب يبحث عن طريقة ينمي بها طاقاته الروحية ، فتعرف على طائفة سرية تدعى " خاليستي " وكانت تعاليم هذه الطائفة تعتمد على فكرة أن اﻹنسان يستطيع التقرب من الله عن طريق اﻹنغماس في أعماق الخطيئة ثم التوبة ليحصل على الخلاص . حيث كانت طقوس هذه الطائفة تتم بشكل سري و بعيدا عن أعين الناس حيث تبدأ بتعذيب الجسم عن طريق الضرب بالمجلاد ثم ممارسة الجنس الجماعي مع شرب الخمور وعندها عندما يشعرون بحجم شدة الخطيئة التي قاموا بها يطلبون التوبة من الله بكامل أحاسيسهم ، وبهذه الطريقة يتقربون أكثر من الله . فحسب إعتقادهم أن الرب لا يحب من عباده سوى أولئك الذين يتوبون بعد سقوطهم في الخطيئة ، فهذه الطريقة بالنسبة لهم أحب إلى الله من الفضيلة الجافة التي لا تواجه الخطايا ووساوس الشيطان.

بعد فترة عاد راسبوتين إلى قريته وتزوج وأنجب أربعة أولاد ، إلا أن حياته الفاسقة وإتهامه بسرقة أحد اﻷحصنة ، دفعه إلى الهرب من قريته فإتجه إلى أحد الأديرة وبقي هناك فترة قصيرة وهناك إستطاع إقناع الكاهن بأن يعطيه شهادة تثبت أنه راهب كنيسة ثم خرج من الدير وراح يتجول كراهب في مناطق مختلفة في روسيا وخارجها حتى وصل إلى مدينة القدس. وكان يظهر على الناس وكأنه قديس أعطاه الله المقدرة على شفاء اﻷمراض.

في تلك الفترة كانت اﻷوضاع في روسيا مناسبة تماما ليصل شخص مثل راسبوتين إلى المجد والشهرة ، فمن ناحية كانت الطبقة اﻷرستقراطية مهتمة جدا بمواضيع الروح وقواها الخفية والتنجيم والسحر ، ومن جهة أخرى كان اﻷمير أليكسي وريث عرش العائلة رومانوف الحاكمة ، مصاب بمرض الناعور الذي ورثه عن أمه حفيدة فيكتوريا ملكة بريطانيا العظمى. وكان هذا المرض في تلك الفترة لا علاج له فيكفي أي جرح صغير سواء كان خارجي أو داخلي يصاب به المريض أن يجعله ينزف دون توقف حتى الموت وذلك بسبب خلل في الجسم تمنعه من السيطرة على عملية تخثر الدم ، لذلك كانت حياة وريث العرش تحتاج إلى حرص شديد وعناية مستمرة كي لا يصاب بأي جرح. ومن ناحية ثالثة كانت الثورة الروسية في عام 1905 والتي فشلت في اﻹطاحة بالحكم قد حولت النظام في روسيا من ملكية مطلقة إلى ملكية دستورية وخلقت أيضا نوع من القلق على مصير العائلة الحاكمة ، فكان الوضع في روسيا بحالة متوترة جدا وكان أفراد العائلة الحاكمة في أمس الحاجة إلى إنسان ديني روحي يساعد في تقربهم من الله ليبارك لهم ويحميهم ويمنع المعارضين من إطاحة النظام الحاكم.

في ذلك العام ، عام 1905 وصل راسبوتين مدينة سان بطرسبرغ ، واختار اللحظة المناسبة ليعرض قدراته على الأسرة الملكية فقد كانت حالة وريث العرش في خطر فكان مصابا بنزيف واﻷطباء لم يستطيعوا أن يفعلوا أي شيء لوقفه ، فطلب راسبوتين أن يقابل المريض ووضع يده على رأسه وراح يتلو بعض الجمل الدينية وخلال دقائق قليلة كان النزيف قد توقف نهائيا. ومرة أخرى كان راسبوتين قد ذهب لزيارة زوجته وأولاده ، وكان اﻷمير أليكسي في الحمام فسقط وأصيب ببعض الكدمات والجروح فأصبح ينزف ببطئ ولعدة ايام ، ورغم محاولة جميع اﻷطباء في إيقاف النزيف ولكن محاولاتهم جميعها باءت بالفشل ، وساءت صحة اﻷمير الصغير إلى درجة جعلت اﻷسرة الحاكمة أن تعد بيانا رسميا تعلن فيه عن وفاة اﻷمير وريث العهد. ولكن عندما عاد راسبوتين وبمجرد وصوله دخل إلى غرفة الطفل وقرأ عليه بعض الجمل ، فتوقف النزيف وراحت صحة الطفل تتحسن بالتدريج ليعود ثانية إلى حالته الطبيعية.

عندما رأت الأمبرطورة ألكساندرا فيوديوروفونا مقدرة راسبوتين على شفاء إبنها ، نظرت إليه وكأنه ملاك أرسله الله لحماية إبنها وعائلتها ، فأصبح بالنسبة لها أهم رجل في روسيا بأكملها، فأصبح مستشارا مقربا جدا من العائلة الحاكمة وخاصة بالنسبة لها. وهكذا شيئا فشيء أصبح راسبوتين من خلال تدخله في قرارات الدولة يتحكم في أمورها السياسية والمالية وكأنه هو الحاكم الفعلي وخاصة عندما كان القيصر بعيدا منشغلا بحربه مع جيوش الألمان ، فكان راسبوتين يعزل من يشاء من الحكومة ويضع من يشاء ، فتحولت مدينة سان بطرسبرغ إلى مدينة يحكمها الشيطان نفسه حتى أنها أصبحت تعرف باسم ( مدينة إبليس ) ﻷن حاكمها الحقيقي هو نفسه راسبوتين ، حيث كانت حياة راسبوتين عبارة عن سكر وعربدة وبمقدراته الروحية الخارقة ﻹغواء النساء كان يغتصب كل إمرأة يشتهيها ، وبعضهن كن زوجات كبار النبلاء ورجال الدولة ، وهذا ما جعله مبغوض جدا من الجميع وخاصة أقرباء العائلة الملكية وهم يرون هذا الفاسق قد إستطاع سحر الإمبراطور واﻷمبراطورة وجميع أفراد العائلة الحاكمة ليحقق كل ما تشتهيه نفسه الدنيئة.

كان راسبوتين طويل القامة ، عريض الصدر ، وكان يتمتع بقوة جسدية كبيرة جدا تجعل من كف يده وكأنها تستطيع تحطيم الحجارة لذلك رغم محاولات عديدة ﻹغتياله ولكن قوته الجسدية ومقدراته الخارقة كانت تؤدي إلى فشل جميع محاولات اغتياله ، حتى أنه عندما إستطاعت إحدى النساء طعنه على غفلة منه، ورغم أن السكين كان قد إخترق بطنه ووصل إلى أحشائه ولكنه تعافى منها بعد أيام قليلة. وكثرة فشل محاولات اغتياله دفع الناس بالظن بأن راسبوتين إنسان خارق لا يموت.

في عام 1916 فئة من أقارب العائلة الحاكمة وصل بهم الأمر إلى عدم تحمل ما يفعله راسبوتين بأمور الدولة فوضعوا خطة لاغتياله ، حيث قام اﻷمير فيلكس بدعوة راسبوتين إلى بيته ليتعرف على زوجته اﻷميرة إيرينا ، فلبى راسبوتين هذه الدعوة ليقابل اﻷميرة التي كانت تعتبر من أجمل نساء روسيا ، وهناك وقبل أن يلتقي بها قدم له اﻷمير نبيذ مسموم يكفي لقتل خمسة أشخاص مع كعك أيضا مسموم. ولكن راسبوتين شرب الخمر وأكل الكعك بدون أن يظهر عليه أي أثر للتسمم فلم يصدق اﻷمير فيلكس ما يحصل ولم يستطع التحمل أكثر فأخرج مسدسه وأطلق عليه الرصاص ، وعندما سمع المتآمرين صوت الرصاص هرعوا إلى الغرفة فشاهدوا راسبوتين متمددا بدون حراك والدم ينزف من صدره فظنوا أنه قد فارق الحياة ، وعندما أقترب أحدهم منه ليتأكد من موته فتح راسبوتين عيناه وأمسك به من عنقه ليقضي عليه ، فهجم عليه بقية الشلة وراحوا يخلصون صديقهم منه ، ولكن راسبوتين دفعهم ونهض مترنحا يحاول الخروج إلى ساحة القصر للهروب فإنهالوا عليه بهراوة على رأسه وأشبعوه ضربا ولكن راسبوتين كان يرفض أن يموت ، فقيدوه ورموه في النهر وعندها فقط مات راسبوتين غرقا.

قبل وفاة راسبوتين بفترة قصيرة أرسل إلى القيصر الروسي خطابا يقول فيه (.... عندما تقرع اﻷجراس ثلاث مرات ، ستعلن عن مقتلي فإن كان قاتلي من الشعب عندها ستحكم روسيا أنت وأولادك ﻷجيال عديدة ، أما إذا كان قاتلي من حاشيتك ، فستقتل أنت وعائلتك على يد الشعب الروسي خلال سنتين. . ..،) .

وفعلا بعد عدة أشهر من وفاة راسبوتين حدثت الثورة البلشفية ( عام 1917 ) وتم القبض على القيصر وعلى جميع أفراد عائلته وفي عام 1918 تم إعدام العائلة الملكية بأكملها كما ذكر راسبوتين في خطابه.

كثير من الباحثين حاولوا تعليل المقدرات الخارقة التي إمتلكها راسبوتين ونظروا إليها وكأنها أشياء عادية يمكن تفسيرها علميا ، ومعظمهم يعتقدون أن لغز هذه اﻷعمال الخارقة يكمن في براعة راسبوتين في التنويم المغناطيسي ، ولكن من يبحث جيدا في مدى تأثير راسبوتين على العائلة الحاكمة الروسية بشكل خاص وعلى المجتمع الروسي بشكل عام سيجد أن اﻷمور هي أبعد بكثير من ( مقدرة التنويم المغنطيسي ) .فراسبوتين لم يكن إنسانا عاديا ظهر فجأة وأختفى وإنتهى أمره ، ولكن كان ظهوره نقطة سوداء كبيرة في تاريخ اﻹنسانية حيث ظهوره في تلك الفترة الزمنية بالذات قد غير مجرى اﻹنسانية بأكملها نحو اﻷسوأ ، فلولاه ربما لما كتب للثورة الشيوعية النجاح وكذلك ما كان وجد اﻹتحاد السوفيتي على اﻹطلاق ، ولربما لم ينقسم العالم إلى معسكر شرقي ومعسكر غربي ليجعل اﻹنسانية تنقسم إلى قسمين حيث كل قسم عدو للقسم اﻵخر . . فظهور راسبوتين في روسيا يعتبر في الحقيقة من أهم اﻷسباب التي ساهمت في إنتشار الماركسية في الشعب الروسي ومنها إلى الكثير من شعوب العالم .

راسبوتين كان فعلا إنسانا يملك مقدرات خارقة يعجز العلم عن تفسيرها ، ولكنه إستغل جميع هذه المقدرات في إشباع رغبات نفسه الدنيئة. ولكن قد يتساءل البعض هنا كيف يمكن لإنسان بروح سوء أن يملك مثل هذه المقدرات الروحية والتي عادة كان يملكها فقط اﻷنبياء واﻷولياء؟

......يتبع في المقالة القادمة إن شاء الله

وسوم: العدد 697