تفسـير سـورة الأعلـى الحلقة الرابعة

العلامة محمود مشّوح

تفسـير سـورة الأعلـى الحلقة الرابعة

5 / 11 / 1976

العلامة محمود مشّوح

(أبو طريف)

إن الله مع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون .. أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :

استعرضنا معكم في الجمعة الماضية جانباً من سورة الأعلى ونأمل اليوم إذا يسر الله تعالى أن نفرغ من الحديث عن هذه السورة إن استيسر ذلك . انتهينا من البحث في قول الله جلّ اسمه ( سنقرئك فلا تنسى ، إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ) وعرضنا لبعض التفصيل لما يعنيه هذا الكلام ، وعلى وجه الخصوص لما يُفهم من الإقراء ، وعُنينا بصورة خاصة بالتفرقة بين أمرين ، ما أحوج الناس في هذه الأيام إلى أن يفرقوا بينهما ، عُنينا بالتفرقة بين مفهوم القراءة العامي المبتذل ، وهو ما يكون من الناس غالباً ، وبين مفهوم القراءة وفاقاً لحقائق اللغة ومعطيات اللسان وقوانين الشريعة ، فرأينا أن القراءة تساوي أن يمتلئ الإنسان بهذا الذي يقرأ ، وأن يخالط منه اللحم والعظم والعصب ، وأن يكون بالتالي محركاً ومؤثراً بارزاً في السلوك ، وبغير هذا فإن القراءة لا تكون أكثر من حركة لسـان لا مردود لها ولا قيمة ، ولعمري إنه يكفي للإنسان المسلم أن يلتفت إلى تاريخه .. إلى تلك الفترة المنيرة المضيئة من حياة الإنسانية ، ويتعرف على ما كان يفعله أصحاب رسول الله صلوات الله عليه حينما يتلو عليهم رسول الله عليه السلام آيات الله ، فإن تاريخ تلك الفترة مليئ بالشواهد والوقائع التي تكشف عن الحرص البالغ الذي كان مستولياً على أصحاب رسول الله عليه السلام ، من أجل أن يتعرفوا على هذا الكلام الذي يتنزل من عند الله جلّ وعلا .

لكم أن تتصوروا في أذهانكم صورة الرجل الذي آمن بالله واتبع رسوله صلى الله عليه وسلم وعاش في شوق شديد إلى سماع المزيد من آيات الله جلّ وعلا ، على كثرة الشواغل وضيق ذات اليد وصعوبة طرائق المعاش في ذلك الزمان ، وحيثما قلبتم من التاريخ صفحات فأنتم واجدون صورة هذا الرجل الذين يُنيب عنه أحد إخوانه ليحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يذهب هو ليضرب في الأرض لكي يعيش ، وعهدنا بالناس أنهم إذا انتهى النهار وفرغوا من العمل حلّ عليهم التعب ، فهم يلتمسون الراحة ويبتغون إليها الوسائل ويطلبون الترويح والتسلية عن النفس ، ولكن هذا الرجل الذي أمضى سحابة النهار في تلك الظروف الصعبة يضرب في الأرض بمحراثه أو بفأسه أو يحمل على كتفه أو يضطرب في سوقه لا يُحس آلام العمل ومتاعبه ، وإنما يحس معتلج الشوق إلى أن يلقى هذا الأخ الذي أوكل إليه أن يحفظ عنه كلام رسول الله صلى الله علبيه وسلم في هذه المدة التي غابها عن المجلس الكريم ، فهو يأخذ في آخر النهار من حقائق التنزيل ما فاته أن يسمعه في سحابة النهار.

إن هذا الحرص وحده دليل على إدراك جيد لمعنى القراءة ، وأنها عمل يتسم بالمسوؤلية ، وليس كما يفعل الناس اليوم .. صفحات تقلب وسـطور يمر عليها النظر ، قد تتصل بالعقل أو النفس وقد لا تتصل ، وإذا اتصلت فيا سوأتاه .. إن هذا المجتمع المسلم منذ انشطر واقعه الإنساني انشطر أيضاً واقعه العقلي ، منذ أن أصبح الناس يعيشون في رؤوسهم بشيء وفي سلوكهم بشيء آخر انشطر أيضاً جانبهم العقلي ، فأصبحت القناعة شيئاً لا يتصل بالسلوك ولا يؤثر على سير الإنسان ، ولا يُطلب منه أن يكون سكاناً يُعدّل لهم دفة الحياة . للأسف ذلك هو الذي كان ، وهذا هو المغزى الذي أطلتُ الوقوف عنده في الأسبوع الماضي كي ألفت انتباه الإخوة إلى شناعة التقصير الذي وقع المسلمون فيه ، نتيجة لعدم الاهتمام ، وعدم تناول الأمور بالجدية اللازمة . ما لنا ؟ هذا حديث في الواقع يمزق القلب وهو تتمثل فيه مأساة المسلمين ، لنمضي مع الآيات .

بعد أن يقول الله جلّ وعلا ( سنقرئك فلا تنسى ، إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ) يتصل الخطاب إلى رسول الله عليه السلام قائلاً ( ونيسرك لليسرى ، فذكّر إن نفعت الذكرى ، سيذكر من يخشى ، ويتجنبها الأشقى ، الذي يصلى النار الكبرى ، ثم لا يموت فيها ولا يحيا ، قد أفلح من تزكى ، وذكر اسم ربه فصلى ، بل تأثرون الحياة الدنيا ، والآخرة خير وأبقى ، إن هذا لفي الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى ) نحن حقاً محتاجون الآن إلى شيء من العناية في القول وفي الاستماع ، إن هذا القرآن كما كررنا مراراً جسم واحد ، وكل سورة لها شخصيتها الخاصة ، ومن أشنع الخطأ أن تفهم آيات الكتاب الكريم تفاريق وأجزاء . حاولوا أن تلتقطوا الخيط الذي يربط هؤلاء الآيات ، ولنساعدكم على ذلك .

أما قوله جلّ وعلا ( ونيسرك لليسرى ) فهو مرتبط بالذي قبله ، لاحظوا أولاً تعهد من الله جلّ وعلا بأنه سيتولى إقراء رسوله الكريم صلوات الله عليه هذا القرآن وعلى النحو الذي شرحنا جوانب منه ، إقراءً تمتلئ به النفس ويعمر به القلب ويعطر على السلوك آثاراً مادية واضحة بينة ، ثم ليس يكفي أن نقتنع بالشيء وأن يتصل الشيء ذاته بواقع الحياة ، فأنت قد تصطدم بظروف لا قبل لك بها ، صعبة للغاية ، ولقد كان من قبل في تاريخ النبوات بالذات عوامل من هذا القبيل ، حينما عتت أمم على ربها وتمردت على شرائع أنبيائه وعصت رسل الله جلّ وعلا ، عاقبها الله تبارك وتعالى بأن شدد عليها الوجائب والتكاليف ، فحينما أُقرئت كتب الله جلّ وعلا اصطدمت بالواقع الذي لا قبل لها به . فاليسرى جاءت هنا وصفاً لمجمل الشريعة التي حملها محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس ، واليسرى ليس كما يفهم قصار النظر أنها هي الشريعة المبنية على التخفيف والتسهيل ، طبعاً هذا فهم قاصر ، فالحقيقة أن السهولة والصعوبة والتخفيف والشدة أمور نسبية ، فما هو صعب على شخص قد يكون سهلاً على آخر ، وما هو سهل يسير على زيد قد يكون عسيراً على عمرو ، فالأمر هنا نسبي ، انتبهوا إلى ما أقرره لكم الآن ، لكن المسألة كلها تُرد إلى حقيقة ، إن الشرائع تكاليف وأعباء وواجبات ، وحين كنا نتحدث في بدايات أحاديثنا منذ سنة وأكثر من نصف السنة كنا نستعرض واقع العمل النبوي ، فرأينا من خلال النصوص التي استعرضناها أن النبوة تكاليف وأثقال وشدائد ومؤونة لا يستقل بها ولا يقوم بها إلا أولو العزم من الرجال بعون من الله تعالى وتوفيقه . المسألة لا أحب أن يقع ما يتردد في كتبه الفقه وكتب أصول الفقه من أن شريعة الإسلام مبنية على المياسرة وعلى المسامحة وعلى السهولة وعلى الخفة ، هذا كلام يقال لبيان وصف فقهي وأصولي ، وأما الحقيقة فغير ذلك ، كلام الفقهاء ينصب على واقع حصل فيه تغيير يتساوق مع حقائق الشرع ، وأما حين تختل الأمور فالمسألة تختلف ، لأقرّب الأمر .. خذ مثلاً أي جهاز ميكانيكي وخالف بين تراكيبه وخالف بين دقائق الجهاز الذي يتركب منه ، إنك ستحصل على واحدة من نتيجتين : إما أنّ الجهاز يتعطل ويتوقف إذا كانت المخالفة فظيعة وكبيرة ، وإما أن الجهاز يدور ويعمل لكن بمشقة وبعسر ، واحد من أمرين لا ثالث لهما ، نفس الإنسان كذلك ، جهاز مجموعة من الحوافز ، مجموعة من الدوافع ، مجموعة من القابليات ، وظيفة الشريعة ماذا ؟ أن تضع كل حافز وكل دافع وكل قابلية في مكان الذي تؤدي فيه أداءً كاملاً غير مصطدم وغير مضطرب ، حينما تتناسق النفس الإنسانية بهذا الشكل يكون العمل الإسلامي يسيراً غير عسير ، لأنه يستخدم كامل الفاعلية في الجهاز الذي هو الشخصية الإنسانية ويستخدمها على وجوهها الصحيحة المضبوطة ، ليس يعني هذا نفي التكليف ولكن يعني أن تكون للتكاليف تلك اللذة التي يجدها الإنسان حينما يؤدي عملاً ما أداءً صحيحاً ومضبوطاً .

إن الإنسان حينما يؤدي أي عمل على نحو نموذجي يشعر بهذه الراحة ويشعر بهذه اللذة ، تصور أنه أوكلت لك مهمة فأديتها على أحسن ما يرام وعلى أكمل ما يرام وتحملت متاعب ، إنك في هذه الحالة تنسى متاعبك جميعاً ، بل إن الإنسان حينما يستغرقه هذا العمل يجد اللذة والسهولة واليسر والراحة في هذا العمل بالذات ، في غمرة العمل وفي ذروته . ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ادلهمت عليه الخطوب وإذا اشتدت عليه متاعب الحياة وإذا عبس الناس في وجهه يفزع إلى الصلاة وينادي بلالاً قائلاً : أرحنا بها يا بلال . كلام يبدو للناس للذين لا يتأقلمون مع هذه الأجواء كلاماً مضطرباً ومتناقضاً ، إنك في غمرة التعب وتقوم إلى تعب وتصلي صلاة تقف فيها حتى تتورم قدماك ، أهذه راحة ؟ نعم راحة ، راحة عند الإنسان الذي ينسجم مع العمل ، فوصف الشريعة بأنها يسرى ، ووصف هذا بأن الله ييسر الإنسان له يحمل هذا المعنى ، ولا ينبغي أن يُفهم بصورة باتة عند الناس الجادين أن المراد بتكاليف الشريعة هذه الأعمال الصغيرة ، ركعتان أو أربع ينقرهما الإنسان نقر الديك ثم يمضي ، ولا ينبغي أن يُفهم أنها صيام يصومه الإنسان على أمل أن يلقى مع المغرب مائدة متعددة الألوان وما أشبه ذلك ، كلا ، تكاليف الشريعة أكبر من هذا وأعمق من هذا ، ولكن تيسيرها يتجلى في عبقرية الإسلام حين يضع كل حاسة من حواس الإنسان وكل حافز من حوافز الإنسان وكل قابلية من قابلية الإنسان في المكان الملائم له الذي يؤدي فيه أداءه بصورة حرة وبصورة متناسقة مع سائر أجزاء هذا الجهاز ، فتكون السهولة ويكون اليسـر حاصلاً من هذا الباب لا غير .

نقول هذا كي لا ينزلق أحد مع هذا الفهم العامي المغلوط ليسر الشريعة ، في الواقع الإسلام لم يأتِ ليوفر للإنسان راحةً ينعم معها بالسرير الوفير وبالبال المستريح أبداً ، الإسلام نداء نزل من السماء إلى هذا الإنسان الذي استخلفه الله تعالى في الأرض ليمسك بزمام الحياة فيلوي عنانها ليّاً عنيفاً حتى يخرجها عن المحور الغلط الذي تسير فيه الإنسانية ، عمل من هذا النوع لا يمكن أبداً أن يكون مبناه على السهولة والتفلّت وعلى عدم الاهتمام ورفض الجدية . يسر الشريعة يجب أن يفهم بهذا الشكل ، ولهذا أُسند التيسير إلى الله ما لم يكن في المسألة عون من الله جلّ وعلا فلا أصعب ولا أشق من مواجهة هذه المهمة .

ومن هنا تكتشفون فعلاً معنى هذه الصيغة ( ونيسرك لليسرى ) لم يقل أنك ستواجه اليسرى ، ولم يقل أنك تُيّسر نفسك اليسرى ، وإنما قال : نحن ـ أي الله ـ سوف نيسرك لليسرى ، ما لم يتدارك الله بعنايته الإنسان فيضعه على قاعدة الإيمان فإن أي عمل من أعمال الشرع ، حتى الوضوء الذي هو نظافة وطهارة وعمل خيري يجده الإنسان ثقيلاً كالجبل ، فالتيسير من الله ( ونيسرك لليسـرى ) لكن متى جاء هذا ؟ بعد تعهد الله لرسوله عليه الصلاة والسلام بالإقراء .

إذاً أول خطوة في هذا المنهج الذي تخطه السورة هو عماية الإقراء التي تساوي عملية الفهم والتثقيف ، أنت أيها المسلم مطلوب منك أن تؤدي عملك ، لكن قبل أن ترفع قدمك لتخطو الخطوة الأولى عليك أن تعرف ماذا تريد ؟ ماذا تريد مسطور في هذا القرآن ، قبل أن تتحرك اعرف القرآن كله ، والآن تكتشفون أن من أكبر من الخطل أن يتطفل على القرآن ناس يقتطعون منه آيات ليحاولوا فهمها على طرائقهم الخاصة وبأسلوبهم المزاجي المائع الخطر ، الآن تكتشفون .

بعد أن يقول الله ( ونيسرك لليسرى ) ماذا يقول ؟ يقول ( فذكر ) والخطاب ما زال مستمراً باتجاهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فذكر إن نفعت الذكرى ، سيذكر من يخشى ، ويتجنبها الأشقى ، الذي يصلى النار الكبرى ، ثم لا يموت فيها ولا يحيا ) حينما تعودون إلى كتب التفسير وتطالعون فيها ما قاله المفسرون عن هذه الآية ، فأنتم تجدون للمفسـرين رأيين بارزين ، المشـكلة ليسـت تتجلى فـي كلمة ( فذكّر ) ولكن تتمثل في كلمة ( إن نفعت الذكرى ) هذا شرط ، الذين يعرفون اللغة العربية يعرفون معنى الشرط ، كأنما ظاهر الآية يقول لرسول الله عليه السلام : ذكّرْ طالما وجدتَ أن الذكرى نافعة ، وأما إذا كانت الذكـرى غير نافعة فلا عليك ألا تُذكّر ، هذا ظاهر الكلام ، وللأسف بعض المفسرين سقطوا في هذا الفهم القاصر ، بعضهم الآخر حمل المسألة على اتجاه غير هذا ، قالوا : مراد الله جلّ وعلا في ذلك أنه ( فذكر إن نفعت الذكرى ) بالنسبة للناس الذين يؤمنون ، وأما بالنسبة للناس الذين أعلمناك أنهم لن يؤمنوا كالوليد بن المغيرة وأضرابه فلا تذكّرهم ، وعجيب أن تفهم آيات الله على هذا النحو ، وهذا هو خطر التجزئة في فهم القرآن الكريم ، إن أي معنى وأية فكرة تريد أنت أن تفهمها بالضبط فعليك أن تستجمع كل الصيغ الواردة في هذا المعنى وتضعها أمامك ، وعليك أن تنسق وترتب وأن تصل إلى الفهم من خلال هذه الصيغ جميعاً ، أما من صيغة واحدة فالأمر خطر ، قلنا للمفسرين رأيان أحدهما هذا الأخير والثاني الذي قلناه لكم أولاً ، وقالوا : إنه جاء على سبيل التعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لماذا ؟ قالوا : إن رسول الله حين جاءته الرسالة من الله تبارك وتعالى وأُمر بالبلاغ صدع بأمر ربه وأبلغ الناس وكانت مواقف الناس منه متباينة ، منهم من قبل ومنهم من أعرض ومنهم بين بين ومنهم من تمادى في العنفوان ، ومن تمادى في الصد ومن تمادى في العداوة ، والرسول عليه الصلاة والسلام بشر يتألم كما يتألم البشـر ، وينزعج لهذه الظواهر ، ويضيق صدره ، ويحزن ، والله جلّ وعلا أبان ذلك في الكتاب ( قد نعلم أنه يحزنك الذين يقولون ) وأبان عن جانب مقابل وهو أن هذا النبي المكلف كان يتحرّق شوقاً أن يتقبل الناس كلهم هذه الرسالة ( فلعلك باخع نفسك ) أي مهلكها وقاتلها ( على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) كانت رغبة الرسول عليه الصلاة والسلام من الشدة في الحد الذي استوجبت أن ينزل الله عليه آيات تعزيه وتسليه وتهون عليه من شأن هذا الإعراض كي لا تتأثر صحة الرسول عليه الصلاة والسلام ، قالوا هذا من ذلك الباب ، فحينما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقابَل في الإعراض أنزل الله عليه هذا الكلام ليعزيه ( فذكّر ) طالما رأيت أن الأمور ماشية في طريقها ، وأن التذكير نافع ، وأما في غير هذه الحالات فخذ راحتك ، لا تذكر أحداً .

عجيب هذا الكلام .. انظروا حينما نأخذ الأمر في إطاره الصحيح ، نحن نقرأ في الكتاب قول الله جلّ وعلا ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ) وهذا نفي لإيمان طوائف من الناس حق عليهم أن يموتوا على الكفر ويدخلوا النار ، ونحن نقرأ في فواتح البقرة ( إن الذين كفروا سـواء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) فإن قمت بالإنذار والبلاغ وإن قعدت فهؤلاء لن يؤمنوا ، إذاً فهنالك صنف من الناس لن تجدي فيهم الموعظة ، ولن يبلغ فيهم التذكير أي مبلغٍ ، ما الموقف من هؤلاء الناس ؟ هل نحجب عنهم التذكرة والبلاغ ؟ هنا لب المشكلة ، نسأل لتحلّ المشكلة معنا تماماً ، إننا نعرف قطعاً أن الله جلّ وعلا قضى على بعض الناس أن لا يؤمنوا مهما جئتهم بأية آية ، لو جئتهم بكل آية ما قبلوا منك شيئاً ، والله جلّ وعلا تكلم عن طوائف من أهل الكتاب فقال ( ولو أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من الله من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير ) إذاً فهناك طائفة من الناس لا سبيل إلى أن تهتم بهم ، والمشكلة تكون صحيحة حينما نعلم أعيان هؤلاء الناس ، نعرف أن فلاناً وفلاناً وفلاناً محكوم عليهم بعدم الإيمان ، في هذه الحالة فقط يكون توجيه البلاغ إليهم عبثاً ، لأنه بمثابة صب الماء على الصفا والصخر الأصم لكي تستنبت منه الزرع والثمار ، شيء في غير محله .

لكن الواقع خلاف هذا ، الواقع أن الله جلّ وعلا أبهم هذا الأمر ، قضى أن أناساً لن يؤمنوا ، ولكن لم يكشف لنا عن أسمائهم ولا أشخاصهم ولا أعيانهم ، ولو كشف لنا ذلك لتعطلت حكمة الخلق كلها ، الله جلّ وعلا أراد أن يعوم البلاغ ، فلهذا أبهم ، وإبهامات الشرع واضحة ، أنتم الآن في يوم جمعة والرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن في يوم الجمعة ساعة هي ساعة الإجابة ، لا يوافقها عبد مسلم فيدعُ الله تعالى بشيء من أمر الدنيا أو الآخرة إلا أعطاه الله إياه ما لم يدعُ بإثم أو بقطيعة ، لكن متى ؟ لا أحد يعلم ، الساعة هل هي مع الفجر أم بعد الفجر بعد الشمس وقت الصلاة قبل المغرب مع المغرب ؟ لا أعلم ، حينما أبهمها الله جلّ وعلا أراد أن يكون هذا الإبهام محرضاً ومحركاً للمسلم كي يرغب إلى الله تعالى في يوم الجمعة بكامله ، هذه حكمة الإبهام .

حكمة الإبهام فيما يتعلق بأعيان الأشخاص الذين لم يؤمنوا تتجلى في عموم البلاغ ، إذاً فمراد الله جلّ وعلا ( فذكر إن نفعت الذكرى ) يجب أن نعيد الشرط إلى الله جلّ وعلا الذي أبهم علينا هذه الأشياء ، الذكرى لا تنفع الناس الذين يعلم الله عنهم أنهم لن يؤمنوا ، وأما نحن المأمورين بالإبلاغ والتذكير فواجب علينا أن نعمّ بالبلاغ جميع الناس ، إن رأينا إعراضاً من الناس ذكّرنا ، وإن رأينا إقبالاً من الناس ذكّرنا ، وفي الليل نذكر وفي النهار نذكّر ، وفي كل آناتنا وفي كل حالاتنا نوالي التذكير ونوالي البلاغ .

وأما أمر القلوب وانقيادها إلى هذا التذكير فليس إلينا ، وإنما إلى الله جلّ وعلا الذي بيده وبين أصبعيه قلوب العباد جميعاً ، إن شاء أن يقيمها أقامها وإن شاء أن يزيغها أزاغها . هنا ينحل معنا معنى الآية ( فذكر إن نفعت الذكرى ) ويزيد ذلك وضوحاً ما يأتي بعد ذلك ( سيذكر من يخشى ، ويتجنبها ) أي يتجنب الذكرى ويبتعد عنها ( الأشقى ، الذي يصلى النار الكبرى ، ثم لا يموت فيها ولا يحيا ) الآيات إذاً يحلها ما بعدها ، ها هنا في الآيات التي جاءت بعد ذلك يعرض الله لنا نموذجين من الناس ، بقطع النظر عن الأسماء وعن الأشخاص عن الأزمان وعن الأوصاف ، هنا عندنا مَن يخشى وعندنا الأشقى ، مَن يخشى الله جلّ وعلا ، والخشية ليست فقط مجرد هذه القشعريرة التي تعتري الإنسان حينما يسيطر عليه عامل الخوف من شيء ما ، هذا مظهر ساذج وأولي ، الخشية هي حصيلة لنظر متراحب يقوم به الإنسان ، حينما ينظر الإنسان بصدق وأمانة وبتجرد إلى ذاته يشعر بأن هذه الذات لم ُتخلق من ذات نفسها ، وإنما وُجدت بموجِد ، ومهما سلسنا الموجدات فنحن واصلون قطعاً بقضية العقل إلى الموجد الأولي وإلى السبب الأولي وهو الله تبارك وتعالى ، وحينما ننظر في نفوسنا فنجد وكما مرّ معنى في نفس السورة أن الله جلّ وعلا خلقنا فقدر وهدى ، أي وضع كل شيء في مكانه اللائق ، ونعرف من ذواتنا ومن نفوسنا ومن أشخاصنا قيمة هذا الإبداع وهذا التنسيق الذي عليه القرآن سواء في الحواس الظاهرة أو الحواس الباطنة ، سواء في القوى العضلية والبدنية أم فـي القوى الروحية والعقلية ، حينما ننظر إلى هذا الإبداع نحكم بأن عقلاً مدبراً على غاية ما يكون من القوة والاقتدار هو الذي أوجد هذا الإنسان .

حينما نصل إلى قناعات من هذا النوع بمجرد النظر المخلص نحكم بأن هذا العقل المبدع ، هذه الذات الخالقة ، لا يمكن أن تخلق الإنسان عبثاً ، حينما نظر في الآفاق نتعرف على مكاننا من الوجود ونتعرف على الغاية التي خلقنا من أجلها . وهنا يأتي قول الله جلّ وعلا ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) مصداق لهذا الكلام ، وهنا يأتي أيضاً جلّ اسمه ( سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين له أنه الحق أو لم يكفِ بربك أنه على كل شيء شهيد ) حينما ننظر هذا النظر نشعر بأننا خُلقنا ننظر لغاية ، وغاية عظيمة ، رشحتنا لها تلك القوة التي أوجدتنا ، فنعلم أننا مطالبون بها ، وأننا لم نترك في هذه الدنيا بلا سؤال وبلا حساب ، حينئذٍ نستشعر الخشية .

هل الخشية أن يخرج عليك سبع فتدفعك غريزة البقاء وحب الحياة إلى أن تشعر بهذا الاضطراب وهذه القشعريرة ؟ هل الخشية أن تسمع القرآن يتلى بنغم رائع يلامس أوتار القلوب ويثيرك كلامه ويحرك حس الجمال فتشعر أن جلدك يتقصّف ؟ لا ، المسألة أبعد من ذلك ، المسألة تتصل بصميم الرسالة ومكان الإنسان من الوجود وغاية الإنسان في هذا الوجود ، هذا الصنف من الناس الذي يوجد لديه استعداد لأن يتعرف على خالقه ويتعرف على مكانه من الوجود ويتعرف على الغاية التي وُجد من أجلها هو الذي تُجدي معه الذكرى ، لكن هل تستطيع أن تقول لي إنني أستطيع وأقدر أن أتبين هؤلاء الناس بلون اللباس أو بلون الوجه أو بطريقة الكلام ؟ لا ، المسألة قلبية صرفة ، وهذه مغيبة لا أحد يعرفها على الإطلاق .

كذلك الصنف الآخر ( الأشقى ) الذي تحجر فكره وتصلب قلبه وأعرض عن النظر في كل آية ، هل تستطيع أن تعطيني صورة له ؟ هل تستطيع أن تمنحني علامة فارقة له ؟ لا ، إذاً فالله جلّ وعلا لكي يحل الإشكال الذي توهمه بعض الناظرين في القرآن في قوله جلّ وعلا ( فذكر إن نفعت الذكرى ) يحل الإشكال كليةً بالآيات التالية ( سيذكر من يخشى ، ويتجنبها الأشقى ) لاحظوا كلمة ( يتجنبها ) يتجنب ماذا ؟ يتجنب الذكرى ، إذاً فهنا تذكير وهنا إنسان متجنب ، لو كان المعنى : أن عليك يا محمد أن تذكر الناس طالما نفعتهم الذكرى وأن تكف عنهم ولا تذكرهم إذا لم تنفع الذكرى . لما كان لكلمة ( يتجنبها ) أي معنى ، لأن الانطباع الذي يخرج به السامع من قول الله ( يتجنبها ) انطباع عن صورة ، صورة المذكِر وصورة المذكَر الذي يُعرض ويصد . وإذاً فواقع الأمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يذكّر الناس جميعاً .

هذا من الناحية اللغوية ومن الناحية الشرعية ومن الناحية السلوكية لا بد من النظر ، لأن المسألة لها اتصالها المباشر بعمل الدعوة ، وأنا أحب لكل الشباب الذين يهتمون بالإسلام أن يعرفوا هذا الكلام ، لو أننا فسحنا المجال للناس أن يقوموا بالتذكير والتبليغ طالما أحسوا من الناس إقبالاً ، وأن يكفوا عن الدعوة حينما يجدون من الناس إعراضاً لأدّى الأمر إلى فساد عريض ، التقدير الشخصي يختلف ، أنا ربما تكلمت معك كلاماً فيما يتعلق بالإسلام فأجد منك صدوداً قليلاً ، ربما أكون كسولاً ربما أكون متعاجزاً ربما أكون غير صادق الإيمان ، فأنا أضخم هذا الإعراض ، حينما تكون درجته واحداً أرفعه بهذه العوامل اللاشعورية لتكون درجته مائة ، وإذاً أحكم عليك سلفاً بأنك من الصنف الذي لا يؤمن . فمن الناحية السلوكية لا يمكن بصورة باتة أن يفتح الله جلّ وعلا هذا الباب الواسع نحو القعود والتخلف عن الدعوة ، إن على الإنسان الداعي إلى الله جلّ وعلا أن يذكّر ، لا عليه ما تكون عليه حال الناس ، قد يستجيبون وقد لا يستجيبون ، ذلك ليس إليك وأنت لن تحاسب على هذا الأساس ، أنت تحاسب فقط على أداء الواجب ، واجبك ينحصر فقط بالتذكير ، فإن تقبّل الناس منك فبها ونعمت ، وإلا فقد أديت الذي عليك ولكن اذكُر أن عليك أن تسير الطريق منذ أن تعقل ما ينبغي وما لا ينبغي وإلى أن تموت . أما أن تقعد عن الدعوة إلى الله تحت أي ظرف من الظروف ، تحت أي عامل من العوامل ، فهذا هو الخطأ الذي سد الله جلّ وعلا الباب بينك وبينه .

( الذي يصلى النار الكبرى ) ووصف النار بالكبرى وهو مبالغة لتضخيم هذا العذاب الذي يلقاه ( ثم لا يموت فيها ولا يحيا ) وهـذا أيضاً تضخيم ، إن الموت راحة ، في الواقع في بعض الأحيان حتى بالنسبة إلى الأحياء يكون الموت راحة ، ولكن أن لا يموت الإنسان فيستريح ، وأن لا يحيا فيشعر بلذة الحياة ذلك هو العذاب المهين ، فالعاقبة التي خبّأها الله تعالى لهؤلاء الذين يُعرضون عن الله بعد استفراغ المجهود في الدعوة إلى الله ، تلك هي عاقبتهم ، نار تلظى لا يموتون فيها فيستريحون من حس العذاب وألم العذاب ولا يعيشون عيشة الأبرار في جنة عرضها السماوات والأرض .

بعد كل هذا وبعد كل المراحل ، الإقراء أولاً والفهم والمعرفة والوعي والتيسير من الله جل وعلا إلى الطريقة المثلى أن يعرف الإنسان أن عليه ـ لكي تكون الأمور يسيرة بالنسبة إليه ـ أن يضع نفسه على المحاور التي خطها الله جل وعلا ، والتذكير بعد ذلك للناس بعد امتلاء النفس بالقرآن وبعد معرفة الإنسان بالشريعة وأسرارها ، تذكير الناس ودعوتهم إلى الله ، يأتينا درس من أبلغ الدروس ولعله أن يكون الفارق الحاسم بين هذا الإسلام وبين كل دعوة عرفتها الدنيا منذ أن بدأت الدنيا وإلى أن تقوم الساعة .

يقول الله جلّ وعلا ( قد أفلح من تزكى ، وذكر اسم ربه فصلى ، بل تؤثرون الحياة الدنيا ، والآخرة خير وأبقى ، إن هذا لفي الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى ) يعني هذه الطريقة هذا الكلام مسطور في الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى ، يعني أن هذا نهج الأنبياء ونهج النبوات وصميم الرسالات كلها ، ما خلت رسالة لله جل وعلا من الضرب على هذا الوتر ، ما هو هذا الوتر ؟ ( قد أفلح من تزكى ) نحن نسمع يا إخوة ولا سيما في هذا العصر أن الإنسان تؤثر فيه الظروف والعوامل الخارجية ، وهـذا صحيح ولا مجال للنقاش من حوله ، ولكنه نصف الحقيقة ، ونصفها غير المهم ، نحن نعرف أن الظروف تؤثر على الإنسان ، تعال إلى إنسان تقي و ضَعْه بين أشرار ، زناة ، شربة خمور ، وما أشبه ذلك ، فستجده مع الزمن يتأقلم مع الجو وينسى قواعد التقوى ، ورُبّما انزلق فذهب بعيداً في طريق المعصية ، إن الظروف لا شك تؤثر على الإنسان .

أيضاً أنت حينما تطالب الإنسان بأن يكون سليم الطوية بريء الصدر من الحقد ومن الغي ومن الحسد ، أنت مطالب بأن تضع هذا الإنسان في وسط من الشروط المادية تجعله لا يقابل المهيجات التي تدفع إلى هـذه الخلائق الذميمة ، هذا كله صحيح . لكن لو جئت إلى إنسان فقير وحكمت عليه بأن يعيش بين أصحاب القصور والمترفين والمنعمين وهو على فقره وخصاصته ورثاثة حاله فإنه بمطالعة النعيم الذي يُحرَم منه سيشعر بألم الحرمان وستنمو في داخل نفسه دوافع الحسد ، وحينئذٍ يتخرب صدره ويتوسخ قلبه ، إننا لا ننكر أهمية الشروط أبداً ، لكنا نسأل هذه الشروط أهي قدر المقدور ؟ أهي شيء مفروض على الإنسان لا حيلة له تجاهها ؟ لا ، إن الشروط قائمة ومؤثرة ، ولكن الإنسان هو الذي يغير الشروط ، ومتى يغير الشروط ؟ حينما تتحصل لديه قناعتان ، انتبه ، أول القناعتين أن يعلم أن هذه الشروط القائمة فاسدة ، وثانية هاتين القناعتين وأهمهما أن يعلم أن تغيير هذه الشروط يساوي حياته أو يزيد على حياته . أي حينما يشعر أن هذه الشروط القاسية سوف تدمر حياته ، وأنه إن أراد حقاً فعليه أن يغير هذا الشروط ولو أدى ذلك إلى إهلاك حياته ، حينئذٍ فهذا الإنسان هو الذي سيغير الشروط . نحن لا نقول إن الشروط المادية والشروط المجتمعية لا قيمة لها ، ولكنا نقول إن هذا نصف الحقيقة فقط ونصفها غير مهم ، والنصف الثاني والمهم جداً أن يقوم الإنسان ببذل مجهود خاص ذاتي نابع من ذاته بهدف تغيير هذه الشرائط  ، هذا هو المعبر عنه بالتزكية .

إن الإنسان حينما يتصور أننا سوف نرقيه إلى مرتبة الملائكة حينما نهيّئ له النظام السياسي الديمقراطي ، وسوف نرقيه إلى رتبة الملائكة حينما نهيئ له النظام الاشتراكي الذي يضمن له القوت يكون واهماً ويكون مخطئاً خطأ مفظعاً جداً لماذا ؟ إن الديمقراطية السياسية وهي أرقى أشكال الحكم جميعاً ما منعت الظلم وما منعت الإرهاب وثمة حد محدود تنفجر عنده الديمقراطية ، حينما تهدد أرباب المصالح ، وفي النظام الاشتراكي الذي وفّر القوت بصرف النظر عن الثمن الباهظ الذي أخذه من المجتمع الإنساني على حساب الحرية وعلى حساب الكرامة وعلى حساب المعنى الآدمي ، مع ذلك فالنظام الاشتراكي لم يلغِ من نفس الإنسان هذا الشره الذي يدفع إلى السرقة ويدفع إلى الرشوة ويدفع إلى الطمع ، ولعل الروائح كريهة جداً في وسط الأنظمة الاشتراكية التي تعيش اليوم .

المسألة ليست في القشور ، ما ترونه من واقع بشري فهو ظاهر يمور تحته المعنى الإنساني ، إن هدف الإنسان المسلم ينصب على هذه العوامل التي تغير في الشرط الإنسان لا في الشرط المجتمعي ، إن الشرط الإنساني حين يتغير فلا بد أن يتغير الشرط المجتمعي تبعاً لذلك وحكماً كما تقول : واحد زائد واحد يساوي اثنين ، كذلك حينما يتغير الشرط الإنساني يتغير شرط المجتمع . أما أن نكف عن بذل أي مجهود كما يفعل دعاة الحركات والمذاهب المحدثة يريدون من الإنسان تأييده وانتظامه في الحزب وانتسابه إلى الجماعة ، ولا عليهم أن يكون هذا الإنسان طاهر القلب نقي السريرة زاكي الأخلاق ، هؤلاء يغامرون بالمصير البشري كله ، إن البناء يبدأ من داخل النفس ، وهنا تتركز مسؤولية كل إنسان تجاه نفسه ، إن مرقاة الصلاح البشري تبدأ من صلاح النفس الإنسانية بالذات . ولهذا يقول الله جلّ وعلا تتويجاً لكل هذا المنهج الذي رسمته هذه السورة ( قد أفلح من تزكى ) قد أفلح وفاز ونجح ، نجح في الامتحان الرهيب من تزكى وبذل مجهوداً خاصاً من أجل أن يعيد بناء نفسه على قاعدة تساعد على إصلاح هذه الحياة .

( وذكر اسم ربه فصلى ) بقي متعلقاً في ذلك الخالق الذي خلقه لغاية ، والذي سيأخذه بالحساب العسير حين يفرط بهذه الغاية التي خلقه من أجلها ، ولكن انظروا..  إعجاز القرآن يا إخوة إن القرآن لا يتركك أمام تقرير هذه الواقعة الصميمية فحسب ، وإنما يكشف أمامك الغطاء عن وجه العلة ، لماذا يشد النفس ؟ لماذا بعد أن تتضح لهم الدلائل وتقوم الحجة عليهم لماذا يعرضون ؟ يقول لك الله جلّ علا ( بل تؤثرون الحياة الدنيا ، والآخرة خير وأبقى ) ها هنا نظران ، نظر ينغمس مع واقع الحياة بأطماعها بشهواتها بأشيائها بمالها بنسائها بكل شيء فيها مما يربط الإنسان إلى الأرض ويشده نحوها شداً عنيفاً ، ونظر يتجاوز هذا ، بل يستخدم هذا كله من أجل أن يستقيم الناس على الجادة الصحيحة الموصلة إلى بر السلامة بالنسبة إلى الإنسان والموصلة إلى رضوان الله جلّ وعلا . إن شرط التزكي هو تخفيف التعلق بأشياء الدنيا ، إنك حينما تكون مستعبداً لأشياء الدنيا تنافي غاية الإسلام ، هذا الإسلام جاءك أيها الإنسان فوجدك عبداً لهذه الدنيا ، عبداً للأعراف عبداً للتقاليد عبداً للعادات الاجتماعية عبداً للطواغيت عبداً للأموال ، فأراد الله جلّ وعلا أن يحررك من كل هذه العلائق ، وأن يجعل هذه العلائق كلها عبيداً لك ، فمن هنا كشف الله جلّ وعلا لنا عن العلة التي تشكل الدافع الذي يدفع الإنسان عن الطريق السـوي ، هي التعلق بالدنيا ، أتريدون أمثلة ؟ سأضرب لكم بعض الأمثلة ، سأضرب لكم أمثلة من التاريخ وسأضرب لكم أمثلة من الواقع .

أما أمثلة التاريخ فنحن نعرف بدون حاجة إلى تفاصيل أن المسلمين ملكوا الدنيا ، وأن كلمة واحدة تخرج من بين شفتي الحاكم أو الأمير أو الخليفة كافية لتدمير مجتمعات بكاملها ، ومع ذلك فهذه القوة الهائلة التي وُضعت بين يدي المسلمين لم تدفع المسلمين أبداً إلى أن يتزحزحوا عن قسطاس العدل والاستقامة الذي فرضه الله والذي رباهم عليه محمد صلى الله عليه وسلم . لكن القوة في المجتمعات المعاصرة تجعل من الحاكم إلهاً في الأرض من دون الله يُعبد ، وحسبك أن توجه إلى الحاكم أي نقد لتعيش السنين تأكلك رطوبة الأبقية بعد أن تكون السياط قد جلدتك حتى الموت ، هذا فارق هائل ، إن المسلمين ملكوا الدنيا وفاضت الأموال بين أيديهم كأنهار ، ومع ذلك فكنتَ تجد الواحد منهم يملك عشرات الألوف يهبها ولا يبالي ماذا سيكون حاله في الغد ، كانت عائشة رضي الله عنها صائمة فجاءها عطاؤها ، وعطاء أمهات المؤمنين اثنا عشر ألف درهم في السنة تساوي بعملة اليوم مئات الألوف من حيث القوى الشرائية ، فلما جاءها قالت لجاريتها : يا فلانة ضعي فوق هذا المال ثوباً فغطت المال كي لا تؤذي نفسها من منظر المال ، وأصبحت تدخل يدها من تحت الغطاء فتقبض وتقول للجارية اذهبي بهذا إلى بيت فلان ، اذهبي بهذا إلى أيتام فلان ، حتى إذا كُشف الغطاء لم يبقَ أي شيء ، قالت لها الجارية : يا أم المؤمنين لو أبقيت لنا درهماً نشتري لك به لحماً تفطرين عليه ؟ قالت يا بنيتي لو ذكرتني لفعلت . نسيت نفسها . الناس الذين يُستعبدون لأشياء الدنيا ناس فقراء من حيث التربية الإسلامية والتربية الإيمانية ، لكن الناس المؤمنين يستعبدون أشياء الدنيا ليسخروها نحو الغاية المثلى .

أتريدون أمثلة من الواقع ؟ سأقول لكم ، إن الدنيا اليوم تزخر بالدعوات وكلها تسير في اتجاه مضاد لهذا الإسلام ، في اتجاه معاد لدعوة الله جلّ وعلا ، وهذه الدعوات الفاسدة المفسدة الضالة المضلة المخربة سرت بين المسلمين ، بل لعلها اليوم أغلب ما يكون بين المسلمين ، مع ذلك فأنت تجد من رواد الأحزاب وأحلاس هذه الحركات أناساً مسلمين ، تعال معهم وقل : يا أخانا أعندك شك في الله ؟ يقول لك : معاذ الله . أتشك في صلاحية الإسلام ؟ يقول لك : معاذ الله . إذاً ما شأنك مع هؤلاء الناس وهم كيت وكيت وكيت ، حاضرهم مستقبلهم أخلاقهم أوصافهم ، أينسجم ذلك كله مع الإسلام ؟ يقول لك : مصلحة . يريد أن يتوظف ، يريد أن يحفظ رزقه ، يريد ألا تتأثر تجارته ، يريد أن يبقى محافظاً على زراعته . إذاً فهي شهوات وإذاً فصدقاً وحقاً ما قال الله جلّ وعلا ( بل تؤثرون الحياة الدنيا ) السبب الذي يدفعكم بعيداً عن الله ليس سبباً عقلياً ولا سبباً إنسانياً ولا سبباً قلبياً ووجدانياً ، ولكنه سبب مصلحي رخيص جداً هو الذي يجعله تُكثّرون ثواب الكافرين وتكونون جنوداً للظالمين .

يا إخوة الإسلام الأمر صعب والمسؤولية خطيرة ، وحري بكل أخ من إخواننا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن هذا الإسلام حق وصدق من الله جلّ وعلا ، وأن فيه سلامة الإنسـانية كلها ، حق على هذا الإنسان أن يقف ويطيل الوقوف ، وأن يتساءل وأن يشدد على نفسه في المسألة ، وأن يقطع صلاته بالدنيا كلها إلا بالله ، وأن يطهر حياته من كل صلة بأي شيء إلا الصلة بهذا الإسلام . أرأيتم حينما ننظر إلى الآيات نظراً غير مجزوء ؟ وحينما ننظر إلى القرآن بسياقه وبتسلسله المنطقي معملين عقولنا ومفكرينا أكثر ومتعبين أنفسنا أكثر كيف تتوضح أمام أعيننا معالم القضية وقضايا الإسلام ؟

أرجو إن شاء الله تعالى أن يكون عيشكم مع القرآن دائماً ومتصلاً ، وأسأل الله جلّ وعلا أن يفتح قلوبنا وقلوبكم وقلوب المسلمين لفهم حقائق هذا الكتاب فإنه هو حبل النجاة المتين الذي أوله عندك وآخره عند الله في الجنة ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.