الحلقة (2) من سورة الفاتحة

العلامة محمود مشّوح

الحلقة (2) من سورة الفاتحة

الحلقة (27) الجمعة 20 رجب 1396هـ - 16 تموز 1976

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده..... أما بعد أيها الإخوة المؤمنون. فحديثنا إليكم اليوم تتمة لقول بدأناه في الجمعة الماضية يدور حول سورة الفاتحة آخذين بعين الاعتبار أنها خامسة السور التي أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سياق الترتيب؛ وسورة الفاتحة تأخذ أهميتها القصوى؛ من حيث هي إجمال لوجهة نظر الإسلام في أمر هو أهم الأمور على الإطلاق؛ سواء في تزكية النفس وأقامتها على أمر الله تعالى، أو في إطلاق وجهة المجتمع الإنساني الذي تتحدد غاياته وأهدافه للصلاح والإصلاح. ووجهة النظر الإسلامية هذه باختصار وكما عرضنا لها بتفصيل أكبر في الأسبوع الماضي؛ تصحيح التصور فيما يختص بالألوهية وتصحيح التصور فيما يختص بالعبودية؛ بحيث لا تنماع الحدود ولا تلتبس هذه القضايا في ذهن أحد من الناس. فلقد عرضنا لكم بفضل الله تعالى في الجمعة الماضية صورة مجملة للعقائد التي كانت تسود العالم حينما جاءت دعوة الإسلام وبلغها محمد عليه السلام إلى الناس وكما كانت تتمثل هذه العقائد في واقع الجزيرة العربية آنذاك.

وما في النية أن أعيد شيئاً ممّا ذكرناه، ولكنا ندلف إلى موضوعنا مباشرة؛ فسورة الفاتحة تبدأ بعد بسم الله الرحمن الرحيم؛ بتوجيه الحمد والثناء لله تبارك وتعالى؛ الذي خلق الكل وبرأ الكل وكفل الكل وربى الكل الحمد لله رب العالمين؛ وواضح أن هؤلاء الكلمات القلائل (الحمد لله رب العالمين) أربع كلمات -أصبحت باهتة في عقول الناس اليوم- بحيث أن صلة هذه الكلمات بعقول الناس وبضمائر الناس وبالحركة النفسية للناس، ضعيفة مهلهلة وما نريد أن نبحث عن السبب أو الأسباب فذلك شيء يأتي -وكما قلنا فالفاتحة إجمال سيأتي بعده تفصيل كثير- لكل القضايا التي طرحتها سورةُ الفاتحة على أنه لا غنى من أن نتعرف على معنى الحمد، وعلى ما يعنيه النص، بأن الحمد مُوَجَّهٌ لله، وعلى ما يعنيه التقييد بأن الله رب العالمين، وعلى الصلة التي تربط بين هذه المعاني، وبين الحالة الواقعية التي خاطبتها هذه الآيات؛ فالحمد ثناء بالجميل على المنعم، هكذا تحدده كتب اللغة، وهكذا يحدده المفسرون الذين شرحوا كتاب الله تبارك وتعالى؛ ولكن الثناءَ لا يكون من غير سبب؛ لا بد من سبب باعث يدعوك إلى أن تحمد فلاناً من الناس، وتحمد الله سبحانه وتعالى. فقد يصنع إليك واحد من الناس معروفاً يقع من نفسك موقعاً تحمده وترضاه؛ فأنت تكافئ معروفه هذا -بإشاعة الحمد والثناء عليه- لأن الإنسان مجبول على معرفة المعرف؛ ومعرفة المعروف تقتضي –بداهة- أن يذكر الإنسان لصاحب الصنيعة والإحسان صنيعته وإحسانه؛ فنحن تعارفنا على أن يزجي بعضنا لبعض الحمد والثناء والشكر وما هو من هذا الباب؛ كل ذلك لأننا نتبادل ونتعاطى منافع فيما بيننا؛ ومن رب الصنائع ومن معرفة قدرها وقيمتها؛ التوجه بالحمد إلى من يستحق الحمد. لَكِنَّ الإسلام باتجاهه الواضح يقرر أن ما يتعاطاه الناس في الدنيا من نعم، وما يتهادونه بينهم في الدنيا من معروف؛ فذلك فضل من فضل الله تبارك وتعالى؛ فالإنسان لم يُوجد الأرضَ التي نشأ عليها، ولم يخلق الحيوان الذي يتغذى بلحمه ولبنه وينتفع بأصوافه وأشعاره، ولم ينبت الشجر والنبات الذي يتغذى به، ولم يفجر الأرض ينابيع يستقي منها لنفسه ولماشيته ولزرعه، ولم ينزل الأمطار التي تغير الجو وتنبت الثمار، لم يفعل شيئاً من هذا لسبب بسيط وهو أنه لا يقدر فالذي فعل ذلك كله هو الله تبارك وتعالى.

الله خالق كل شيء، النعم المبثوثة على الأرض وما وضع الله في جو السماء، مما ينفع الناس؛ فمن الله نِعْمةً ممنوحةً لبني آدم، من غير استحقاق يستحقونه على الله تبارك وتعالى؛ فحين يستقر في ذهن المسلم أنَّ الأمرَ بهذه المثابة؛ فمدحهم وحمدهم بعضهم لبعض؛ إنما هو مجاز من القول وليس حقيقة بحال من الأحوال وما يحمد أحد أحداً من البشر إلا على معنى تألف القلوب وشد الروابط بين الناس لا على معنى أن هذا الإنسان الممدوح والمحمود يستحق الحمد والثناء فالحمد كله يجب أن يوجه لله تعالى لأنه هو واهب النعمة.

(وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون).

فالإسلام حين ينزل في أول الفاتحة الحمد لله، يريد أن يوجه ذهن المسلم وطاقة المسلم كلها لكي تتعرف على السبب الحقيقي، الذي بث كل هذه الخيرات، وسخرها لصالح الإنسان فهو تقييد بالله تبارك وتعالى، ورفع لمعنى الحمد أن يكون فقط مختصاً بالله الخالق البارئ الرازق المنعم المتفضل، ثم يقيد الكلام بأن الله رب العالمين لا بد أن نعيد إلى أذهانكم ما سبق أن نبهنا إليه في الجمعة الماضية؛ من أن قضية الألوهية تعرضت عند الجاهليين سواء كانوا من أهل الكتاب أو من الوثنيين أو من المُؤَلِهين من الفلاسفة والمتفكرين أو من المتحيرين تعرضت قضية الألوهية لخلط كبير فبينما نجد النصارى يدَّعون أن الله ربهم وأن الرحمة منه مختصة بهم، نجد اليهود أيضاً يدّعون أن ربهم رب بني إسرائيل هو الرب الكبير، وأن ثمة آلهة أصغر تختص بالأقوام الأخرى فالله رب اليهود وليس لغير اليهود فيه نصيب.

لو رجعنا إلى حالة العرب في الجاهلية التي كانت تعبد الأوثان والأصنام لوجدنا أن توزع الأصنام كان يتبع توزع القبائل مع اعترافهم جميعاً بأن الصنم الكبير هبل؛ الذي كان معلقاً على الكعبة، هو رب الأرباب -مع ذلك- فلكل قبيلة صنمها الخاص، تعتقد أنها يجب أن تصمد في الحوائج إليه، وأن تطلب النفع منه، وأن تستدفع الضر والبلاء به؛ بل الأمر أكثر كل بيت من بيوت العرب يكاد يكون له صنمه الخاص؛ كيف كانت المناحرات والمغايرة بين قبائل العرب وبيوتاتها؛ كذلك اصطنعت للأصنام نفس المخالفات ونفس المغايرات؛ فترون في موسم الحج في الجاهلية قبائل تطوف بالصنم الفلاني وقبائل لا تطوف به؛ وإنما تطوف بصنمها الخاص، فقد عكست العرب خلافاتها وعصبياتها على الأصنام على موضوع الألوهية؛ فتوزعت الناس تبعاً لتوزع المعتقد. فحين يأتي القرآن من بدايات الطريق ليقرر أن الله رب العالمين يقرر قضية ضخمة، قضية تَرُدُّ من البداية وبصورة حاسمة وجذرية على كل هذا الخلط الذي تورطت فيه الأمم من قبلنا فلا إله إلا الله؛ وهذه الأصنام باطلة.. والله وحده هو رب العالمين، وادعاء بعض الأقوام أن الله يختصهم برحمته دون بقية الناس ادعاء فاسد، ومقولة النصارى واليهود (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) رَدَّ عليهم القرآن رداً محكماً فقال (تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فأولئك لهم جنات تجري من تحتها الأنهار).

 فالنص على أن الله رب العالمين -إلى جانب أنه وضعٌ لقضية الألوهية في إطارها الخاص- هو أيضاً رَدٌ على واقع جاهلي متخلف ومتخلخل وممزق، جعل الناس كلهم يدينون بالألوهية لله تبارك وتعالى، ويقفون أمامه جميعاً عبيداً لله جل وعلا. للمسألة انعكاسٌ آخرٌ شديد الخطورة بالغ التأثير؛ فالناس في الجاهلية كانوا يتصورون أنَّ هناك بُيوتاتٍ ليست على نفس السوية التي عليها سائر الناس انسحب هذا حتى إلى مجال العبادات في الحج -والشعيرة الباقية من دين إبراهيم عليه السلام عند الجاهليين هي شعيرة الحج- كان الحُمْسُ، وهم قبائل من قبائل قريش -سُمُّوا حُمْساً لتشددهم في أمور العبادة- كانوا يقفون حين الموقف في الحج في موقف أدنى من الموقف الذي يقف فيه سائر الناس، ويرون أنه لا يليق بهم لمكانتهم ولمحلهم من العرب ومن دين إبراهيم؛ أن يتساووا في الموقف مع سائر الناس، واستمر الأمر كذلك حتى جاء الإسلام ونزل قول الله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس).

فالعرب وغير العرب أيضاً كانوا يعتقدون أن الناس يتمايزون، اليهود مثلاً يعتقدون أن بني إسرائيل خلقوا من رأس الإله وسائر الناس خلقت من قدميه، وغيرهم كانت لهم عقائد باطلة من هذا القبيل؛ ولعلكم تعجبون لو ذكرنا عقولاً كبيرة كانت من قبل، كعقل أفلاطون الذي لا يتمارى الناس أبداً في أنه من أضخم العقول التي أنتجتها البشرية؛ حتى الآن -فهذا الرجل كان يعتقد أن المجتمع الإنساني مقسم إلى طبقات، سادة وجند وعبيد وزراع، وأن السادة هم فقط اليونانيون، وأن سائر الناس خُلقوا للخدمة والمهنة لصالح نبلاء اليونان وأصحاب البيوتات من اليونان. هذا التصور الفاسد الذي لا يساعد على اطمئنان الجماعة الإنسانية ولا يساعد على تقدمها ولا على رفاهها؛ دَمَّرَ عليه الإسلام تدميراً كاملاً؛ جاء تصور الإسلام ليعلن أن الله رب العالمين؛ وحصيلة هذا الكلام أن الرب في عليائه سيد الكل وأن الناس جميعاً من بعد عبيد يتساوون، من حيث الاعتبار الإنساني؛ لا يفترق بشر عن بشر إلا بتقوى الله تبارك وتعالى وبصالح العمل ومع ذلك فإن التقوى وصالح العمل والامتياز لا يعطي لصاحبه أية مزية على الآخرين وإنما هي عبء ومسئولية فالعالم حين يَعْلم؛ عليه أن يُعَلّم، فهو يحمل مسئولية، وصاحب الأخلاق حين يتخلق بالأخلاق الفاضلة حين يكون كذلك عليه أن يعلم الناس الأخلاق وصاحب المال حين يتكدس المال بين يديه لا يأخذ من ماله امتيازاً على أحد وإنما يأخذ مسئولية ترتب عليه أن ينفق مما جعله الله مستخلفاً فيه وهكذا قس على هذا سائر المزايا والمناقب والفضائل النفسية والروحية التي تكون عند الناس. فالإسلام تسهيلاً لتوحيد البشرية وهو دين الوحدة العامة الجامعة بين الناس حين يقرر أن الله رب العالمين ينادي بوجوب هدم الفوارق وسائر هذه الأمور المصطنعة التي تواضعت وتعارفت عليها المجتمعات البشرية إبان عهد الجاهلية.

ثم هو الرحمن الرحيم ولما ينص الله جل وعلا على أنه الرحمن الرحيم. لماذا ينص على ذلك؟ لسببين؛ لإبانته عن تصورات الجاهليين ولبيان عميم فضله، أما إبانته عن تصورات الجاهليين فلقد سمعتم في الجمعة الماضية أن بعض الشعوب تتصور الله عاتياً جباراً قاسياً يتلذذ بمنظر الدماء ويحب روائح الشواء على المحارق، فالله جل وعلى نزَّه نفسه عن هذه الأوصاف التي عدل بها المشركون والجاهليون عن وصف الله العلي القدير الرحمن الرحيم؛ ثم قلنا لبيان عظيم فضله على الناس، الرحمة التي اتصف بها الله تبارك وتعالى رحمة مبذولة من الله بثمن بخس ورحمة مبذولة من الله بلا سابق استحقاق للإنسان. فالله جل وعلا خلق الإنسان بالرحمة، ولو شاء لأبقاهم في العدم، ولو كان عدماً لم يكن شيئاً مذكوراً، ولكانت كل قيم الإنسانية بالنسبة إليه غير موجودة. والله أيضاً بعد أن خلق هذا الإنسان عني به ورباه ونشأه وجعل له السمع، جعل له البصر، أعطاه نعمة العقل والحس والذوق وما أشبه. لماذا؟ هل للإنسان استحقاق على الله تعالى لكي يمنحه كل هذه الأشياء؟ أبداً لو أنك عبدت الله ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً وأُعْطِيْتَ عمر نوح بل أعطيت عمر الدنيا كلها فقضيته راكعاً ساجداً تحذر الآخرة وترجو رحمة ربك؛ ما كان ذلك يقوم بأقل نعمة لله تبارك وتعالى عليك؛ لو أنه حبس عنك الهواء دقيقتين أماتك، ولو أنه حجب الضياء عنك فترة من الزمن لتغير من حولك كل شيء، فأنت تسبح في نعم الله تبارك وتعالى؛ ومهما تقدم من عبادة ومن شكر ومن عرفان فذلك ليس ثمناً لهذه النعم التي تتقلب فيها الليل والنهار وفي الصباح والمساء؛ والثمن كما قلنا بَخْسٌ ثم هذه الرحمة المزجاة المهداة، بَخْسٌ ماذا طلب الله منك لقاء هذا؟ اسمع ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عليه الصلاة والسلام:

"إن الله يرضى من العبد أن يأكل اللقمة فيحمده عليها وأن يلبس الثوب فيحمده عليه يرضى من العبد بكلمة الحمد لله".

ويقول عليه الصلاة والسلام:

"لو كانت الدنيا في يد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله أكبر من الدنيا كلها".

فكلمة الحمد لله، توجيه الحمد لواهب النعمة تقوم بكل شيء. وفي حديث النبي عليه الصلاة والسلام.

"الحمد لله وسبحان الله تملأ أو تملأن الميزان يوم القيامة عند الله تبارك وتعالى".

ولكن أي حمد الحمد؟ الذي ينبع من داخل النفس ينبع من معرفة بالنعمة وقدرها وبالمنعم وعظيم تفضله على الناس فإذا حمد الإنسان ربه على ما حوله من نعم بهذه الروح التي تعرف قدر المنعم، وتعرف قدر النعمة؛ فقد قضى ما عليه:

(الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين).

ومن رحمة ربنا كما بيّنا أنه رحيم؛ ومن رحمته بالناس أنه بيًّن لهم عظيم فضله وقال النبي عليه الصلاة والسلام:

"لو عرف الناس ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد".

وقال عليه الصلاة والسلام:

"إن الله قسم الرحمة مئة جزء أنزل منها جزءاً واحداً في الأرض فبهذا الجزء يتراحم الناس بينهم وتتراحم الدواب حتى إن الشاة لترخي ثديها لفصيلها كي يرضع، ثم ادخر تسعة وتسعين جزءاً من الرحمة ليرحم بها عباده المؤمنين يوم القيامة"..

مَرَّتْ امرأة تحمل صبيَّها على كتفها فقال النبي عليه الصلاة والسلام للأصحاب:

"أترون هذه طارحةً ولدَها في النار؟

قالوا: لا يا رسول الله.

قال: والله إن الله لأرحم بعبده المؤمن من هذه بولده".

رحمة الله لا يحيط بها شيء وهذا الإسلام كله مظهر من مظاهر رحمة الله تبارك وتعالى.

لكن مع هذا التقييد والتحديد لأوصاف الألوهية؛ يأتينا النص بعد ذلك بأن الله مالك يوم الدين أما كونه مالك يوم الدين فواضح ولكنا نتساءل: ما علاقة هذا الكلام بالواقع الاجتماعي الذي خاطبه محمد صلى الله عليه وسلم؟

الجاهليون كانوا يعتقدون في هذا المضمار عقائد غريبة يظنون أن آلهتهم التي يعبدونها تشفع لهم عند الله، ويظنون أن آباءهم يشفعون لهم عند الله، ويظنون أن أنبياءهم يشفعون لهم عند الله -بل يظنون أكثر- يظنون أنهم إذا رُدُّوا إلى الله سوف يُؤْتَونَ مالاً وولداً، وأن أموالهم وأولادهم التي خُوِّلوا إياها في الدنيا تنفعهم يوم القيامة. - فالله جلّ وعلا إذ ينصّ على أنه مالك يوم الدين؛ يريد أن يقرر في ذهن العباد أن الذي يقدم ويؤخر هو عمل الإنسان لا غير، وأن الأب والأم والأخ والعم والخال والسلف لن يغني عن الإنسان شيئاً.

 جاء رجل يقود ابنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ابنك هذا؟

قال: نعم يا رسول الله.

قال: أما والله إنك لا تجني عليه ولا يجني عليك.

تقرير مبدأ المسئولية الفردية يستلزم من الأساس نسف كل هذه المُدَّعيات التي تدفع الناس إلى أن يتواكلوا، إلى أن يتركوا القيام بالواجبات، وأداء ما هو مطلوب اعتماداً على أن الشفاعة مكفولة لنا يوم القيامة هذا تصور باطل تصور لا يغني عن أصحابه شيئاً.

فالشفاعة لن تكون إلا بإذن الله أبداً والله جل وعلا لن يأذن بالشفاعة لفاسق، ولن يأذن بالشفاعة لمنحل، ولن يأذن بالشفاعة لمجاهر بمعصية ولن يأذن بالشفاعة لمن جحد الربوبية وكذب الأنبياء والمرسلين ليكن ابن نبي حين قال نوح عليه السلام:

(ربِّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أرحم الراحمين.

قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين).

 والنبي عليه الصلاة والسلام يقف ليعلن بمنتهى الصراحة: يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً.

يا معشر بني المطلب لا يأتين الناس بالأعمال وتأتوني بالأنساب.

فلكي يهدم الإسلام هذه الخرافة الكبيرة ولكي يمنع التواكل ولكي يمنع التفلت والمروق والعصيان تحت ذرائع الانتساب إلى الصالحين وإلى المرسلين قرر أنه رب العالمين بمعنى أنه وحده المتصرف في ذلك اليوم؛ وأنه لا قول مع قوله، ولا إذن مع إذنه وليس لأحد من خلقه أن يشفع لأحد إلا لمن ارتضى ربنا تبارك وتعالى.

ثم يأخذ الكلام بَعْدُ؛ منحى آخر منحى يتصل بهذا الإنسان؛ (إياك نعبد وإياك نستعين) والعرب في تخاطبها وأساليبها في البيان المعجز تقدم الضمير على الفعل إشعاراً بالاهتمام فحينما نقول؛ إياك نعبد يكون المعنى غير الذي يُؤَدَّى بقولنا نعبدك أو نعبد إياك فحين نقول إياك نعبد؛ معناه: أننا نقدم عبادتك مهتمين بها ومحتفلين لها عن كل شيء، فما هي هذه العبادة التي أبرزها الله تعالى على لسان المؤمنين يتوجهون بها إلى الله ويكررونها كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل في صلواتهم، العبادة عند الأمم السابقة تذلل وخضوع على نحو مخصوص في مكان معين بواسطة أقوام مخصوصين أعيد عليكم: العبادة عند الأقوام السابقة، تذللٌ بين يدي الله في مكان مخصوص وعلى نحو مخصوص وبواسطة أناس معينين فبهذا الاعتبار عبادات الماضين كانت تستغرق جزءاً من وقت الإنسان. واحد. وكانت تتمثل في صورة معينة من العمل اثنان وكانت تُؤَدّى في وقت معين. هذه الثالثة وكانت تؤدَّى في الكنيس أو البيعة هذه الرابعة وكانت تؤدى تحت قيادة وإشراف الكهنة والأحبار والرهبان هذه خمسة أوصاف يجب أن تحقق للعبادة عند الأمم السابقة لكي تكون عبادة. فأخذ الناس وعطاؤهم تعاملهم فيما بينهم تعاملهم في بيوتهم نظرهم إلى مجتمعهم، تفكيرهم في المستقبل كل ذلك لا يدخل في مفهوم العبادة عند الأمم السابقة، العبادة قراءة في الإنجيل أو قراءة في التوراة مع أداء حركات معينة قد يكون فيها ركوع وسجود على نحو مخصوص في مكان معين.. نحن نصلي أينما كنا لكن اليهودي لا تقبل صلاته إلا في الكنيس ونحن نصلي في الصحراء وليس مشروطاً أن نصلي في المسجد لكن النصراني لا تقبل منه صلاة إلا في داخل الكنيسة ونحن نصلي دون أن يقف شيخ الإسلام ليكون وسيطاً بيننا وبين الله فنحن وشيخ الإسلام على قدم المساواة أمام الله تبارك وتعالى ليس له في دين الله أكثر منا ولا يملك منه أكثر مما نملك ولا يملك أن يتقول على الله أي كلام، وإن حاول أن يُزَوِّرَ في كلام الله شيئاً؛ كان لأقل المسلمين شأناً أن يقوم فينتف لحيته نتفاً.

عندنا الأمر كذلك، لكن عند أهل الكتاب؛ الحبر الراهب هو الموصل للعبادة التي يؤديها الإنسان يوصلها إلى الله تبارك وتعالى... من غير هذه الواسطة لا تكون عبادة هذا الوصف للعبادة الذي كان موجوداً لدى الناس لا يساعد على تزكية النفس، ولا يساعد على استقامة أمور الجماعة، ولا يساعد على الوصول إلى الله تبارك وتعالى؛ لسبب جوهري وهو أننا أشركنا مع الله تبارك وتعالى المخلوقين، جعلناهم وسائط أشركنا الحجارة التي قلنا إنها تقربنا إلى الله زلفى، أشركنا النبيين الذين قلنا إنهم آلهة لهم شأن ولهم تصرف مع الله تبارك وتعالى، فالله جل وعلا لا يقبل عبادة من هذا النوع لأن هذه العبادة لا تؤدي الغرض المطلوب منها.

ما هي العبادة التي جاء بها الإسلام؟

انظروا إلى مفهوم العبادة الأساسي الذي هو الصلاة والصيام والحج والزكاة:

أما الزكاة فلا تأخذ وقتاً.

وأما الصوم فإمساك عن الطعام والشراب في شهر معين هو شهر رمضان وأما الصلاة وهي العبادة المستديمة المستمرة فلو أنك جمعت الأوقات الخمسة فرائضها ونوافلها لما أخذت منك نصف ساعة من أربع وعشرين ساعة في اليوم؟

هل حق الله علينا في واحد من ثمانية وأربعين جزءاً من اليوم؛ أم الله حقه علينا في وقتنا كله؟

إن حق الله أكبر من ذلك وأوسع وأشمل:

من هنا رأينا أن الإسلام جعل للعبادة مفهوماً خاصاً أسسها على المعرفة، المعرفة بالله أنه المنعم وأنه المتفضل فوضع لها قاعدة.. ما هي هذه القاعدة؟ حبُّ الله تبارك وتعالى، وحبُّ رسوله صلى الله عليه وسلم.

فالإنسان الذي يدرك عظم النعمة عليه بهذا الإسلام يحب الله الذي هداه إليه.

والإنسان الذي يدرك عظم النعمة عليه بهذا الإسلام  يتفانى في حب النبي الذي هداه إلى هذا الإسلام ولهذا قال الله تعالى:

(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين).

وقال النبي عليه الصلاة والسلام.. بأن الإيمان لا يحصل للعبد حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين وقال الله تعالى:

(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم).

فهذا الحب الغامر الذي يكنه العبد المسلم لله ولرسوله تعبير؛ عن العرفان بالجميل للرحمة الشاملة الواسعة التي جلله الله تعالى بها بهذا الإسلام، هذا أول أساس من أسس العبادة وبعد أن يكون الأمر كذلك فإن الأمر يتشعب ويتوسع:

هل لا نعبد الله إلا في الصلاة والزكاة والحج والصيام؟

لا. أصل العبادة ماذا؟ التذلل والخضوع والطاعة؛ العرب تقول هذا طريق معبد يعني؛ أن الأقدام بالسير المستمر عليه ذللته وسوته ومهدته، فالإنسان العابد هو الذي لا تبقى في نفسه نتوءات والتواءات تمنعه من الحركة ومن الانطلاقة المستقيمة إلى النقاط التي ترضي الله تبارك وتعالى، فالعبادة إذعان وتوطين للنفس على الطاعة المطلقة والمستمرة أياً كان لون الطاعة أياً كان لون التصرف فهو عبادة تحت هذا الشرط، لكنا يا إخوة حين نقرر هذه القضية التي تبدو لكم بسيطة كل إنسان لو سألناه الآن أتطيع الله يقول بلا تردد ولا لبث نعم ومن ذا الذي يجرؤ على أن يقول أنا لا أطيع الله ولا أطيع رسول الله، فهل الأمر كذلك أم ذلك خدعة من خدع النفس وانسياق وراء الهوى الذي يصور للإنسان أنه يرضي الله فيما لا يرضي أبداً.

إن طاعة الله تتمثل أساساً في التزام شرع الله تبارك وتعالى هل أنتم أعلم أم الله (قل ءأنتم أعلم أم الله) -الله أعلم- وما دام الله هو الأعلم والله أنزل إليكم شريعة بَيَّنَ لكم فيها شرائع الهدى وسنن الاستقامة فالله تبارك وتعالى أعلم منكم بمصالحكم، وهو الذي مهد لكم السبيل لتبلغوا طمأنينتكم في الحياة الدنيا وتستحقوا رحمة الله تبارك وتعالى في الآخرة، فهل نحن المسلمين مرتبطون بهذا المعنى. وأقول مرتبطون لا أقول منفذين بين الكلامين فرق يدركه الإنسان بشيء من التأمل. نحن لا نملك التنفيذ فمن المؤسف أن العالم له دول وله سلطات وأن هذه السلطات بوسائل القهر والإرغام تملك أن تخطط وأن تشرع وأن الإنسان في المجتمع موجود ليطيع ولينفذ وأن مجرد محاولة عدم التنفيذ تضع الإنسان خارج القانون كل هذه أمور معروفة فنحن لا نملك أن ننفذ، لا نستطيع أن نأتي إلى القاضي فنلزمه إلزاماً أن يحكم بشرع الله ويترك القانون المدني أو قانون الجنايات، لا نملك أن نقول للقاضي إنك يا هذا لا تجعل للمرأة حق التصرف في مالها حتى تبلغ الواحدة والعشرين من العمر ولكنك تجعل لها حق التصرف في عرضها، فإذا زنت وهي أكملت الثامنة عشرة فذلك حقها وهي حرة فأنت يا هذا جعلت العرض والشرف وأنساب الناس ونسلهم أرخص وأهون من المال، لا نملك هذا الشيء، كذلك لا نملك في الحالة العادية أن نأتي إلى القوى المنفذة في الدولة لنقول لهم إنكم تسرقون السلطة، وإنكم تفتئتون على إرادة الأمة وإنكم تتعبدون الأحرار من الناس، وإنكم تذلون الشرفاء من الخلق لا نملك هذا في الحالة العادية وسنملكه بإذن الله، لا نملك هذا، ولكن الشيء الذي يقع تحت إرادتنا، يقع تحت ملكنا، يقع تحت طوقنا وتصرفنا أن نرفض إرادياً الإذعان لهذا الشيء أن نعزم العزم على أن نبذل كل ما وسعتنا من طاقة لكي نُغَيَّر وضعاً نعرف أنه جاهلي ونعرف أنه مرتد ونعرف أنه حرب لله وحرب لرسوله وحرب لجماعة المؤمنين وتدمير لمستقبل الأمة هذا نملكه نملك الإرادة ونملك العزيمة فالمسلم الذي ينام كما ينام الغير والمسلم الذي يذل كما يذل الحمار تحت ضربات العصا لهذه الأوضاع بعيد عن معنى العبادة ليس عابداً لله بتاتاً لأن العابد لله هو الذي ينفذ شرع الله فإن لم يستطع إلى ذلك سبيلاً فهو على الأقل الذي يعزم على أن يبذل كل ما يملك من طاقة ليضع شرع الله موضع التطبيق.

أين أنتم من قول الله تبارك وتعالى:

(وما كان لمؤمن لا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الْخِيَرَةُ من أمرهم ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً).

 أمور الإسلام في هذا الموضوع واضحة ما أريد أن أفيض بها ولكني أريد أن أخلص منها إلى بيان شمول ساحة العبادة في نظر الإسلام هل الأمر يقتصر عند هذا الحد لا تصرفاتك كلها منامك يقظتك أكلك شربك تعاطيك لأعمالك معاملتك لأهل بيتك كل ذلك عبادة بشرط واحد وبسيط، بسيط جداً تقديم النية الصالحة تقديم إرادة الخير تقديم إرادة وجه الله تبارك وتعالى فأنت إذا أكلت فحمدَّ الله فأنت عابد؛ وإذا اكتسبت وتحريت أن تأخذ مالك من وجوه حلال فأنت عابد؛ وأنت حين تلاعب ولدك فأنت عابد؛ وأنت حين تبيع وتشتري بنية إعفاف نفسك والقيام بمصالح عباد الله تبارك وتعالى فأنت عابد؛ بل أبعد من ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"في كل كَبِدٍ رطبة أَجْرٌ".

لو أنك أخذت لقمة خبز فوضعتها في فم هرة فأنت عابد أيضاً، أبعد من ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"وفي بُضْعِ أحدكم صدقة".

البُضْع هو جماع الرجل لزوجته.

استغرب الصحابة رضي الله عنهم قالوا:

يا نبيَّ الله أياتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟

قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟

قالوا: نعم.

قال: كذلك إذا وضعها في الحلال فله بذلك أجر."

 النبي عليه الصلاة والسلام يذكر من وجوه البر التي يثيب عليها الله تبارك وتعالى: اللقمة تأخذها بيدك فتضعها في فم زوجتك. أرأيتم كيف تشمل كلمة العبادة وصور العبادة كل هذه التصرفات؟

سأعطيكم أمثلة: النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ما روى عنه أبو ذر رضي الله عنه قال:

سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ماذا ينجي العبد من النار؟

قال: الإيمان بالله.

قال قلت: يا نبي الله مع الإيمان عمل؟

قال: نعم. أن ترضخ مما خَوَلَّكَ الله، معنى ترضخ أن تعطي الناس من الرزق الذي وضعه الله بين يديك.

قال قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان لا يستطيع أن يرضخ مما عنده شيء.

قال: فليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر.

قال قلت: يا رسول الله فإن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟

قال فَليُعِن الأخرق، والأخرق هو الصانع الذي لا يحسن الصنعة.

قلت يا نبي الله: فإن كان لا يقدر؟

قال: ما تريد أن تترك لصاحبك من خير؛ فليعزل أذاه عن الناس.

قال قلت: يا رسول الله أرأيت إن فعل هذا يدخل الجنة؟

قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما من عبد مؤمن يأخذ بإحدى هذه الخصال؛ إلا أخذتُ بيده إلى الجنة.

سأذكر لكم حديثاً آخر أكثر تعبيراً.. في تاريخ ابن خزيمة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"على كل منتوٍ –المنتوي هو المفصل هو العضو على كل منتو من الإنسان صلاة كل يوم.

قال رجل من الجالسين: يا رسول الله هذا من أشد ما أنبأتنا به، الإنسان كم به من المفاصل والأعضاء مئات فإذا كان كل مفصل عليه صلاة كل يوم، فالإنسان وقته كله لا يتسع لهذه الصلاة.

فابتسم النبي صلى الله عليه وسلم وبيَّنَ وهو الرحيم الودود الأمين قال:

"أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صلاة.

حملك عن الضعيف صلاة.

وامحاؤك القذر عن الطريق صلاة.

وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صلاة أيضاً.

فمعنى العبادة التي يقرر المسلم كل يوم أنه يوجهها إلى الله هو هذا المعنى الشامل المؤسس على ماذا المؤسس على اعتقاد بأن الإنسان مملوك لله تبارك وتعالى وبأنه ملزم بأن يسير ضمن منهج الله تبارك وتعالى في الحد الذي يرضي الله مع تقديم النية الحسنة فإذا فعل هذا فإن أكل أو شرب وإن نام أو استيقظ وإن أخذ أو أعطى فهو في أمان الله تعالى وضمن حدود عبادة الله تعالى فالعبادة إذاً ليست عندنا على النحو الذي كان معروفاً عند الأمم الماضية التي انحرفت بأفكارها وتصوراتها؛ وقضايا العبادة عندها، عندنا وجود الإنسان عبادة كاملة مؤسسة على ماذا مؤسسة على معنى الاستخلاف في الأرض فالله تبارك وتعالى كما تقرؤون في أول سورة البقرة:

 (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها) إلى آخر المقطع فمعنى الاستخلاف لا يستقيم بداهة إلا بأن تكون الحركة الإنسانية منسجمة مع الناموس العام الذي وضعه الله تعالى في الكون وصغّره واختصره بهذه الشريعة التي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم مرادات الإنسان يجب أن تتوافق مع  مرادات الله تبارك وتعالى في الصغير وفي الكبير وفي الجليل وفي الحقير الإنسان لا خيار له إما أن يكون لله عبداً قائماً بوظائف العبودية وإمّا أن يكون في الأرض جباراً عاتياً مستكبراً نعوذ بالله تعالى أن نكون كذلك لا أريد أن أمضي أكثر من هذا في تحليل معاني سورة الفاتحة وإن كانت تحتاج إلى وقت كبير؛ لكني كما سألت في آخر الخطبة الماضية؛ هل فقدت الفاتحة مبررها ومعناها بعد هذا الزمن الطويل؟

وقلنا لا نعيد السؤال ذاته اليوم ألسنا اليوم محتاجين إلى الفاتحة بمعانيها العظيمة الكبيرة؟ نعم نحن نحتاجها:

إن الإنسانية اليوم ومن جملتها عالمنا الإسلامي الذي غذي بكل ما عرفته الدنيا من حثالة الأفكار ونخالة الأذهان؛ مبتلاة بتمزق ومهددة بشر مستطير، إنك تسمع بناس كثيرة يعتنقون مبادئ الرفض وينادون بعبثية الحياة ولا جدوها ويرون أن الإنسان يكدح ويسعى بين الميلاد والممات لا لغاية ولا لغرض ومن أجل ذلك يقدمون على الانتحار يريدون أن يتخلصوا من حياة عابثة بلا معنى وبلا أية فائدة، وتسمع عن مظاهرات واحتجاجات تتقدم لتعلن رفضها لكل القيم الموجودة في المجتمع فكل هذه الأمور تدخل الخلخلة والبلبلة إلى المجتمع البشري؛ ولكنها على كل حال تعبر تعبيراً صادقاً عن فقر القيم التي يعيش عليها الناس في هذه الأيام؛ وتعبر عن عجز هذه القواعد والقيم التي تقوم عليها الحضارة الإنسانية عن إعطاء هذا الدين معنى للحياة التي يحياها فالإنسان المسلم ليس كذلك.

الإنسان المسلم ينظر إلى الحياة؛ أنها مزرعة الآخرة وأن مكانه عند الله يتحدد على النحو الذي كان عليه في الدنيا؛ وأن من خُتم له بكلمة السعادة فمن أهل السعادة عند الله ومن خُتم له بكلمة الشقاوة فهو من أهل الشقاوة عند الله تبارك وتعالى؛ وأن الحياة الدنيا التي نحياها ليست غاية السير.

هذا التضامن بين الأجيال جميعاً الجيل الذي مضى والجيل الحاضر والأجيال التي تأتي فلو رجعتم إلى سورة الحشر تتقرَّون فيها ما أبان الله جل وعلا من طوائف المؤمنين الذين يستحقون خيرات المجتمع الإسلامي لوجدتم ربكم نص على أنها للفقراء والمهاجرين الذين أًخرجوا من ديارهم وأموالهم ثم للذين تبوّؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ثم للذين لما يأتوا بعد (وآخرين لما يلحقوا بهم) فالإنسان في نظر الإسلام، الإنسان المسلم ينظر إلى الدنيا نظرة تنتظم الأول والحاضر والمستقبل؛ وكذلك فالله جل وعلا ينص على أنهم:

(الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء).

وكذلك ينص على أن الشهداء عند الله تبارك وتعالى:

(يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

فالحياة بنظر المسلم ليست فترة تنقضي بلا ثمن وبغير غاية وإنما هي حلقة مترابطة يشترك فيها الأولون ويشترك فيها الحاضرون ويشترك فيها الآخرون ولهذا نجد من دعاء المؤمنين:

(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان).

هذا المعنى الواسع الشامل يحمي الإنسان المسلم من كل هذه التمزقات التي تتعرض لها إنسانية اليوم، إيمان بالله ربِّ الكل وخالق الكل، إيمان بأن الإنسان عبد ليس له أن يتجاوز هذا الموضع وهذا الموقف إيمان بضرورة الأخذ بأهداب الشريعة وإقامة حدودها ومعالمها إيمان بإنسانية واحدة تسعى نحو غاية واحدة. فالفاتحة بمعانيها الكبيرة تحمي الإنسان المسلم والمجتمع المسلم من التمزقات الخطيرة التي تتعرض لها المجتمعات الضالة.

سؤال آخر لا بد لنا أن نسأله وإن أطلنا الكلام.. أحب أن أقول لكل المفتونين بالتفكيرات المعاصرة للحركات الإنسانية: هل يستطيع إخواننا الذين يدعون أن الفكر الماركسي، وأن قوانين المادية الجدلية استطاعت أن تفسر حركات التاريخ جميعاً هل يستطيع إخواننا هؤلاء  أن يقولوا لنا بأي منطق يستطيعون أن يفسروا نشأة الإسلام بهذه القفزة الواسعة العريضة التي قفزها؟ وأي قانون من قوانين المادية الجدلية قادر على أن يفسّر نشأة الإسلام؟ أي تطور حدث في المجتمع العربي خلال عدد قليل من السنين في وسائل الإنتاج وفي وسائل البحث عن الطعام في تطور الطبقات الاجتماعية وتحت أي منطق من منطق التناقضات والدياليكتيك يمكن أن نفسر به هذه النقلة الواسعة بين تعددية لا تخضع لقياس وبين وحدانية مطلقة.

يا إخواننا.. هذا الدين رد كامل على كل مفتريات الماركسية وعلى كل مفتريات المفتونين بها وهذا الدين دينكم عصمتكم شعاركم الذي يجب أن تحيوا عليه ويجب أن تعملوا له ويجب أن تموتوا من أجله ليس فيه ما يخزي، وليس فيه ما يعاب، وليس فيه ما يدمر الإنسان، بل فيه كل ما يثري الإنسان ويثري الحضارات الإنسانية، تمسكوا به وتعلموا منه وانشروه بين الناس فإن بشرية اليوم تقف على شفا جرف هار وإن لم تتداركها رحمة الله تعالى بدعاة فاقهين مضحين مخلصين لله ينشرون هذا الدين فسوف تطحنها طاحونة الفناء بلا ريب.

اسألوا الله جميعاً أن يؤهلكم للقيام بهذه الخدمة كي ترضوا رباً مطلعاً على خفيات النوايا وبواطن السرائر واسألوه أن يجعل خاتمتكم على الإيمان وأن يوفق هذه الأمة إلى حمل هذه الرسالة إقراراً لعين محمد صلى الله عليه وسلم وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.