الحلقة (1) من سورة الفاتحة

العلامة محمود مشّوح

الحلقة (1) من سورة الفاتحة

الحلقة 26 الجمعة 13 رجب 1396هـ -9 تموز 1976م

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

بسم الله الرحمن الرحيم

أوصيكم بتقوى الله، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون لقد شرحنا لكم في الجمعة الماضية ما دعانا إلى أن نمضي من جديد شوطاً آخر أطول من الأول - مع الآيات والسور التي تنزل في المرحلة المكية المبكرة- ولقد حددنا لأنفسنا مدى زمنياً هو الهجرة الأولى إلى الحبشة، وهي تقع في حدود السنة السادسة للمبعث؛ على اعتبار أن هذا الوقت هو أبعد ما قيل فيما يتعلق بمبدأ الجهر بالدعوة العامة، ولاعتبار آخر نضيفه؛ الآن وهو أن المتتبع للسور الواحدة والخمسين التي نزلت تباعاً في هذه المرحلة المبدوءة ببدء الوحي والمنتهية بالهجرة الأولى إلى الحبشة لا يكاد يلمس فيها فارق حاسم بينها وبين بعض أجزائها؛ فكلها تتعاون وتتعاضد على تقرير مبدأ الألوهية وتقرير حقيقة الإسلام وأنه الدين المرضي عند الله تبارك وتعالى وبيان بعض ما ينبغي للمسلمين أن يأخذوا به أنفسهم في ذواتهم وفيما يليهم، وبيان ردود الأفعال التي تجلت على شكل حماقات وعداوت من معسكرات الشرك كافة وتوجيهات أنزلت على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ليبلغها للمسلمين كي يأخذوا أنفسهم بها في وجه الزوابع والأعاصير المثارة أمامهم وتكاد الآيات والسور كلها في هذه المرحلة تتشاكل على هذا النحو؛ من أجل ذلك لم نر أي حرج في أن نمضي مع الذين مدوا فترة الإنذار العامة فأوصلوها إلى الهجرة الأولى إلى الحبشة حين تنزلت سورة الحجر؛ وبناء على هذا فنحن نبدأ اليوم مسيرتنا هذه.

سبق أن استعرضنا خلال الفترة الماضية السور الأربعة الأولى العلق، القلم، المزمل، المدثر.

ونحن اليوم نمضي مع خامسة السور؛ ولا بد أن أعيد إلى أذهانكم أن هذا الترتيب تقريبي أي أنه ليس أمراً مقطوعاً به، ولكن شبه إجماع ينعقد حتى الآن على أن خامسة السور من حيث ترتيب النزول؛ هي سورة الفاتحة مع العلم أن خلافاً حول هذه الناحية موجود يعثر عليه الذي يراجع كتب التفسير والكتب التي عنيت ببيان علوم القرآن؛ ولكنه على العموم خلاف لا يضر ولا يقدح في إمكانية كون سورة الفاتحة من السور المُبَكِّرة جداً في النزول، لا بد أن نقول إن بعض العلماء -وهو خلاف يرقى إلى عصر الصحابة رضوان الله عليهم- يرى أن سورة الفاتحة من السور المدنية، وليس من السور المكية؛ وأن بعضهم يرى أنها مكية وأن بعضهم يرى أنها أول القرآن نزولاً؛ وأن بعضهم يرى أنها أول سورة نزلت من القرآن كاملة لم تتجزأ، وأن هنالك رأياً غريباً يقول إن سورة الفاتحة نزل نصفها في مكة والنصف الآخر في المدينة وبعضهم يذهب إلى أنها أنزلت مرتين مرة في مكة ومرة في المدينة، وبأخذنا لعدد من الشواهد والقرائن في رأسها أن الصلاة كتبت على المسلمين منذ أول الإسلام وأنه لم تعرف صلاة بغير قرآن وأن معظم علماء الإسلام يذهبون إلى أن الصلاة لا تكون إلى بفاتحة الكتاب.

وشيء من القرآن إن استيسر وقرائن وشواهد أخرى كثيرة لا حاجة بكم إليها لهذه الأسباب فنحن نقف مع جمهور علماء المسلمين؛ الذين نظروا في ترتيب السور فنأخذ بأنها خامسة سور القرآن نزولاً ولهذا فنحن نتكلم عليها الآن. ربما يخطر للبعض أن سورة الفاتحة لا تستحق أن يقف عندها المتكلم وقوفاً طويلاً فهي واضحة المعنى ميسرة المبنى؛ الناس كلهم يعرفونها وإذا أراد الواحد من الناس أن يدلل على سلامة الحفظ ووثوق الذاكرة منه يقول فلان يحفظ الشيء الفلاني كما يحفظ الفاتحة؛ فالفاتحة ليست مجهولة من أحد من المسلمين؛ إذ هي مشروعة للصلوات في كل ركعة على الأقل؛ فالمسلم يقرؤها كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل وهذه بالطبع جناية التكرار غير المستبصر؛ فالشيء الذي يمضي معه الإنسان يأخذ صفه العادة وتكون له صفة الآلية، ويفقد ارتباطه بالنفس وبالقلب؛ وبطبيعة الحال فكل واحد منهمك يعلم أن المسلم من حيث هو مسلم مطالب بأن يكون موقفه من القرآن قليله وكثيره -على غير هذا النحو- فالله جل اسمه يقول:

(أفلا يتدبرون القرآن).

ويصوغ هذا الكلام بصيغ السؤال الإنكاري فالله جل وعلا ينكر ويعنف أولئك الذين يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ويقرؤونه دون تدبر وتفكر ودون سعي وراء المعاني العظيمة التي تكمن تحت كل كلمة من كلماته؛ فنحن حين قلنا هذه جناية التكرار، فهي جناية بالحد الذي عليه المسلمون اليوم لا بالنسبة إلى ما ينبغي أن يكون عليه المسلم؛ فالقرآن في عقل المسلم وفي قلب المسلم وعلى لسان المسلم حي أبداً يقرؤونه في كل مرة كأنما هو يقرؤونه لأول مرة؛ فمن أجل ذلك ترى المسلم يزداد بقراءة القرآن خيراً إلى الخير الذي هو فيه، ولكن المنافق والغافل يقرأ القرآن فكأنه ما قرأ ولا تلا -نأخذ السورة الآن- يقول الله تعالى:

(بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. إياك نعبد وإياك نستعين. اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين).

ولسهولة البحث فنحن لن نتبع السياق القرآني وإنما سنقسم الكلام أو الآيات على قطبين أساسيين في السورة؛ فما من شك أن سورة الفاتحة دعاء يقرؤها الإنسان ويجعلها بمثابة الدعاء الذي يدعو به ربه جل وعلا؛ ولكنه دعاء يتضمن معانيه التي لا محيص للمسلم من أن يستخلصها، ولكي يسهل علينا لأمر ويتجلى؛ فنحن نقسم المسألة إلى قسمين؛ هذه السورة قسم منها يتعلق بتقرير ألوهية الله تبارك وتعالى وربوبيته للناس والقسم الآخر يتعلق بتقرير عبودية الخلق لله تبارك وتعالى وافتقارهم إليه. هنا نجد أنفسنا أمام سؤال قبل أن نمضي في الكلام قبل أن نذهب بعيداً في ثنايا البحث، نجد أنفسنا أمام سؤال هل ألوهية الله تعالى وعبودية الناس شيء يحتاج إلى كل هذه العناية وكما قال الله تعالى في القرآن:

(أفي الله شك فاطر السموات والأرض).

نقول. نعم المسالة بالغة الخطورة وهي تستدعي من الإنسان المسلم ومن الجماعة المسلمة أن تضع هذه المسألة في محاورها الحقيقية الثابتة منذ بداية الطريق لأن الغفلة عنها تفقد قضية الألوهية والعبودية حدودهما التي يجب أن تبقيا واضحتين متميزتين ولو أننا ذهبنا نستقري الجو العام حول هذين الأمرين حول الألوهية وحول العبودية حينما جاء الإسلام وحينما نزلت هؤلاء الآيات لوجدنا أن الجو العام كله لا في الجزيرة العربية أو مكة وحدها وإنما على مستوى الكرة الأرضية جميعاً كان يتطلب تعديل كفتي الميزان حول هذه القضية قبل المضي في أي شيء آخر فالحق أنك لو فتحت أي كتاب من الكتب التي تدرس تاريخ الديانات أو علم الأديان المقارن لوجدت عجباً من العجب ولما رأيت أية غرابة في أن ثلاثة أرباع القرآن على الأقل هي حملة على الذين ظلموا مقام العبودية وحملة على الذين انزلقوا عن مقام العبودية؛ فمقام الألوهية كان مختلاً في أذهان الناس، وكذلك منزلة العبودية؛ فلكي يعرف ما هذا الإنسان ومن هو ما مهمته وما هي حدوده، يجب أن يعرف ما وصفه أهو خالق أم هو مخلوق؛ وإذا كان مخلوقاً فمن الذي خلقه أَوُجِدَ مصادفة وكما قال الأولون -ويقول اليوم دعاة المادية الملحدة- نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر؛ أم هو مخلوق لقوة علياً؛ وهذه القوة ما شأنها أهي واحد أم هي شيء متكثر اثنان أو ثلاثة أو أكثر؛ هذه الأسئلة شغلت الإنسان منذ وجد الإنسان، عذبت الضمير البشري الذي ابتعد عن هداية الله وابتعد عن إرشادات الأنبياء.

فأي كتاب تفتحونه يبحث في هذه الأمور سيحدثكم أن الناس في غالبيتهم كانوا وثنيين ينحتون الأصنام بأيديهم ويخرون لها سُجَّداً، وأن من الناس ممن كانوا نصارى يزعمون أنهم على دين عيسى بن مريم عليه السلام، وأن منهم من كان يهوداً يزعمون أنهم أولى الناس بإبراهيم وهم الذين يحملون شريعة موسى صلى الله عليه وسلم، وأن هنالك أيضاً طوائف من الناس تدين بالمجوسية، وهناك أيضاً فئات كثيرة كانت لا تسجد لصنم ولا تتبع رسالة ولا تعتنق ديناً معيناً؛ وإنما هي تعمل الفكر والنظر لتتصور لها إلهها الخاص، وهذه الفئة يسلك تحتها عادة كل الفلاسفة الإلهيين، الذين ظهروا في القديم وفي الحديث. ما كان شأن الوثنين..؟ الوثنيون لم يكونوت يقولون أن الصنم الذي نحتوه بأيديهم وأقاموه لكي يسجدوا له ويطوفوا من حوله ويذبحوا عنده الذبائح والهدايا والنذور ما قالوا إنها هي التي خلقت، وهي التي أوجدت، ما قالوا ذلك غاية ما قالوه:

(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى).

ما هو محصل هذا الكلام؟ محصل هذا الكلام أن ناساً من الناس وانظروا كيف تبلغ محاولة التنزيه محاولة التوحيد حينما - تشذ عن محورها الصحيح - كيف تبلغ بالناس درجة الشرك بالله تبارك وتعالى؛ وتفكروا أن هذا الانزلاق يوجد بين الناس باستمرار، فعبَّادُ الأوثان قالوا: إن الله هو الخالق وهو البارئ وهو الرزاق؛ ولكن الله في علياء سمائه أعلى وأعظم وأجل من أن نتوجه إليه نحن المخلوقين المدنسين الملوثين بالعبادة وبالطلب فالله أعلى من ذلك وأجل، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن نقيم بيننا وبين الذات العلية التي هي الله وسائط توصل طلباتنا إلى الله وترفع عباداتنا إلى الله وتشفع لنا عند الله تبارك وتعالى، فالوثني الذي يسجد للصنم مؤلهٌ وموحدٌ ضل طريقه، وفقد القاعدة التي يسير عليها؛ فسقط في هاوية الشرك -ومثله أو قريب منه أولئك المسلمون أو غير المسلمين من النصارى واليهود الذين بالغوا في ردم أو في تعميق الفجوة بين الله وعباده- حتى استحال عليهم أن يتصوروا قرب الله تبارك وتعالى منهم، فأوجدوا الوسائط فيما بينهم وبين خلقه فالنصارى واليهود اتخذوا أحبارهم ورهبانهم شفعاء ووسائط ومبلغين للطلبات إلى الله تعالى؛ وبعض جهلة المسلمين اتخذوا من الأولياء والصالحين قربات ووسائط يتمسحون بقبورهم، ويطلبون منهم أن يبلغوا طلباتهم إلى الله تبارك وتعالى من حيثُ الحركةُ النفسيةُ، والحركةُ الذهنيةُ. فالعملية واحدة لا فارق أبداً وهذا يدل على مدى ما حرص عليه الإسلام؛ من ربط الإنسان المسلم بالقاعدة الإيمانية الحقيقية المؤسسة على التفريق الحاسم والجازم بين الخالق والمخلوق، بين الرب والعبد، فالوثنيون كانوا كذلك يسجدون لأصنامهم بعد أن ينحتوها بأيديهم غير معتقدين أنها خلقت ورزقت وإنما هم يعتقدون أنها وسائط وشفعاء. هؤلاء الوثنيون كانوا منتشرين كما قلنا في كل أنحاء المعمورة.. سكان الجزيرة العربية في غالبيتهم كذلك، سكان أفريقيا كذلك كانوا وما يزال قسم كبير منهم على ذلك حتى الآن. ديانات الشرق الأقصى الهند الصين اليابان وما أشبه ذلك ما يزال قسم كبير من شعوبها تدين دين الوثنية، كذلك كان عندنا يهود. اليهودية كما نعلم ديانة سماوية تنزلت على موسى صلوات الله عليه وموسى صلوات الله عليه نبي من أولي العزم لا جدال في ذلك؛ أنزل الله عليه التوراة (فيه هدى ونور للذين هم لربهم يرهبون) فلما تقادم الزمن، وأضاع اليهود معالم الشريعة لجأوا إلى الأحبار فكتبوا لهم كتباً واخترعوا لهم دساتير؛ وآمنت بها يهود وزعم هؤلاء الأحبار أن هذا الكلام الذي أعطوه للناس هو ذات الكلام الذي أنزله الله على موسى صلى الله عليه وسلم وحمل الله عليهم في القرآن فقال:

(من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم).

وقال جل اسمه:

(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم يكسبون).

فاليهود كانوا كذلك نسوا الله وعبدوا آلهة أخرى ويكفي للتدليل على وصفهم أن موسى عليه السلام حينما كلفه الله أن يذهب إلى فرعون، وشد أزره بأخيه هارون عليه السلام، وأن يقول له أرسل معي بني إسرائيل، ثم بعد أن أنقذه الله ومعشر يهود من كيد فرعون وَظُلْمِه بأن شق له طريقاً في البحر يبساً لا يخاف فيه دركاً ولا يخشى؛ وبعد أن جاوز ببني إسرائيل البحر:

(مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون).

فبنو إسرائيل إذاً منذ الخروج من مصر ضربتهم نعرة العبودية التي اكتووا بنارها أكثر من سبعمائة سنة عند الفراعنة؛ يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم؛ فهم حرفوا الكلم عن مواضعه؛ واعتبروا الإله الذي يعبدونه إلهاً خاصاً ببني إسرائيل، وهو الإله الكبير ولم يمنعوا الأقوام الأخرى آلهة أخرى؛ ولكنهم قالوا إن إله الغوييم أي الغرباء أي الأميين آلهة صغيرة لا ترقى إلى مقام إله اليهود الذي هو إله بني إسرائيل؛ فالله في عرف بني إسرائيل وفي عقائد بني إسرائيل إله قوم مخصوصين؛ إله قومي ولهذا وصموه بالتعصب للجنس العبراني، وبأنه غيور شديد الغيرة إذا رأى من قومه عبيد الإسرائيليين جنوحاً إلى عبادة غيره أرغى وأزبد ودمّر وأحرق؛ فهو حقود غيور فوق أنه إله قوم خاصين؛ لا إله الناس عامة فإذا جئنا إلى النصارى نجد أن الأمر معهم أعجب؛ فالنصارى يتبعون عيسى بن مريم صلوات الله وسلامه عليه وعيسى نبيٌ مُبشرٌ برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، والله تعالى أنزل عليه كتاباً مقدساً هو الإنجيل، وطلب إلى النصارى أن يتحاكموا إلى الإنجيل، وقال لهم لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ولكن النصارى لم يكد يمضي عليهم أقل من قرن حتى أدركتهم لوثة الوثنية فخضعوا لتأثيرات الدولة الرومانية كما شرحنا ذلك حينما تحدثنا عن هجرة الحبشة. وتحولت الوحدانية المنزهة تنزيهاً مطلقاً والتي جاء بها عيسى عليه السلام إلى دين تعددي وثني وانتهى أمر النصارى إلى أن قرروا أن الله ثالث ثلاثة وأن الإله مكون من الله الذي هو الأب والمسيح الذي هو الابن والروح القدس الذي هو جبريل عليه السلام ثم أضافوا إلى مجموعة الآلهة أو مجموعة الأقانيم مريم عليها السلام واعتبروها إلهاً، ولا نتحاج إلى أن نقول إن السقطة التي سقط فيها بنو إسرائيل سقط فيها النصارى أيضاً، فهم بفعل هذه اللوُّثَة الوثنية اجترؤوا على كلمات الله، فحرفوها وغيروها وبدلوها؛ وأصبح البون شاسعاً بينها وبين العقيدة الصافية في الله الواحد الأحد، والقرآن حين تقلبونه يحدثكم عن هؤلاء النصارى حديثاً مستفيضاً؛ فلقد حمل عليهم القرآن حملةً كشفت مخازيهم، وأظهرت فضائحهم، فقال جل وعلا من سورة المائدة:

(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسًّنَّ الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون).

فالقرآن الكريم فضح هؤلاء النصارى من حيث أنه أبانَ لهم والمسيح عيسى بن مريم إلا رسول قد خلت من قبل الرسل، ألم تعلموا أن الله أرسل من قبله نوحاً وهوداً وصالحاً وشعيباً وإبراهيم وإسحق ويعقوب والأسباط، ألم تعلموا أن هؤلاء الأنبياء جميعاً ماتوا وكذلك عيسى نبيٌ كسائر أنبياء الله مات؛ لو كان عيسى إلهاً كما تدعون لما جاز أن يطرأ عليه الفناء.

(ما المسيح عيسى بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه -ليست إلهاً- وأمه صدّيقه تصدّقُ بكلمات الله، وتُصدّقُ بكتبه، وتُصدّقُ برسله، وأمه صديقه كانا يأكلان الطعام).

وانظر إلى الإله الذي يأكل ويشرب ويتغوط ويتزوج وينام ويطرأ عليه الكبرُ ثم يموت؛ أي إله هذا لو كان في القوم إدراك، ولو كانت لهم عقول تعمل بعد هذا الخطاب الواضح: فالله جل وعلا أبان الأمر أن النصارى ليسوا على شيء؛ والله أيضاً يقص علينا مشهداً يكون يوم القيامة إذ قال الله يا عيسى بن مريم -لأن النصارى ادعت فيما ادعت أن ألوهية المسيح ليست اختراعاً بشرياً، وليست من مصنوعات الأحبار والرهبان؛ وإنما هي وحي الله وإنما هي أوامر عيسى عليه السلام:

 (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم).

كذلك إذاً كانت عقائد النصارى في الله تبارك وتعالى تُعدُّدٌ ورفضٌ لمبدأ الوحدانية، وإخراج للنبي البشر من حد البشرية إلى حد الألوهية التي لا ينبغي أن يتسامى إليها أحد من خلق الله تبارك وتعالى فإذا تركنا الكتابين فما الذي نجد؟ نجد المجوس إلى جنوب مكة في اليمن ونجدهم إلى شرق الجزيرة العربية في فارس؛ والمجوس قوم يُقْالُ إن لهم أصلاً من كتاب، ويقال إن حكيمهم زردشت كان نبياً من الأنبياء؛ ولا نحقق ذلك ولا ننفيه أيضاً كي لا نقع في التكذيب بشيء قد يكون صحيحاً لكن الشيء الذي نستطيع أن نقرره مطمئنين؛ هو أن المجوسية دين وثني، يعني.. دين يعتبر أن هذا العالم مخلوق؛ لا لقوة واحدة ولا بإرادة واحدة؛ وإنما هو دين مخلوق لقوتين وبإرادتين وأن القوتين والإرادتين متعارضتان، بل هما متصارعتان متحاربتان، وأن هذه النقيضة لا يمكن أن تحل إلا في آخر الزمان، يقولون إن الخير خلقه النور الذي هو إله الخير؛ وإن الشر خلقه الظلام الذي هو إله الشر وإن الأصل بين هذين الإلهين في المبدأ أنهما كانا متفاهمين؛ كل إله يتصرف في القطاع الذي خلقه ولا يتعرض للقطاع الآخر؛ ومضى الأمر على ذلك أدهاراً تصوروا السخف وقلة العقل، وانظروا أين يذهب بالناس أين يذهب بالناس؛ يقولون إن الإلهين مضيا على ذلك أدهاراً حتى التفت ذات يوم إله النور فرأى إله الظلمة قد كثر مخلوقاته؛ فغار لذلك؛ فذهب ودخل في صراع معه وأن هذا الصراع منذ ذلك التاريخ قائم في الدنيا، وأن مظاهر الشرور والسيئات والبأساء والضراء والأمراض وما أشبه ذلك مما هو منثور في الأرض بين الناس مظهر من مظاهر هذا الصراع بين إله الخير وإله الشر.. وإله النور وإله الظلمة، وأن الأمر سيظل على ذلك إلى آخر الزمان حين يتغلب إله الخير فيقضي على إله الشر وعلى مخلوقات إله الشر. كذلك يعتقد المجوس.

فإذا تركنا هؤلاء جميعاً وجئنا إلى المُؤَلِّهةِ من المفكرين الذين نعتبرهم أسمى الناس إدراكاً وأرقاهم عقلاً؛ ففي الفلسفة اليونانية وفي أساطير الأقوام التي عاشت قبل اليونان ونبتت قبل الفلسفة اليونانية؛ نجد أن تصوراتهم لا تعدو حداً معلوماً، وهو أن هذا الكون في نظامه السريع بإعجازه الذي لا حد له لا يمكن أن يكون وليد المصادفة، ولا يمكن أن يكون قد خلق نفسه لاستحالة اجتماع النقيضين، فالشيء لا يكون خالقاً ومخلوقاً في نفس الوقت. فلا بد من تقدير قوة عالمة مبدعة مدبرة؟ هي التي أبدعت الكون لكن هذه القوة لا يجوز عليها التغير، والاهتمام بشأن الناس. والاهتمام بالمخلوقات نوع من التغير؛ فالله في عرف الفلاسفة المؤلهين خلق الخلق ثم لم يكترث بهم بعد ذلك أبداً، وهو يقضي الزمان كله يتأمل ذاته فقط لأنه لا يليق به أن يتأمل مخلوقاته الناقصة، فالكمال يتأمل في الكمال ولا كمال إلا لله، والله إذاً يتأمل ذاته ولا يكترث بالمخلوقات أبداً. الساحةُ الدينية عند الأقوام القديمة كانت كذلك وموضوع الألوهية موضوع خضع لتعقيدات عجيبة وموضوع العبودية انزلق إما من تحت أو صعد إلى فوق، وكما قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي:

"إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويُشْكَرُ سواي خيري إلى العباد نازل وشرهم إليّ صاعد أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم فيتعرضون إليَّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ".

هذا الوضع المختلط المضطرب هو الذي واجهته الدعوة الإسلامية واجهته في مجتمع ضيق هو مجتمع المكيين ومن حولهم.. غالبهم يعبد الحجارة، وكما روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي رضي الله عنه قال:

"كنا قوماً نعبد الحجارة فإذا لم نجد حجارة جمعنا حفنة من تراب فجئنا بالغنم فحلبناها عليها ثم طفنا بها".

وكما قال عمرو ابن عبس رضي الله عنه:

"كنت من قوم يعبدون الأصنام فيرتحل الحي –القوم يرتحلون- يخرجون إلى البادية ليس معهم إله، فيذهب الواحد منهم فيأتي بأربعة أحجار ينظر أحسنها فيجعله إلهاً ويأخذ الأحجار الثلاثة الأخر فيجعلها أثافي -ركائز ينصب عليها قدره- وربما وجد حجراً أحسن من الحجر الذي اتخذه إلهاً قَبْلَ أن يرتحل فيلقي بالإله السابق ويضع بدلاً عنه هذا الإله الجديد" الذي هو أنظم وأكبر وأحسن حالة العرب الذين واجهتهم الدعوة كانت كذلك -في الغالب- ولكن كان بينهم نفرٌ من المؤلهة كان منهم الناس الذي يسندون ظهورهم على جدار الكعبة فيواجهون قومهم بقولهم: يا قوم والله إنكم لستم على دين ويقولون: نحن نطلب دين إبراهيم عليه السلام لكن أنى للإنسان مهما بلغ به صدق الرغبة أن يعثر على دين إبراهيم أو دين إسماعيل أو دين عيسى أو دين موسى أو دين محمد إلا عن طريق الوحي؛ فجهد الإنسان وتفكير الإنسان وقدرة الإنسان الخاصة لا يمكن أن تقود الإنسان في طريق العقيدة. طريق العقيدة طريق يخطه الوحي من أول حرف، فيه إلى آخر حرف ومتى تدخل العقل البشري في طريق الوحي أفسد إفساداً تاماً، كان بين العرب هؤلاء المؤلهة الذين ينكرون عبادة الأصنام فلا يسجدون لصنم ولا يأكلون ذبيحة ذبحت على صنم ولكنهم يطلبون دين إبراهيم، وهم لا يملكون السبيل للوصول إلى دين إبراهيم كان منهم من يزعم أنه نبت الأرض كما ينبت النبات... وأحد عتاة المشركين ذات يوم حمل عظماً بالياً من عظام الموتى ففته بيده حتى أصبح تراباً ثم وضعه في كفه ونفخه في وجه محمد صلى الله عليه وسلم وقال له: يا محمد تزعم أن الله يحيي هذا؟ قال نعم، الله يحييك ويميتك ثم يحييك ثم يدخلك النار.

كان منهم ناس كذلك لا يؤمنون بآخره ولا يؤمنون بنبوة ولا يؤمنون بألوهية وإنما هم دهريون كهؤلاء الشيوعيين الماركسيين الذين يقولون اليوم وتسندهم دول عظمى وتتأثر بهم دول مسلمة مع الأسف الشديد، تنتسب للإسلام وتدخل في حظيرة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فيدَّعون أن لا آخرة، وأن الألوهية كذبٌ ووهم، وأنها لا تعدو أن تكون مؤسسة أفرزتها الحركة الرأسمالية لتلهي بها الفقراء والكادحين كما كان عند العرب.. الماركسيون كما تعلمون يزعمون اليوم أنهم تقدميون وإذا أرادوا أن يشتموا إنساناً مسلماً يقولون عنه رجعي وهم الرجعيون لأن العلك الذي يقولونه قالته العرب؛ وقاله غير العرب منذ آلاف السنين قالوا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر فانظر أي تقدمية هؤلاء الزائغين المزيفين الكاذبين المضللين المبطلين. الرسالة الإسلامية كما تواجه اليوم هؤلاء الأوباش الأفاكين الأفاقين الذين يقطعون الطريق على العقل السليم واجهت كذلك هذا الصنف من الناس حين تنزل القرآن على محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فماذا فعلت هذه الرسالة، باتفاق نقول إنها قررت أن الله رب العالمين ففاتحة سورة الفاتحة تقرر وحدانية.. الله تخص الحمد بمن؟ الحمد لله رب العالمين.. أثبت وصف ربوبية العالمين لله لا لاثنين ولا ثلاثة ولا صنم ولا لكائن مجهول لا يمكن إدراكه إنما هو الله الذي خلق وبرأ والذي أعطى ومنع والذي رزق والذي أمات والذي أحيا. فالله إذاً هو رب العالمين؛ ولكن هل هذا يكفي؟ لا.. هو أيضاً رحمن ورحيم فإله اليهود الذين يقولون إن إلههم جبار وإلههم حقود وإله غيور غير إله المسلمين الذي يتصف بالرحمة المطلقة هو رحمن ورحيم ثم هو أيضاً مالك يوم الدين فالنصارى واليهود ولكي تستطيعوا أن تربطوا هذه الإشعاعات مع بعضها حينما تقرؤون الآيات التي ربما لا تفكرون بها. النصارى واليهود ماذا قالوا؟ قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه. ماذا قالوا؟ قالوا: إن الله لن يعذبنا بذنوبنا، ماذا قالوا؟ قالوا إن الأحبار والقسيسين والقديسين وأنبياءنا يشفعون لنا عند الله تبارك وتعالى فالله جل وعلا حينما يقول مالك يوم الدين يشعر عن طريق الإيحاء المباشر أن يوم الدين الذي هو يوم الجزاء، ويوم الدينونة والمحاسبة لا يملك فيه أحد الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً، وأن القسيسين والرهبان والقديسين والآباء والأجداد والأبناء والأولياء والصالحين إلى آخر ذلك لا يغنون عن الإنسان شيئاً من الله تبارك وتعالى؛ فالقول الفصل والكلمة النهائية هناك وفي ذلك اليوم لله الواحد القهار.

(ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين).

فالله جل وعلا منذ فاتحة سورة الفاتحة يضع شأن الألوهية في نصابه الحق: كائن منفصل ومتميز تماماً عن مخلوقاته، لا يمكن أن يلتبس بهم، ولا أن يتحد بهم، ولا يمكن أن يتعدد ولا أن يتكثر وله أوصافه الخاصة.

ثم تعرض لنا السورة الكريمة موقف الدعاء الذي يقر فيه العبد -وهو يدعو- على نفسه؛ بالعبودية إياك نعبد؛ وإياك نستعين وفي تقديم الضمير المنفصل الذي هو إياك على الفعل الذي هو نعبد إشارة إلى أن هذه العبادة التي تكون منا لن تكون -إلا لك يا ربنا فقط- إياك نعبد وكذلك الاستعانة فلا استعانة بأحد إلا بالله تبارك وتعالى؛ لا يجوز لأحد أن يستعين ببشر ولا يجوز لأحد أن يستعين بحجر ولا يجوز لأحد أن يستعين بأي شيء من الأشياء.

هذا إجمال ولكنه كما ترون إجمال لا يغني عن التفصيل وليس في طوقي ولا أظن كذلك أن في طوقكم أن تصبروا أكثر من ذلك؛ ليس في طوقي أن أشرح الأمر الآن أكثر من ذلك ولكني أحتفظ لكم ولنفسي بالوعد أن نشرح معنى العبادة ومعنى الحمد ومعنى الاستعانة ومعنى طلب الهداية إلى الصراط المستقيم وكذلك بعضاً من خصائص الألوهية التي يجب أن لا تغيب عن بال الإنسان المسلم في الجمعة القادمة وأتساءل إذا كانت منزلة الفاتحة من دين الله ومن شريعة الإسلام بهذا الشكل وإذا كان رسول الله صلوات الله عليه وسلامه كما روى الأئمة نادى أبي بن كعب رضي الله عنه؛ فتأخر في الجواب فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له:

يا أبيّ ما منعك أن تجيب إذ دعوتك؛ ألا تقرأ في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إٍذا دعاكم لما يحييكم)؟

قال: يا رسول الله كنت أصلي: قال لأعلمنك أعظم سورة نزلت في القرآن والتوراة والإنجيل والزبور.

وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد أبيّ يسايره -وهما يمشيان باتجاه باب المسجد- حتى إذا بلغا الباب قال أبي:

"بأبي أنت وأمي يا رسول الله ألم تقل لأعلمنك أعظم سورة في القرآن والتوراة والإنجيل والزبور؟".

قال بلى. ماذا تقرأ حين تفتتح الصلاة؟

قال: الحمد لله رب العالمين.

قال: هي هذه؛ والذي نفسي بيده لهي أعظم سورة أنزلت في التوراة والإنجيل والقرآن والزبور وإنها للسَّبْعُ المثاني. والقرآن العظيم الذي أوتيته.

إذا كانت الفاتحة كذلك وكانت مشروعيتها أبداً أن تقرأ في كل ركعة فهذه المشروعية ليست هباء، وليست عبثاً، وحين تتلى سورة كهذه في كل ركعة فلا بد أن للإسلام غرضاً؛ والواضح أن الغرض هو تثبيت معانيها في ضمير المسلم وحسه؛ ولكي تتحول هذه المعاني إلى واقع يعاش وإلى حياة تكيف وفاقاً للحدود التي وضعتها هذه السورة وإذا كان الأمر كذلك وكان المسلمون قد أفادوا من هذا المعنى فائدة عظمى؛ فبرأت ساحتهم بحمد من أن يسجدوا لغير الله وأن يعظموا غير الله حتى إن الإنسان بعد هذه الأدهار يتذكر محمداً صلى الله عليه سلم فلا يمكن إلا أن يُعَظِّمَهُ، وإلا أن ينزله المنزلة السامية فكيف بالذين كانوا يعيشون معه صلوات الله عليه، ويرون من كريم أخلاقه ومن عظيم سجاياه ومن سامي آدابه ومناقبه ويرون من المعجزات التي كانت تظهر على يديه، ويرون الشجاعة التي كان يواجه بها المشركين، والرجولة التي كانت موجودة حين أداء رسالة الله وإبلاغ كلمات الله؛ أي إعجاب وأي تقدير يملك نفوس هؤلاء الأصحاب؛ لا بد أن رسول الله صلوات الله عليه كان يحتل من نفوسهم منزلة هائلة جداً ولكن الرسول البشر، الرسول المعلم، الرسول القائد الرسول الموجه يرفض أن يسمح لأتباعه أن يسمح للمسلمين بأن يزحزحوا شخصه الكريم فوق منزلة العبودية شعرة واحدة قال ابن عباس جاء رجل فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال أجعلتني لله نداً -ساويت بيني وبين الله- قل ما شاء الله وحده وكان يقول لأصحابه باستمرار لا تطروني أي لا تمدحوني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يوماً بين أصحابه فقال قائل: يا خيرنا وابن خيرنا ويا سيدنا وابن سيدنا فانتفض النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان إنما أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن تنزلوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل. إذا كان الإسلام قد أفاد من هذا التوجيه الحكيم هذا الحسم والفصل بين مقام الألوهية ومقام العبودية فارتفع الله جل وعلا في علياء سمائه إلهاً يعبد وقام الناس جميعاً لله رب العالمين عباداً يتساوون من حيث القيمة الإنسانية ويتفاضلون عنده بالتقوى والعافية.

إذا كان الأمر كذلك فهل فقدت الفاتحة مبررها ومعناها بعد ألف وأربعمائة سنة من نزولها؟ ما أظن ذلك نقول لن تفقد معناها ولم تفقد مبررها فالوثنية بصور جديدة وبالصور القديمة ما زالت موجودة والالتباس بين الذات الإلهية وبين المفاليك من بني آدم ما يزال موجوداً وحسبك أن تسمع اليوم وخاصة في دول العالم الثالث المنكود هذه الأوصاف والنعوت التي تطلق على أناس تعرفهم بماضيهم خونة مأجورين، وتعرفهم بحاضرهم لصوصاً مرتشين، وتعرفهم برجولة تائهة زائفة منحلة؛ ومع ذلك يقال زعماء قادة آلهة تستطيع أن تسب الله، ولكنك إن سببت واحداً منهم قضيت شهوراً وسنين في السجون.

هل فقد معنى الألوهية معناه بعد ألف وأربعمائة سنة كما قررته سورة الفاتحة في وجه زيف من هذا الذي ترون؟ لا. ما زال الأمر كما كان عليه حين تنزلت السورة على محمد؛ بشرية حائرة تطلب الهداية لنفسها ولن تستطيع أن تهتدي قط حتى تحرر أمرين تحريراً قاطعاً مطلقاً حتى تحرر العبودية فتكون هناك سامية عالية تعنو لها الوجوه وتسجد لها الجباه ويخضع الكل لها وحتى يتمايز المخلوق إنساناً أو دابة أو حجراً أو أي شيء مصنوعاً ومخلوقاً لله تبارك وتعالى لا يجوز أن يتطلع بنفسه فوق منزلته التي هو فيها لا يجوز لأحد أن يرفعه فوق هذه المنزلة شعرة واحدة دعونا من ذلك كله واستوصوا بسورة الفاتحة خيراً إقرؤوها وفكروا بها وانتظروا معنا إن شاء الله الجمعة القادمة لنرى أوصاف ربنا الرحمن الرحيم مالك يوم الدين هذا الرب الذي هو أهل لأن يعبد وأن تطلب الهداية منه وأن يستعان على كل خير يطلبه الإنسان وكل مكروه يستدفعه الإنسان وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العاملين.