واجب الدعاة في فهم دينهم

العلامة محمود مشّوح

واجب الدعاة في فهم دينهم

معالجة الإسلام للقضايا العامة

الحلقة (24)- الجمعة 28 جمادى الثانية 1396هـ - 25 حزيران 1976

العلامة محمود مشّوح

(أبو طريف)

بسم الله الرحمن الرحيم

فإنه ليسعدني أن أعود لألتقي بكم مرة أخرى وأرجو هذه المرة أن يطول اللقاء بعض الشيء أرجو أن يعين الله تعالى على الفراغ من دراسة بواكير الدعوة وأن يعين على دفع هذه الدراسة مراحل أخرى إلى الأمام، ولقد كان لازماً أن نصل ما انقطع وأن نأخذ بالحديث من حيث انتهينا، ولكني أحببت اليوم أن أركز على بعض الأفكار وأن أعيد النظر ببعض جوانب المنهج الذي اعتمدناه في هذه الدراسة، ولي من ذلك غرض.

منذ زمن كنت أتحدث إلى بعض الإخوة عن أماني كنت أقول إذا تيسر لي بمعونة الله أن أكتب عن القرآن دراسة ميدانية تثير مسائله كلها وتعرض قضاياه وإذا تيسر لي أن أكتب يوماً ما في السيرة النبوية دراسة حركية وإذا تيسر لي بعد ذلك أن أحدد بالضبط مناهج الحركة الإسلامية فسوف أموت حين أموت وأنا قرير العين رضيُّ النفس.

ولقد يبدو أنه لن يتيسر لنا من ذلك شيء فنحن لا نملك أنفسنا، وقد ينبغي أن نقول إننا لا نملك أوقاتنا وإن هذه الحياة التي نحياها بما فيها من عواصف ورعود وبروق تحطم الأعصاب وتسحق الإنسان سحقاً، وإن العمل الذي في الذهن ليس عمل أفراد وإنما هو عمل جماعات؛ وما زلنا كما قلت في يوم غير هذا في الشرق عموماً لا نعرف للعمل الجماعي قيمته الحقة، وهذه بلاد الدنيا المتقدمة الراقية التي تقدر العمل الجماعي وتقدر قيمة عمل الفريق بدأت منذ زمن تبني للعلماء مدناً خاصة بهم تجمعهم على صعيد واحد؛ وتكل إليهم إنجاز الدراسات المهمة، ونحن ما زلنا حتى الآن في هذا الشرق المسكين نعتمد على الدوافع الفردية بما فيها من نقص وقصور، وبما يدخلها من ملل وانقطاع فمن أجل ذلك تجيء أعمالنا كلها ودائماً بتراء ناقصة؛ وإزاء هذا الأمر فنحن لا نملك حق التخلي عن المهمات فلنعمل ضمن الميسور والميسور، اليوم أن يقول القائل ما يراه الحق والصواب، وأن يضرب صفحاً عن المشروعات الطموحة والخطط العريضة، وبحسبي في هذا المجال أنني أقول كلاماً يحتوي أفكاراً مؤسسة على قواعد في البحث والدرس أظنها علمية؛ ومن بعد فأنا أجيز للناس عموماً أن ينتفعوا بهذه الأفكار شريطة أن لا يشوهوها ولا أدري فقد يتفضل الله علينا ذات يوم فيبعث فينا القدرة على أن نصب هذا الذي نقول ونعتقد، على الورق كلاماً ينتفع به الناس إلى أزمان طويلة لهذا فأنا حريص على أن أتحدث بين الآن والآن عن حدود المنهج، وجوانب المنهج وأن أمثل لهذه الحدود ولهذه الجوانب كي يتعرف الإخوة على الخطوات التي تتبع في الدراسة وعلى العمليات التي تمارس من أجل استخلاص الفكر؛ لكن لماذا بعد هذا العمر الطويل؟ هنا لا بد أن نقدم فنقول:

لعل بعضكم يذكر في عام 1967 وفي هذا المكان وبعد أن خرجنا من الهزيمة المرة على أثر ضجيج شمل العالم العربي خمس عشرة سنة يشنشن بالقوة التي لا تقهر، وبالسلاح الذي لا يفل، وبالتنظيمات الثورية وبالأحزاب العقائدية التي تُرْخِصُ كل شيء من أجل القضية؛ وكانت جولة عمرها في الزمان ساعتان انجلى الغثاء، وتكشف الزبد؛ عن كذب عريض وعن تدليس مفضوح، وعن مؤامرة رهيبة شارك في صنعها كل الذين لعبوا على المسرح قبل سنة 67 - وفي هذا الصدد وفي تلك الأيام كنت أقف هنا في هذا المكان، وأقول للإخوة: إن النكبة التي حلت بالأمة قضاء من قضاء الله لا يغالب، وإن وراءها حكمة باتت الآن مكشوفة، وإن جميع الأنظمة وجميع المناهج من جميع الأصعدة وعلى مختلف المستويات؛ أثبت الواقع المر؛ عجزها وفشلها وإفلاسها، وإنه بات حتماً لازماً على الفاقهين من أبناء الأمة وعلى الذين يحسون بأحاسيسها ويتذوقون آلامها ويريدون لها مستقبلاً كريماً؛ أن يعيدوا مراجعة كل الذي كان يجب أن يجري حساب دقيق وحساب قاس للفرد من حيث هو فرد، وللمنظمة من حيث هي منظمة، ولنظام الحكم من حيث هو نظام حكم، وللمؤسسات العسكرية التي أعدت لندرأ بها في نحر العدو.

ومضت الأيام بيننا وبين ذلك اليوم ما يقارب العشر سنين؛ هل تغير في الجو شيء؛ لا ما زال الفاسدون سادرين في غيهم، وما زال الأفاقون يقطعون على الأمة طريق مستقبلها، وما زالت الألاعيب تمارس على نفس المنهج الكاذب المفضوح والأمة تنحني تحت وطأة هذا الحمل المبهظ، وتنظر إلى المستقبل بعين يملؤها الرعب من المصير الأسود الذي يتربص بهذه الأمة ذلك كلام قلناه وتلك ملاحظة نقولها الآن وما نحن بصددها، ولكني أريد أن أقول إنني أنا بالذات منذ ذلك التاريخ غيرت نهجي كنا قبل هذا التاريخ، وطبعاً مع اختلاف في المستوى، نسير على منهج يتسم بالتكرار، بنثر الكلام اللامسؤول، قد ننمق الكلام قد نعتني بالفكرة؛ ولكني أعترف أننا لم نكن ملتصقين حقاً بقضية الأمة؛ كان بيننا وبين الأمة فراغ رهيب وكنا نعيش أوهاماً تصور لنا أننا بخير بل بألف خير، وكنا نتصور أننا لو قلنا لجبل زُلْ من مكانك لزال، حتى كان ما كان؛ فوجدنا أن الواجب يتقاضانا أن نطبق ما نصحنا به الناس على أنفسنا أولاً، وأن نخضع أنفسنا للمراجعة الجادة والقاسية، واكتشفنا مع الأسف لماذا لا يتحرك المسلمون لماذا لا تترقى حال المسلمين، لماذا وهم الكثرة الكاثرة في البلاد لماذا وهم قرابة الألف مليون، ولماذا وهم يسمعون التوجيه في كل بلد وفي كل قرية في عدد من المساجد في كل أسبوع؛ لماذا لأن الذين ندبوا أنفسهم للتخاطب مع الجمهور بينهم وبين الجمهور فراغ رهيب، أو لأنهم ندبوا أنفسهم لعمل لا يحسنونه ولعمل ليسوا مؤهلين له؛ لا فكراً ولا سلوكاً. وأية قيمة لصلاة جمعة يقف فيها الخطيب يقلب صفحات كتاب مضى على طبعه مئات السنين، وأية قيمة لصلاة جمعة يقف فيها إنسان مفوه يحسن صياغة الكلام ورصفه فيقول للناس كلاماً يروع وياسر، ولكنه لا محصل من ورائه إذاً فالأمة معذورة حين لا تفيد شيئاً من هذا الكلام، والأمة معذورة حين يهون عليها العلماء، والأمة معذورة حين تنعدم الفائدة التي يجب أن تُؤسس على التجاوب الحي بين الموجه وبين الناس الذين يستمعون إليه؛ منذ ذلك التاريخ تغيَّر المنهجُ والتفتنا إلى كتاب الله، ومن هذا المنبر استعرضنا بفضل الله تعالى سورة البقرة بتمامها، وفي هذا المسجد وفي غيره استعرضنا الجانب الأعظم من سورة آل عمران وإلى الوقت الذي أتحدث عنه إليكم؛ فللأمانة أقول لم أكن راضياً عن كل هذا الذي أقول الرضى الذي يشعرني بالاطمئنان وبالثقة إلى سلامة النتائج التي أتوخاها، لا يبلغ بي الغرور قطعاً المرحلة التي أمنح معها آرائي صفة البت والقَطْعيِّة، هذا شيء لا يخطر ببالي، لكن غيرت المنهج أيضاً في العام الماضي مثل هذه الأيام أو قبلها بقليل؛ كنت أقول لكم إننا في هذا الشرق نجهل قيمة العمل الجماعي وقد آن لنا أن نكتشف أن أي عمل فكرياً كان أو عملياً لن يكون له مردود ما لم يكن مؤسساً على الصعيد الجماعي المشترك؛ فالقضية قضية الأمة ككل وينبغي أو المفروض أن يكون اهتمام الناس المسلمين بها متساوياً أو على الأقل أن يكون اهتمامهم بها متقارباً؛ فمن أجل ذلك فالحاجة ماسة إلى حركة إسلامية جامعة تضبط هذا العمل وتنظم له مجاريه، هنا نصل إلى المعضلة التي وقفنا عندها كل السنة الماضية والتي دندنا حولها في الكلام أثناء خطبنا الماضية العشرين أو أكثر أو أقل لا أدري.

لكن قبل أن نسترسل أحب أن أقول لكم شيئاً أو أذكر لكم واقعة إن المأساة التي نتحدث عنها والتي نحاول أن نشخص بعض جوانبها ليست لعنة من السماء تنزل بها ملك من الملائكة فألصقها بجسم الأمة لا. المأساة حصيلة أجيال حصيلة مئات السنين تعاون على إخراجها أمران عجز في الأمة ومؤامرات من الخارج من الأعداء وعجز الأمة شيء مفهوم وسبيل تلافيه أيضاً سبيل معلوم لكن الشيء الذي يجهله معظم الناس هو ما حيك لهذه الأمة في الخارج ومن المؤسف أن أقرر أن أبناء هذا الجيل بالذات هم أشد الناس جهلاً بجذور المشكلة التي تعانيها الأمة، حينما بدأنا نراجع الخطوات ونراجع الأفكار تبين لنا أن أية خطوة تهدف إلى صالح الأمة، لا بد لها من أن تأخذ في حسابها ضرورة الدراسة النزيهة والأمينة لتاريخ المسلمين خلال المئة والخمسين سنة الماضية.

ما هي التطورات التي حصلت في بلاد المسلمين؟

ما هي الأخطار التي تعرض لها المسلمون؟

ما هي القوى التي ناصبت المسلمين العداء؟

ما إذا كانت تريد وما تبغي.

ما هي الوسائل التي سلكتها لكي تنفذ وتحقق هذا الهدف الذي تسعى إليه؟

أما الهدف فقد تحقق؛ ولا أحد الآن يجهل أن حصيلة المؤامرة العالمية اليهودية الصليبية الرهيبة تَكَشَّفتْ عن احتلال كامل لكل ديار المسلمين، كما تكشفت عن تجزئة مخيفة لبلاد المسلمين. هذا شيء لا يجهله أحد؛لكن الشيء الذي يجهله أبناء الجيل أن كثيراً من المفاهيم وكثيراً من الأفكار والمعتقدات التي يرونها الآن حقائق مسلمة؛ هي صناعة أجنبية موجهة لكي تكون لغماً يفجر جسم هذه الأمة، ولعل شبابنا المثقف والمثقف جداً يستغرب هذا الكلام لكن سأضرب مثلاً نافعاً يساعدنا على فهم أبعاد المؤامرة كما يعيننا على أن نضع أقدامنا بسلام على أول الطريق؛ لا تكاد اليوم تجد بين الشباب المثقف التقدمي من هو مستعد للمناقشة في قضية علمانية الدولة وفي فصل الدين عن الدولة هذا كلام يعتبره التقدميون ألف باء العمل السياسي والعمل الاجتماعي شيء لا يناقش، لكنا نريد أن نتساءل هل كلف هؤلاء الإخوة المثقفون جداً أنفسهم مؤونة السؤال أين نشأ هذا الكلام وماذا يراد من هذا الكلام وهل كلفوا أنفسهم مؤونة البحث عن نتائج تطبيق هذا الكلام في بلاد المسلمين؟

هذا هو السؤال أما نشأة هذا الكلام فليس عندنا بل في ديار الغرب، وفي ظل حكم كنسي متآمر، ضالع مع الطبقات المستغلة على حساب الفقراء والمعدمين، وكذلك حكم اتسم برجعية عاتية شديدة تعادي العلم والعلماء، وتحرقهم وهم أحياء؛ ولكن لنتساءل هل الكنيسة حينما كانت تحكم باسم المسيح عليه السلام كانت تَصْدُرُ في نظمها وفي منهاجها عن قواعد يرجع إليها في صلب الإنجيل نقول لا، لأن الإنجيل لا يعدو أن يكون مجموعة من الوصايا والحكم والمواعظ ولا يحتوي شيئاً من التشريعات والنظم، ومنذ نشأة المسيحية؛ والمسيحيون يحكمون بقوانين الرومان أو بقوانين المسلمين أو بقوانين أية دولة يخضعون لها؛ فالمسيحية حينما تجرد عن ممارسة شؤون الحكم وتوجيه الحياة الاجتماعية تُجَردُ من شيء ليس لها فيه حق وتعاد إلى مكانها الطبيعي، وأما الإسلام فرسالة ذات نظام حينما يطلب منها أن تفعل هذا الشيء فإنما يطلب منها أن تمزق أوصالها، وأن تقطع هذه الرسالة تقطيعاً مع ذلك إلى هنا نريد أن نسلم مع إخوتنا بأن الكلام صحيح وبأن الذي ينبغي أن يكون هو هذا لنتساءل عن النتائج وأحب أن تظل هذه الواقعة ماثلة في الأذهان وأن يفكر فيها بأمانة بدقة من قبل الخصوم ومن قبل الأصدقاء على السواء، أنا لا أخشى على الإسلام لو أن أهل الأرض جميعاً أطبقوا على إماتة الإسلام فلن يحصلوا على شيء؛ كل عملهم باطل الأباطيل وقبض الريح، ولكن لكي تتجنب الأمة آلاماً ومتاعب لا مبرر لها، ولكي توفر على نفسها دماء لو بذلت في غير هذا المكان لكان خيراً وأجدى من أجل مصلحة الخصوم بالذات.

أقول هذا الكلام عليهم أن يفكروا؛ حينما أعيدت المسيحية إلى حظيرة العلمانية حافظت الكنيسة على استقلالها، وفي الواقع فإن الكنيسة في كل بلد في الدنيا لها استقلال مقرر ومعترف به، وكدليل مادي أقول لكم إنكم في كل بلاد الإسلام تسمعون أن المدرسين الدينيين وخطباء المساجد يتعرضون للجرجرة والاستجوابات، ولكن القسس والرهبان لا يتعرضون لشيء من هذا؛ وفي كل بلاد الدنيا يجول المخبرون في المساجد؛ ولكنهم لا يدخلون الكنائس لماذا؟ لأنّ الكنيسة لها استقلال مقرر ومعترف به كذلك الكنيسة لها دولة هذه الدولة لها سفراؤها ولها تمثيلها السياسي في دول الأرض جميعاً فهي تدافع عن حقوق الكنيسة في كل مكان لايغضبن أحد، هذه حقائق لا مجال لنكرانها، كذلك فالكنيسة لها مدارسها ولها صحفها ولها كتبها ولها منشوراتها، تنشر وتوزع وتدرس بلا حرج؛ لأنها تعمل في الميدان المتفق عليه وأما في الإسلام، فتعالوا وانظروا ماذا ينتج عن التطبيق؟ الذي نتج عن التطبيق بالضبط هو أننا أنكرنا على الإسلام حق العيش، أنكرنا على الإسلام حق الدعوة إليه، أنكرنا على الإسلام حق الكتابة وترويج الأفكار، أنكرنا على الإسلام حق إنشاء المدارس لتعليم الأبناء حقائق الدين إلا في الحدود التي ترضي الأنظمة الحاكمة لا أكثر أبداً، وهذا شيء مهين بل هو شيء خطير؛ إذا كانت الكنيسة بعلمانيتها حفظت كرامتها وخصصت لنفسها مجالها الذي هو لها وحفظت كرامة رجالها؛ فنتائج التطبيق عندنا أعطت نتائج رهيبة بل نتائج مخزية أصبح على الخطيب وهو يخطب على المنبر أن يحسب ألف حساب؛ حقائق التنزيل لا قيمة لها كلام الله شيء يجب أن لا ينظر إليه سنن النبي صلى الله عليه وسلم شيء لا معنى له الشيء الذي يجب أن ينظر إليه الخطيب؛ أن يرضي الجهات الحاكمة والشيء الذي يجب أن يحسبه الخطيب أن يحمي ظهره من بضع جلدات إذا هو خرج وتعرض لسياسة العصا الغليظة هذا العمل الذي مورس في ديار المسلمين وروج له في بلاد المسلمين كان عملاً موجهاً ضد الإسلام بالذات ضد رسالة الإسلام بالذات، فترون أن الآثار التي نتجت عن تطبيق هذا النهج في بلاد المسيحية غير الآثار التي نتجت عنه في بلاد الإسلام هنا في بلاد الإسلام.

العلمانية تعني أن الإنسان المسلم أجير عند السلطة الحاكمة ينطق بلسانها ويدافع عن مواقفها ولا عليه بعد ذلك خالف الله أو خالف رسول الله، كل شيء يهون ولكن الشيء الذي لا تجوز المساومة فيه هو أن السلطة الحاكمة يجب أن ترضى؛ أرأيتم إذاً فنحن نتلقف كلاماً روج له في بلادنا بطريق عناصر لا نقول مشبوهة بل مكشوفة لأنها صليبية ويهودية والأسماء معلومة وأنتم يا شباب هذا الجيل لا تعرفون الأسماء ولكن لو كلفتم أنفسكم مراجعة التاريخ الذي يمتد إلى مئة وخمسين سنة قبل الآن، ومراجعة الأفكار والمدارس الفكرية والسياسية التي نشأت في بلاد المسلمين شرقاً وغرباً للمستم بأيديكم أن الذين صنعوا كل هذا أناس ليسوا من أبناء جلدتنا، ولا من أبناء فكرتنا وديننا، وليسوا أبداً مبرئين من الغرض وآية ذلك أن أفكارهم انتشرت في ظل حرابهم وبنادقهم ومدافعهم، وفي ظل الذل الذي شمل بلاد الإسلام جميعاً بعد التمزيق والاحتلال الذي تعرض له هذا العالم الإسلامي من هنا كانت المراجعة بعد هذا الكشف والبيان عملاً شاقاً صعباً شديد المشقة بالغ الصعوبة.

من هنا كان واجباً على الإنسان المسلم أن ينظر بحرية وأن ينظر بصراحة مرتبطاً بشيء واحد بحقائق الكتاب المنزل، وبسنن النبي عليه الصلاة والسلام فماذا يجد، يجد ما وضعناه أمام أعيننا لكي ننجز عملاً يجد أن الواجب يستدعينا نحن كمسلمين أن نتساءل، إن الحركة الإسلامية المعاصرة عمرها لا يقل عن نصف قرن لم نقل إن عمرها يمتد إلى قرن؛ ومع ذلك فهي تسجل تراجعات لماذا هل الإسلام عاجز، نقول لا لماذا نقول لا؟ غروراً؟ أبداً وإنما هي الحقيقة العلمية المحضة في الدراسات الحضارية نعرف أن الحضارة الناجحة هي الحضارة القادرة على أن تحل بنجاح المشكلات الناجمة عن تطبيقها؛ فالحضارة المعاصرة أوجدت مشكلات، مشكلات السلطة وتشعباتها، مشكلات علاقة الفرد بالمجموع وعلاقة المجموع بالفرد، مشكلات العدل الاجتماعي، مشكلات العلاقات الدولية المشكلات التقنية المطروحة الآن على بساط البحث، انسحاق الإنسان أمام منجزات العلم كل هذه مشكلات حضارية راهنة يعاني منها الناس، هل نجحت الحضارة المعاصرة في حل أية مشكلة من هذه المشكلات؟ نقول لا بشهادة الواقع الذي لا تمكن المماراة فيه بل الذي هو أدى إلى القبول.. أن نقول:

إن الحضارة المعاصرة تفاقم هذه المشكلات، وتصعد من أزمتها ولا تحلها بأي حال من الأحوال، هل الحضارة الإسلامية حين وضعت موضع التطبيق عجزت عن حل المشكلات الناجمة عن تطبيقها؛ اسألوا التاريخ، حتى خصوم الإسلام أشدهم شراسة في الخصومة ولدداً في العداء لا يملك إلا أن يعترف بأن الإسلام حل بأقصى درجة من النجاح كل مشكلة نجمت عن وضعه موضع التنفيذ؛ فالإسلام إذاً لا يسأل عن هذا التخلف الذي تعانيه الأمة من الذي يسأل؟ يسأل الناس الذين تصدوا للعمل؛ يسأل الناس الذين لم يكونوا أبداً على سوية المهمة التاريخية المطروحة أمام المسلمين، وإذاً فميدان المراجعة يجب أن يتركز أين؟ في خطوات العمل نحن في مجال الثقافة والعقائد لا خلافات عندنا لكنا متفقون على أن الله واحد أحد فرد صمد ومتفقون على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي مرسل من قبل الله كسائر إخوانه الأنبياء من قبله، ومتفقون على أن هذا الإسلام بعقائده ونظمه وشرائعه وأخلاقه وآدابه رسالة عامة شاملة كاملة؛ ولكن المشكلة ليست هنا المشكلة في العمل ومن أسف أننا استيقظنا على هذه الحقيقة متأخرين، متأخرين جداً في ميدان العمل؛ كل الذين تصدوا للعمل الإسلامي أفراداً أو جماعات كانوا يعانون من انحسار النظرة في العمل الإسلامي العام ولكي يصحح هذا فلا بد لنا من أن نعود إلى مقياس ثابت.

كنا نتحدث مع أنفسنا ومع إخواننا ومع الناس الآخرين باجتهادات وبآراء نقولها هي انطباعات، طبعاً هي انطباعات لما نعرف من حقائق الإسلام ولكن بعد المراجعة الدقيقة تبين أنه لمجرد أن يُبدأَ عَملٌ ما له طابع العملية تبدأ وجهات النظر تتباين؛ أنا ليس عندي إلا انطباع وحدس أنت كذلك ليس عندك إلا انطباع وحدس، ومن المؤسف أنه من خلال الممارسة في هذا الميدان تبين أن الحل قريب منا جداً ولكنا نتجاهله نتجاهله تحت ذرائع شتى وللأمانة يجب أن أقول إن أهم ذريعة جعلتنا نتجاهل تناول الدواء من أقرب مكان، هو الرعب الذي يسكن القلوب فلا شك أن طرائق العمل ونظرية العمل الإسلامي ذات تكاليف وذات أخطار وتتطلب مجهودات لا يقوم لها إلا أولو العزم من الرجال ونحن نعيش في بلادنا وفي بيوتنا وبين زوجاتنا وأبنائنا ونتداول ثرواتنا وافرين آمنين مرفهين؛ فلماذا نتعرض للبلاء؟ ولماذا نواجه المحن؟ ولماذا نزج أنفسنا في مآزق؟ كأنما نسينا بالمرة أن محمداً صلى الله عليه وسلم طورد وأوذي وجرح وأن أصحابه قتلوا وصلبوا وشردوا، وأنهم جاعوا وأنهم عروا وأنهم عطشوا وأانهم تعرضوا للبأساء وتعرضوا للضراء وبأن هذا الإسلام الذي نعيش له ونعيش عليه هو مجبول بدماء الآلاف وعشرات الألوف ومئات الألوف من المسلمين، كأنما نجهل هذا الشيء تماماً فنحن نريد أن نظل رافهين، نريد أن نظل موفورين، نريد أن لا ندفع شيئاً من التكاليف ونظن أن الإسلام يقوم بناؤه الشامخ وهو العملية التاريخية الفريدة؛ بالأماني وبالكلام وبالتحايل على الواقع وبالالتفاف من حول الوقائع؛ لا هذا خطأ وطالما نحن بهذا الشكل فلا بد أن نرجع إلى مقياس ثابت، كان المقياس الثابت الذي ارتضيناه -ولا أعتقد أن أحداً من المسلمين يختلف من حوله- التجربة الأولى للإسلام فترة النبوة، السيرة النبوية تتبع المراحل التي سلكها وقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو، وإلى هنا والأمر قد يحتمل الأخذ والرد من حيث اعتماد الأساس الثابت فالسيرة كما نقرؤها روايات وإن كنا قد اعتمدنا طبعاً أوثق نص بين أيدينا في السيرة ولكنك لا تعدم من يماري في الرواية.

نحن قرأنا السيرة وكثير من الناس قرأها، ومن خلال السيرة أو من خلال الروايات الواردة لا تستطيع أن تصنع شيئاً إلا أن تضع إطاراً عاماً تركز داخله حوادث ذات أهمية أما ملء الفراغات، ووضع الملاط اللازم فشيء تسكت عنه الروايات في الغالب من أجل ذلك رأينا إكمالاً لوضع الأساس الذي لا يختلف عليه أن نعتمد القرآن وأن ندرس السيرة النبوية في ضوء القرآن أي أن تكون حقائق الكتاب المنزل حاكمة وموجهة لروايات السيرة بالذات هنا وضعنا الأساس الذي لا يختلف عليه اثنان من بين المسلمين لن يجادلك أحد في هذا إلا أن يكفر بالله وبرسله وبملائكته وبلقائه وهؤلاء لا شأن لنا معهم الآن ولما كان الأمر كذلك فقد بدأنا ندرس أوليات الوحي. ودرسناها أو بالأحرى شرعنا في دراستها من خلال استعراض للسور الأربعة التي نزلت أولاً: سورة العلق سورة القلم سورة المزمل سورة المدثر وكانت الدراسة دراسة تحليلية وعرفنا قضايا مرت معنا أثناء الكلام وأثير من حولها كلام وما أبهنا لما أثير فنحن مع الحقيقة ولن نقف إن شاء الله تعالى ذات يوم ضد الحقيقة على الإطلاق نحن مع الحقيقة حتى وإن خالفت ما نعتقد من قبل؛ ولن يأخذنا الغرور إلى الوجه الذي نرد فيه قناعاتنا ولن يبلغ بنا الهوان على أنفسنا الحد الذي نستشعر معه العزة بالإثم إن شاء الله تعالى.

ولكن هذه الدراسة التحليلية على ما أعطت من فوائد وعلى ما رأى لها كثير من الإخوة من ميزات؛ في نظري ناقصة والذين يهتمون للمنهج يجب أن يعيشوا معي دقائق قليلة؛ هذا القرآن كتاب ولا كالكتب وكلام ولا كالكلام كتاب الله وكلام الله الذي يعلم الخبء في السموات والأرض؛ كيف ترى هندسة الكون؟ كيف ترى هذا التناسق البديع؟ كيف ترى أن هذا الكون لا يوجد فيه شيء ألغيت فائدته بحال، كذلك هذا الكتاب له طابع الهندسة الكونية بالذات كل كلمة فيه بمعنى كل حرف فيه لغرض، ولكنه كله يتعاون كتعاون أعضاء البدن الحي لأداء الوظيفة الحيوية التي يهدف إليها هذا الدين، وحين نقرأ في القرآن الكريم وفي المرحلة التي حددناها والتي تمتد سنتين ونصفاً أو ثلاث سنوات من عمر الدعوة نجد القضايا تتكرر في السورة الواحدة عدة مرات، الأمر بالصبر مثلاً يتكرر في السورة عدة مرات تارة بالأمر الصريح وتارة بضرب المثل وتارة بسياقة قصة؛ ويتكرر كذلك في السور المتعددة لماذا..؟ كذلك هنالك مواطن ذات طبيعة محددة تستطيع أن تستنتجها وأنت تدرسها؛ موقف أبي جهل من الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الدعوة حين اكتشفه وهو يصلي فنهاه، ومواقف أخرى تتكرر لكنها أوسع نطاقاً وأشمل رقعة؛ هل نستطيع أن نأخذ نصاً من أية سورة كيفما اتفق ونخرج بنتيجة وحكم صائب، لا. هذه خيانة علمية لا أكثر ولا أقل. تحصل بين أيدينا شيء من الأفكار وكانت هذه الأفكار مخالفة لما ألف الناس في العمل الإسلامي حتى تاريخه أدناه ومعذور كل إنسان حينما يدافع عما ألف لكنه ليس معذوراً أبداً في أن يصم أذنيه عن نداء الحقيقة أبداً إذا كان يريد أن يدافع فمع الدفاع يجب أن يكون هنالك توطين للنفس على البحث والتحري والتقصي وبعد وجود القناعة على الإنسان أن يتخلى عما كان عليه وإن عدمت القناعة فله ملء الحق في أن يظل مدافعاً عما هو قانع به.

أريد أن أقول لكل الإخوة إننا على أبواب اكتشافات خطيرة في مجال العمل الإسلامي إننا على أبواب اكتشاف نظرية كاملة ومتكاملة للعمل الإسلامي ولقد سبق في المرحلة الماضية من أحاديثنا أن تعرضنا لقاعدة من قواعد العمل الإسلامي وهي قاعدة رفض العنف في مجال الدعوة وأثار هذا الكلام وأثارت هذه الفكرة ردود فعل شملت القطر كله بين مؤيد وبين راد وما أبهت لمن أيد ولا انزعجت لمن رد ولكني أطمئن الإخوة جميعاً إلى أن عليهم أن ينتظروا ما هو أكثر؛ نحن نعيش مرحلة من أخطر المراحل بل نعيش مرحلة تحدد مستقبل الأمة إلى مئات السنين.

وأية خيانة في الفكر، وأية خيانة في العمل سوف تنعكس آثارها على أجيال لا يحصيها إلا الله؛ إننا سوف نواجه ليس قضية رفض العنف فقط، سوف نواجه أيضاً رفض مبدأ السرية في العمل فهذا الإسلام علانية كذلك سوف نواجه ما هو أشد أنه لا تعاون فالمسلم الذي يريد أن يرسخ دعائم الإسلام لا ينبغي له أن يتعاون مع المجتمع الجاهلي بحال. هنالك أمور كثيرة قد تقنعون بها عقلاً ولكنكم ترفضونها عملاً لما لها من تكاليف إلا أن العمل الإسلامي يجب أن يأخذ هذا الطريق بلا مجاملة وبلا مداورة وبلا تهرب هذه لا نقولها تشهياً ولكننا نقولها قناعة عبر عمليات طويلة من البحث والدرس والتقصي وسوف نواجه أن الإسلام ليس خمولاً ولا قعوداً وليس دوراناً حول الذات، وإنما هو حركة دائبة وعمل يتعاون فيه المجموع وأن المسؤولية تنصب على الناس جميعاً، وأن الأطر الحزبية في العمل لن تجدي شيئا، وأن للأمة أن تراجع هذا الطريق وأنه عليها أن تأخذ نفسها بأن يقنع بعضها بعضاً؛ لأن المصير المشترك للمسلمين جميعاً في كل بقاع الأرض يحتم عليهم عملاً مشتركاً يشترك فيه المسلمون في كل بقاع الأرض أن يريدوا ذلك لمصلحة حزبية لا أن يريدوا ذلك لمصلحة شخصية؛ لا وإنما فقط لكي نضع الحقائق أمام الأعين توفيراً لآلام لا مبرر لها، توفيراً لمتاعب لا ضرورة لها، توفيراً لدماء يجب أن توفر لكي تكسب في الميدان الصحيح، هذا الإسلام كما قلت لكم لو تعاون الناس جميعاً على قتله وعلى إماتته لن يبلغوا منه شيئاً فالإسلام بفضل الله، خانه ناس كثيرون خانه علماء، وخانه حكماء، وخانه حكام وخانه وخانه... وذهب كل أولئك متبوعين بلعنة الله والناس والملائكة أجمعين وبقيت حقيقة الإسلام ناصعة نقية لم تعلق بها ريبة ولم تلحقها شائبة.

لا خوف عندنا أبداً على الإسلام وإنما لكي نوفر على أمتنا آلاماً لا ضرورة لها أبداً، هذا الإسلام إذا تخلينا عنه نحن الآن فهل معنى ذلك أنه سيموت أبداً إن الله تعالى تكفل هذا الإسلام بالبقاء، وأن أي إنسان يخيس بعهده مع الله فلن يضر إلا نفسه وأن أية أمة تنكث بمواثيقها مع الله فلن تلحق الضرر إلا بنفسها؛ وإن الله جلت حكمته يقيض لهذا الدين أناساً صالحين يعطونه من ذات أنفسهم ما يستحقه من عناية واهتمام ومن تضحية وبذل وعطاء فنحن إذاً بعد اليوم سنواجه الدراسة التركيبية لحقائق السور الأربع وسنعامل حقائق السيرة في هذه المرحلة بالذات على ضوء نتائج هذه الدراسة التركيبية، وسوف نستعين الله تعالى بعد ذلك لا شيء بأيدينا فالقوة من الله وقلب الإنسان بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه...

فبعد أن نقدم نتائج دراستنا ونقدم العزم على الالتزام بنتائج هذه الدراسة وخدمة الإسلام في ضوء حقائق الإسلام الأولى التي لا ارتياب بها سنتوجه إلى الله تعالى جميعاً أن يمنحنا العون والتأييد وأن يكتب لهذه الأمة حياة هانئة رضية مطمئنة وأن يهيئ السبل لكي تقوم هذه الأمة بأداء دورها وحمل أمانة الله تبارك وتعالى على الوجه الذي يرضى عنه ربنا جل وعلا وصلى الله تعالى على سيدنا محمد.

والحمد لله رب العالمين.