تتمة سورة المدثر

العلامة محمود مشّوح

ذرني ومن خلقت وحيداً

تتمة سورة المدثر

الحلقة (15) الجمعة 4 ذي القعدة 1395هـ-7 تشرين الثاني 1975م

العلامة محمود مشّوح

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون فقد أتينا بالبيان في الأسبوع الماضي عن آيتين اثنتين من سورة المدثر؛ هما قول الله تعالى لرسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم (ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر) وأظنُّ البيان عنهما كان كافياً؛ وإن كان لبعض الإخوة رأي في أن أموراً أخرى يجب أن تطرح وتثار ولا بأس وخاصة بالنسبة لهؤلاء الإخوة؛ أن ألفت أنظارهم إلى أمر يتعلق بصناعة الكلام فالمتكلم الذي يعرف ما يقول يعرف أن الكلام هندسة معينة فإن الأفكار والألفاظ في الكلام؛ تُنَسَّقان وتقدمان على قدر معلوم وأن الإخلال بهذا النسق إساءةٌ إلى الأسلوب والفكرة جميعاً، وما أنكر أن أموراً كثيرة وخطيرة كان يجب أن تقال، ولقد كنت أقدر أنني سأستدرك في هذا الأسبوع بعض الذي فات ولكني من أسف لا أجدني الآن أنشط  للكلام فلنقل ما يَسَّرَ الله تعالى.

أذكر بعض حوادث كانت في الأسبوع الماضي وقبله تلح على خاطري تراودني في الليل والنهار وأنا أفكر في هاتين الآيتين الكريمتين، وكثيراً ما شعرت بشعور لا أستطيع له وصفاً ولا تحليلاً وأنا أقرأ قول الله تعالى (ولا تمنن تستكثر) أشعر بصغار كبير وقماءة وقزامة أشعر بتفاهة تلفني من جميع أقطاري، أشعر بأن هذه الدنيا التي تموج وتتحرك بأشيائها وبأحيائها غير خليقة بأن يقال لها هذا الكلام؛ أيُّ عالم نوراني سام عظيم، ذلك الذي يُرْفَعُ إليه محمد صلى الله عليه وسلم ويُشَدُّ إليه المؤمنون وهم يخاطَبون بهذا الكلام، أية مرحلة من السمو وصلوا إليها، وأية عقبات ومصاعب ومشقات هذه التي قطعوها وصارعوها فصرعوها، حتى استقامت لهم أمورهم وذلت لهم نوازعهم ووجدوا أنفسهم بين يدي الأمر والنهي أطوع من الخاتم في الإصبع.

كانت الخواطر بل الحوادث ليس من تصورات الذهن ولكن من وقائع التاريخ المنير المضيء الذي يرميه الصغار والإمعات والتافهون بالرجعية وبالتخلف وبعدم الصلاح للتجاوب مع حياة الناس اليوم، حوادث من ذلك التاريخ البعيد الذي أشرق على الدنيا يوم كانت الدنيا همجاً وهملاً وشيئاً أقرب ما يكون إلى حالة الحيوان، أذكر مثلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس في مجلسه وكان فيهم جِلةُ الأصحاب وكان فيهم من هم دون ذلك، وكان أمر فقام رجل يسبُ أبا بكر، وأبو بكر صامت ثم يلح في السباب وأبو بكر صامت، ثم يخرج عن الطور فيغلط ويتجاوز ما ينبغي للإنسان أن يقف عنده من حدود الأدب، فيرد أبو بكر، كل ذلك والنبي عليه الصلاة والسلام يتبسم حتى إذا رَدَّ أبو بكر رضي الله عنه قطب عليه الصلاة والسلام وعبس ثم قام، وقبل أن يغادر المجلس قال هؤلاء الكلمات الحكيمات لأبي بكر رضي الله عنه.

"إنك حين كنت ساكتاً كان إلى جوارك ملك ينافح عنك -أي يخاصم عنك- حتى إذا تكلمت غادر الملك وحضر الشيطان وما كنت لأجلس مجلساً فيه شيطان".

وأذكر أن أبا بكر رضي الله عنه بالمعهود فيه من سماحة ومن طيب عنصر، ومن طلاقة يد كان يسخر ثروته وما جمعه من مال لكفالة اليتامى والإنفاق على المساكين وتسخير هذا المال لمصالح المسلمين؛ وكان فيمن ينفق عليهم مسطح بن أثافة، وهو رجل يمت إليه بقرابة ومضت الأيام وأبو بكر يعول هذا الإنسان ينفق عليه ويقوم باحتياجاته جميعاً، وكانت حادثة الإفك حين أرجف المنافقون أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وابنة الصديق الأكبر قد قارفت الإثم، وكان أناس يتولون كبر الترويج لهذه المقالة الشنيعة وكان ممن تولى كبر الترويج لها (مسطح) هذا.. لم يرده عن غيّه أن أبا بكر والد السيدة الجليلة، هو صاحب الفضل عليه، بل ذهب يشيع قول السوء عن ابنة أبي بكر رضي الله عنه، ولما سمع أبو بكر بما كان من مسطح قطع النفقة عنه، أخذه ما يأخذ الإنسان من غضب لعرضه ومن أسفٍ للأيادي البيضاء، والفضل العظيم الذي سلف ذات يوم.

وظني أن أبا بكر رضوان الله عليه كان حينها يشعر بحرقة شديدة على هذه الأخلاق الهابطة، كيف ينزل إليها الناس، وكيف يصير الجحود ونكران الجميل، جاءه الرسول يدعوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب ودخل مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استقر به المجلس تلا عليه ما أنزل الله جل وعلا في شأن هذه الحادثة عموماً وفي شأنه وشأن مسطح على وجه الخصوص، وقرأ عليه قول الله تعالى:

)ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى واليتامى والمساكين ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم(.

ففاضت عينا أبي بكر رضي الله عنه وقال:

"بلى والله يا رسول الله إني لأحب أن يغفر الله لي".

ثم أرجع النفقة المقطوعة إلى مسطح.

وأذكر أو تتداعى الوقائع إلى ذهني، أذكر الجبار الغليظ في الجاهلية العُتَّلُ المستكبر في الجاهلية أذكر عمر، ذلك الطود الشامخ ذلك الطراز الفريد من الرجال، تولى الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه، وكان يضع سلطانه على ممالك الدنيا القديمة المعروفة آنذاك، كان أكبر قوة على وجه الأرض في ذلك التاريخ، وكان أقوى حاكم وأشدهم رهبة في صدور الأعداء والأصدقاء على السواء، كان يمشي يوماً ومعه ابنه عبد الله بن عمر ومعه جِلَّة الصحابة حتى إذا كان في مكان ما ومن غير مقدمات، وبلا مناسبة استوقف الناس وقال:

"قد –والله- أذكر أنني كنت أرعى للخطاب غنماً في هذا المكان، وكان بي عنيفاً وعليَّ غليظاً، وكان".

وكان فالتفت إليه ابنه عبد الله يقول:

"يا أبتي علام تضع نفسك؟ لماذا تقول هذه الذكريات التي تنزل من قيمتك؟

قال له: يا بني إن أباك قد أعجبته نفسه فأحبَّ أن يضعها.. يعني أحبَّ أن يهينها وأن يذلها.. خلق مضيء..!

في الواقع لو شئت أن أسترسل في عد الوقائع اللواتي من هذا النوع لطال بنا القول إلى غير ما حد، فتلك الأيام الزاهية العظيمة حفلت بهذه النماذج التي نسيت أنفسها وذكرت الله تبارك وتعالى، أماتت شهواتها ورغباتها وأحيت في قلوبها مخافة الله تبارك وتعالى، نسيت كل شيء وذكرت الأمر والنهي فقط، أما ما يكون من جراء الأمر والنهي من كسب أو خسارة من أمن أو خوف فذلك غير منظور إليه.

هذه المعاني أثارتها في نفسي هاتان الكلمتان (ولا تمنن تستكثر)، هنالك إذاً طراز خاص من التربية أُعِدَّ المسلمون به لكي يكونوا أهلاً لحمل الرسالة، وإذا فشلت التربية عن أن تبلغ بالناس هذه المبالغ فالرسالة باقية في مكانها لا يطالها تغيير ولا تحريف طبعاً، ولكن أصحاب الرسالة من كلفوا بها سوف يدخلون في دوامة هائلة من التدهور والانحلال والانحطاط حتى يأذن الله بواحد من شيئين، إما أن يتداركهم بالرحمة واللطف فيفتح القلوب المقفلة بوسيلة ما، وإما أن يتركهم لأنفسهم وينساهم كما نسوه ويستبدل بهم قوماً غيرهم لن يكونوا مثلهم ولا على شاكلتهم، هذه الكلمات أثارت في ذهني هذه الأمور لكي نضع أيدينا جميعاً على حقيقة ما أظنكم تجهلونها لكثرة ما رددناها، ولكثرة ما أكدنا عليها ونحن سوف نظل نؤكد عليها لأن كل حديث غيرها عبث لا محصل من ورائه.

إن هذا الإسلام الذي جعله الله تعالى أمانة في أعناقنا، بل محنة قاسية رهيبة لا يكفيه منا ولا يكفينا منه مجرد الادعاء ومجرد الانتساب، إن هذا الإسلام عملية تهذيب وتعليم طويلة الأمد شاقة المراحل، فالإنسان إذا ترك نفسه لما يتحرك فيها من نوازع دون رقابة ودون محاولة جادة منه ليردَّ عن ميدان الشعور والعمل كلَّ نازعٍ لا يتفق مع رضوان الله؛ فهذا الإسلام حجة الله على هذا الإنسان، الإسلام يطلب من المسلم رقابة مستمرة، رقابة تكون على ضوء ما طلب الله تعالى. الميزان بين يديك؛ كتاب وسنة فيها كل ما أراد الله من الناس ولمصلحة الناس لا مصلحة لله في هذا فرقابتك إذاً يجب أن تكون على ضوء الكتاب والسنة.

انظر ما طلب الله فافعله وجرد نفسك من كل هاجس ومن كل نازع يدعوك إلى أن تتخلى عما طلب الله منك، انظر كل ما نهاك الله عنه فاجتنبه، واطرد من نفسك كل رغباتك وكل شهواتك، صحيح قد تزين لك نفسك الأمر الممنوع، وصحيح قد تجد للأمر الممنوع حلاوة، وقد تهش له نفسك؛ ولكن احذر.. بعد هذه الحلاوة مرارةٌ لا يمكن أن تزول، بعد هذه الحلاوة ندامة تعيش معك ما عشت، وتدخل معك قبرك عذاباً واصباً وتعاقبك في الحشر لتقذف بك في جهنم. إياك.. ما ينبغي لك أن تكون عليه، موقف الرقابة هذا؛ إن أحسنت كنت على النحو الذي أراده الله، وإن أهملت وتمنيت على الله الأماني أوردت نفسك الموارد فالله جل وعلا إذ يقول لنبيه (ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر) هذا في باب الكلام هين؛ ولكن في باب التطبيق أمر صعب وشاق للغاية ولا يطيقه إلا الذي قطع في التجربة مراحل طويلة، جرب اخرج الآن من المسجد مازال غبار المسجد على جبينك وعلى كفيك وعلى ركبتيك، ما زالت روائح الطاعة والعبادة في أردانك؛ ومع ذلك فعلى باب المسجد جرب إن شتمك إنسان أو أساء؛ إليك أتستطيع أن تملك نفسك إنك ربما بادرته إلى الشتيمة وما هو أكبر من الشتيمة، إذاً فماذا أفادتك العبادة؟ وما أفادك انتسابك للإسلام؟

في الأصل إن لم يكن الإسلام داعياً لك إلى أن تكفكف من غَرَبِ النفس إلى أن ترد من نوازعك السيئة والشريرة، إلى أن تأخذ نفسك بالصبر الطويل الشاق المرهق؛ فلماذا أنت مسلم؟ وإذاً فهنا ومن هذا المثل البسيط جداً.... كل شيء واقع تحت الطاقة تحت المقدور والله يقول:

(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) وإنما شق الأمر وصعب على هؤلاء والذين تركوا أنفسهم على هواها، ولم يحاولوا أن يقوموا بأي مجهود يردهم عما هم عليه من فاسد الطبائع وسيء الأخلاق، ومستهجن السلوك، فإذاً هذا الكلام حينما نسمعه طبعاً قلنا هو موجه للنبي عليه الصلاة والسلام ولكن هو أيضاً موجه للمؤمنين عامة يجب أن نفهمه بتلك التبعات التي يستلزمها هذا الكلام، وبكل العزم والتصميم الذي يجب أن نقدمه كي نتلاءم مع هذا الأفق الرفيع العالي، الذي رفع الإسلام إليه أسلافنا الأوائل العظام الذين تتجرأ عليهم وتتطاول عليهم ألسنة السِّفْلَةِ الذين لا يساوون غبار نعال أولئك الناس.

ثم نسير لنصادف بعد ذلك قول الله تبارك وتعالى:

)فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير(.

ننظر في الصياغة وما توحيه لأن الصياغة كما قلنا دائماً عندنا هي الأساس، كل لغة لها منطق، ولغة العرب لها منطقها الخاص الذي لا يستقيم لنا فهم الكلام البليغ بغيابها، أما الناقور فهو الصور إجماعاً الذي ينفخ فيه إسرافيل عند قيام الساعة فيقوم الناس لرب العالمين، فالله جل وعلا بعد أن مضى الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى التشمير ويدعوه إلى القيام، ويدعوه إلى الإنذار، ويدعوه إلى العطاء بغير منّ وبغير قطع، وبغير استطالة على الناس، وبغير رؤية للنفس، ويدعوه إلى الصبر بلا حدود، وفي مواجهة آيات أخرى تعرض لموقف المكيين والمشركين، يأتي هذا الكلام متوسطاً بين هذين الجزأين (فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير) المؤمن المتقي حتى وهو في أقصى حالات العمل والعطاء والبذل محتاج إلى أن يُذَكَّرَ بالله، ومحتاج إلى أن يُذَكَّرَ بهول الموقف بين يدي الله تبارك وتعالى لماذا؟ لأن العمل مهما كثر ومهما عظم ومهما طالت مدة أدائه ليس هو جواز السفر الذي يدخل الإنسان الجنة، دخول الجنة تبع لرضوان الله ورضوانُ الله جل وعلا مَحْضُ التفضل، مَحْضُ العطاء من الله بلا نظر إلى العمل إطلاقاً، ولهذا فإن محمداً صلى الله تعالى عليه وآله يقول:

"لا يدخل الجنة أحد بعمله قالوا حتى أنت يا رسول الله قال حتى أنا إن لم يتغمدني الله برحمته".

فالعمل مهما يكن شأنه ووصفه، ليس هو جواز المرور إلى الجنة؛ وإنما رحمة الله هي التي توصل الإنسان إلى الجنة لأنها دليل رضوانه، والله إذا رضي على عبد لا يسخط عليه أبداً فالعبد العامل إذاً محتاج إلى التذكير بهول يوم القيامة كي لا يقصر، كي يعمل وهو على شرف الخوف من أن يرد الله عليه عمله وأن لا يتقبل منه قرباته:

)الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربِّهم راجعون(.

وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وآله عن هؤلاء فقالت يا رسول الله هم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون عفواً قالت هم الذين لا ينفقون؟

قال لا يا ابنة الصديق هم الذين يقومون بالذي عليهم ويخافون أن لا يقبل الله تعالى منهم.

فإذاً الإنسان المتقي محتاج إلى هذا التذكير.

)فإذا نقر في الناقر فذلك يومئذ يوم عسير ( ثم )على الكافرين غير يسير(.

أيضاً الصنف الثاني.. الآيات التي تقص هذا المشهد محتاجون إلى أن يُذَكَّروا بهذا، محتاجون إلى أن تقرع أسماعهم، وتقرع ضمائرهم وقلوبهم بالشيء البديهي، بالشيء الذي يدركه حتى عامة الناس، هؤلاء البشر. نحن انحدرنا من أصلاب رجال أين هم؟ ضمَّهم الثرى؛ أولئك أيضاً كانوا أبناء رجال أي هم ذهبوا أمواتاً فهل من المعقول أن هذه الدنيا التي تطحن الناس جيلاً بعد جيل لا يكون لهم معاد إلى الله؟ وهل يعجز الله تعالى عن أن ينشئ الناس النشأة الأخرى؟

لا بد من موقف يصير إليه الإنسان بين يدي الديان العدل، فالكافر محتاج إلى أن يلفت نظره إلى هذه الواقعة البشرية وهي أن الناس يفنون، وأن الموت يأتي عليهم، وأن الخلود في الدنيا لا سبيل إليه، وأن الإنسان صائر إلى الرب الذي أوجده وأنشأه أول مرة، محتاجون إلى ذلك كي يتعظوا وكي يدركوا، لكن الإعجاز ليس هنا، انتبهوا إلى إعجاز الصياغة، فئتان كما قلنا: أولى الفئتين فئة المؤمنين العاملين المجدين، والفئة الثانية فئة الكافرين الضالين المكذبين. كيف وُزِّع، وكما قلت في أول الحديث، الكلامُ عند الذي -يحسن الكلام والله جل وعلا هو الذي أتقن كل شيء- له هندسة خاصة لو وزع على توزيع مغاير، لفسد الكلام والمعنى جميعاً، عندنا فئتان أولاهما: مؤمنة وثانيتهما جاحدة ومكذبة كيف وزعت هاتان الآيتان عليهما قال:

)فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير(.

يوم عسير ويوم غير يسير؛ ظاهر الأمر لمن لا يحسن ذوق الكلام، ولمن لا يقرأ ما وراء الكلام، يشعر أن هنا تطابقاً بالمعنيين؛ يوم عسير ويوم غير يسير، هذا يساوي هذا لكن فكروا أكثر؛ إن الله حين يقول: فذلك يومئذ يوم عسير، يصف ماذا يصف اليوم؛ فاليوم بذاته عسير دون ريب ما في ذلك إشكال. لكن اليوم شيء والذين يقفون بين يدي الله في ذلك اليوم شيء آخر، فذلك اليوم بذاته يوم عسير؛ ولكنه قد يكون يسيراً على من يسره الله تعالى عليه دون أن تنتقص هذه الصفة التي وصف بها اليوم فهو عسير ولكن عسره لا يمنع أن الله قد يلطف ببعض الناس ذلك اليوم فإذا هذا اليوم عليهم برد وسلام، وإذا هم لا يشعرون بشيء من عسر هذا اليوم بإطلاق.

لكن الجملة الثانية على الكافرين غير يسير، العسر: لا يعود موصوفاً به اليوم وإنما يوصف به حال الناس الكافرين، فبالنسبة للكافرين هو غير يسير، يعني أنه عسير على الكافرين مطلقاً؛ لا يمكن أن يخفف عليهم ولا يمكن أن يكون يسيراً عليهم في حال من الأحوال، هذا معنى الكلام حينما نحاول أن نتعمق به بعض الشيء؛ إعجاز الصياغة هنا حينما نتحدث عن هذا الأسلوب متعرفين على طريقة التوزيع؛ قلنا إن الفئة الأولى هي الفئة المؤمنة، والفئة الثانية هي الفئة الكافرة بالنسبة للفئة المؤمنة كان التوزيع يقضي بأن تكون الجملة المشعرة بأن اليوم عسير، ولكن احتمال تيسيره على المؤمنين وارد، كانت على أثر الحديث عن المؤمنين، ولكن الجملة الثانية التي وصفت اليوم بأنه عسير حتماً على الكافرين، كانت عند افتتاح الحديث عن الفئة الثانية الفئة المكذبة الضالة؛ فإعجاز الأداء إعجاز الصياغة إعجاز القرآن لا يتركز فقط بالمعاني العظيمة التي يبرزها هذا القرآن وإنما يتركز كذلك ويتجلى في هذا التوزيع المعجز الذي يضع كل كلمة كل جملة في المكان الذي يناسبه، في المكان الذي لو أخلي منه لما أدى الكلام المعنى المراد منه بحال من الأحوال، بعد أن ينتهي الأمر عند هذا الحد يأتي مجال الكلام عن هذا الذي خلقه الله وحيداً.

أنا لا أريد أن أسترسل في الحديث أكثر مما استرسلت وإن كنت في كل الذي قلت أهدف إلى ناحية واحدة هي أن ألقي الأضواء على النهج الذي يجعل قراءة القرآن أكثر إفادة وأكثر إنتاجاً وأكثر عطاءً لكني في الجمعة الماضية تحدثت إليكم عن الجو العام الذي وجد في مكة بعد عدة مراحل قطعتها الدعوة، أن المشركين اشمأزوا وجلسوا فيما بينهم يتشاورون في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويتشاورون فيما هو أدهى عليهم، يتشاورون في أمر القرآن فهذا القرآن جاءهم بما لا قبل لهم به، بما لا يستطيعون له معارضة وبما لا يستطيعون دفعاً لتأثيره، وما يحدثه في النفوس، فانتهى الملأ منهم إلى أن يقولوا كلهم للوافدين عليهم من الخارج من خارج مكة في المواسم والمناسبات: احذروا محمداً (صلى الله عليه وسلم) لا تجلسوا إليه ولا تسمعوا له فإنه جاء بسحرٍ يتبع فيه أثر غيره، ويأثره أي ينقله عن غيره.

عند من حصل الاجتماع؟ عندنا روايتان؛ رواية تقول: إن المشركين جلسوا كعادتهم في دار الندوة ودار الندوة دار تجتمع بها قريش لبحث الملمات والأمور العظيمة، ورواية أخرى تقول إن المشركين أي أشرافهم سعوا إلى الوليد بن المغيرة وهو من أشراف قريش وزعمائها وأثريائها فاجتمعوا عنده.. ما يهمنا هنا توطئة للأسبوع القادم إن أحيانا الله تعالى أن أذكر لكم شيئاً بسيطاً عن الوليد بن المغيرة. الوليد بن المغيرة من سادات قريش ومن أشرافهم ومن أثريائهم ومن ذوي الكلمة المسموعة فيهم وبالنسبة لمقاييس الجاهلية فالوليد زعيم كبير من الزعماء العظام للجاهلية مقاييسها ووصفاً لمقاييسها يجب أن لا نظلم الرجل، إن الرجل تعرض في القرآن لتشنيع كبير يستحقه بكل تأكيد، ولكن نحن نريد أن نتعرف على الجو نريد أن نتعرف على الحالة التي نزلت فيها الآيات إن حذفنا شيئاً من دلالة الواقع الذي كان موجوداً في ذلك الزمان؛ فنحن لا نستطيع أن نفهم شيئاً كان الوليد في الجاهلية يسمى الوحيد؛ وهنا في القرآن يقول الله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً). وأحذر من الخلط بين المعنى أو الوصف الذي كان يوصف به الوليد في الجاهلية وبين المعنى الذي وصف به الوليد في هذا المكان، هذا شيء وذاك شيء آخر، كان الوليد يسمى الوحيد لأنه لا نظير له ولا عدل له ولا مثيل له بين العرب الجاهليين من أبناء قومه وأبناء جيله.

كانت قريش كلها تجتمع لتكسو الكعبة سنة وكان الوليد وحده يكسو الكعبة من ماله في السنة التي تليها فالوليد إذاً يساوي من حيث المناقب الجاهلية كل زعماء قريش فإذاً هذا الرجل له منزلته وله اعتباره، منزلته واعتباره جاءاه من أشياء في نفسه وفي شخصيته ترشحه لذلك.. القرآن نفسه.. الآيات هذه أعطتنا بعض الأضواء التي نستطيع أن نستدل بها على أن الوليد كان طرازاً خاصاً من المشركين: يروى أن الوليد جاء إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال:

"له يا ابن أخي إنك أتيت قومك بداهية، فرقت جموعهم وعبت آلهتهم وشتمت آباءهم وضللتهم وأكفرتهم".

فقال له: أي عم أتريد أن تسمع؟

قال نعم.

فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يتلو عليه القرآن والقرآن كما قلنا لمجرد أن يسمعه الإنسان الذي يتمتع بالفطرة المستقيمة لا يمكن إلا أن يتأثر به، كان النبي يقرأ وكانت تعابير وجه الوليد تتغير كان القرآن يعمل في نفسه حتى إذا سكت النبي صلى الله عليه وسلم انصرف الوليد من عنده لم يعلق بأي كلام، انصرف وأقبل على مجالس قومه، وهم يتجمهرون حول الكعبة نظر الناظرون إلى الوليد إن الوليد. ذهب بوجه وعاد إليهم بوجه آخر؛ ها هو ذا مهموم تظهر عليه علائم التفكير يسحب قدميه سحباً كأنما ينوء تحت ثقلٍ مفضح. قالوا: والله لقد جاءكم الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.

قال أبو جهل: أنا أكفيكموه.

قام إليه استلقاه من بعيد قال له:

- يا عم سمعت أن قومك يتشاورون ليجمعوا لك مالاً.

قال: لمَ..؟ ألستُ أكثر أهل هذا الوادي مالاً.

قال: سمعوا أنك ذهبت إلى محمد تتعرض لما عنده تريد أن تستفيد من ماله، وأن تأكل من طعامه.

قال له: يا أبا الحكم إن قريشاً لتعلم أنني من أكثرها مالاً إنني والله ما ذهبت لهذا والله لقد سمعت من محمد كلاماً؛ والله ما يشبه كلام البشر إنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، ولقد وضعته على أعاريض الشعر فوالله ما استقام لها، ولقد قلت إنه الكهانة، فلا والله ما هو بزمزمة الكهان ولقد قلت وقلت فما استقام لي شيء من ذلك والله إنه ليقول كلاماً إن أعلاه لجنان وإن أسفله لمغدق.

يعني أنه كلام يتفجر حيوية.

وحكمة قال فذلك ما أقول لك.

الوليد جاهلي ما شم رائحة الإسلام، ولا عرف كيف يأخذ نفسه بالمناهج التي تحطم الغرائز الشريرة في النفس، حمي أنفه وقال: أقالوها؟

قال: نعم.

قال: فإن الذي يقول محمد سحر.

قال لا يرضى قومك حتى تحدثهم بهذا.

فجاء إلى ناديهم فقال:

(إنْ هذا إلا سحر يؤثر).

متى قال هذا؟ قاله بعد أن قال ما هذا قول البشر.

الانطباعة الأولى في شخصية الوليد التي تملك بعض الاستعداد لأن تكتشف الحقيقة، ولأن تأخذ بالحقيقة جعلته يقول: ما هذا قول البشر. الكلام الذي يتلوه محمد ليس مما يقوله الناس، ولكنه خضع أخيراً بدسيسة أبي جهل، وفراراً من أن تعيره قريش في مجتمع يفر فيه الإنسان من العار خوفاً من أن تعيره قريش بأنه يذهب ليأكل من طعام محمد؛ أردف بأن قال: إنْ هذا إلا سحر يؤثر.

فنحن إذاً إن أخذنا هذا الكلام الذي شرح أمر الوليد وفضح الوليد وأوجب له النار وتوعده وهدده، نجد حتى في ثنايا هذا ، ما يدل على أن الوليد أخذ وصف الوحيد في الجاهلية عن جدارة وعن استحقاق؛ وفقاً للمقاييس الجاهلية، ذلك لأنه كان يتمتع بشخصية لها جوانب من جوانب الامتياز مع هذا فأحسب أنني عند هذا الحد سوف أقف لأضم هذا الذي قلته الآن إلى ما قلته في الأسبوع الماضي ولأهيل الجو للتعرف على دلالة الآيات التي حكت هذا الشأن سوف أضيف لكم في الأسبوع القادم بعض الحوادث التي تساعدكم على التعرف تماماً على خطورة أحوالنا؛ شيء عن الإنذار، وكما قلت لكم من قبل: هذه السورة تؤرخ فاتحة الإنذار أول ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم جاهراً بالدعوة موجهاً إياها إلى المشركين علينا في هذه الحالة أن نحاول التعرف بدقة تامة على كل ردود الفعل التي حصلت في المجتمع المكي لنتعرف بعد ذلك على المواقف التي اتخذها المسلمون كي يحولوا دون استشراء مواقف المشركين ودون تعويق المشركين، إياهم عن المضي في مسيرتهم وفي طريقتهم وقبل ذلك إن شاء الله تعالى.

سنحاول أن نقرأ النص قراءة جديدة.. نريد أن نقرأ النص حتى نتعود على قراءة النصوص قراءة يقصد منها الفهم؛ هذا واحد والثاني؛ لأن النص حين نقرأه القراءة المستقيمة سيكشف لنا كثيراً من وجوه الجو الذي كان سائداً في ذلك الحين وسوف نستعين الله تبارك وتعالى على ذلك واستعينوه أنتم أيضاً فأنا أعلم أن هذا شيء صعب كما قلت لكم، ولكن يجب أن نتعود أن ندخل دائماً من الباب الضيق فبئس الرجل الذي يدور ويفتش عن الأمور السهلة، بئس الرجل الذي لا يريد من الحياة إلا الطمأنينة والدعة والرخاء، بئس الرجل الذي يلغي الجهد والمشقة والمتاعب، نحن نعيش اليوم دنيا كل ما فيها يموج ويتحرك وكل هذا الذي يموج ويتحرك يموج ويتحرك ضدنا افهموا أيها المسلمون يموج ويتحرك ضدنا لا نستطيع أن نجد لا في شرق الأرض لا في غرب الأرض ولا في مواطن المسلمين من الدجاجلة والمضلين والمفسدين من يرضى عن الفهم المستقيم للإسلام، فعلينا إن أردنا أن تستقيم أمورنا وأن نخرج من هذه المحنة التي طالت واستطالت جداً علينا أن نعود أنفسنا على المواقف الصعبة ما لم نقف هذه المواقف فلن نستفيد شيئاً أقل شيء، أهون الأمور أضعف الإيمان، أن نتعود تحمل المشقة في الفهم والإفهام أما العمل فالله تعالى هو المعين وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.