قطفة من الرواية الهبوط للأرض ( Down to Earth )

جمال أبو زيد

عن قصة حياة فارس الفضاء ( محمد فارس ).

انطلقت المركبة الفضائية سويوز تي إم – 3، فى صيف عام 1987 نحو الفضاء. كانت تمخر عباب السماء وتلتهم المسافات بسرعة فائقة ميممة وجهها نحو المحطة الفضائية السوفيتية، مير. غمرت السعادة محمد فارس، الذي كان على متنها برفقة طاقم سوفيتي، وهو يشقّ طريقه إلى الحلم. كان فارس الفضاء ينظر إلى كوكب الأرض من ذلك العلو الشاهق، بفؤاد طفل فقدَ أمّه. كانت لتلك الرحلة تأثير على حياته وفلسفته في الحياة، إذ سبر فيها أغوار الفضاء، وتعرّف في الآفاق على نفسه كإنسان، فازداد للإنسان الذي استخلفه الله في الأرض حبا وزاد عشقه للأرض وتعلقه بها. نجح محمد فارس في إجراء ثلاث عشر تجربة على متن المحطة الفضائية، فضلا عن قيامه بالتصوير الفوتغرافي للأرض وللفضاء الخارجي. كان محمد فارس ينظر من ذلك العلو الشاهق إلى الكرة الزرقاء من المحطة الفضائية ولسان حاله يقول: "يا الله! ما أجمل كوكبنا! إنّه يبدو رائع الجمال، يأسر الألباب بحسنه.. ويأخذ بمجامع القلوب بروعته!"

وبعد ثمانية أيام عاد فارس الفضاء إلى الأرض فاستقبل مع طاقم الرحلة لدى هبوط المركبة على الأرض استقبالا حافلا. وما لبث أن حزم محمد فارس حقائبه وانقلب عائدا إلى بلاده بصحبة أسرته والأمل يحدوه والسعادة تدفعه. كان في جعبته أعلى وسامين في الاتحاد السوفييتي، وهما: "وسام بطل الاتحاد السوفياتي" و "وسام لينين"، تقديرا على مشاركته في البرنامج الفضائي السوري-السوفييتي. وفي مطار دمشق الدولي استقبل بحفاوة بالغة رسميا وشعبيا، إذ قدِم الناس إلى العاصمة من كل حدب وصوب لتحيته، كما خرجت مدينته حلب عن بكرة أبيها تعبيرا عن فرحتها عند وصوله إليها...  

--------------------

بيد أنه قد يكمن في الحلم الشقاء، وقد يأتي سوء الطّالع من وراء الأمل. لم يدر بخلد فارس الفضاء قطّ بأنّ رحلته إلى الفضاء، التي طالما حلم بها وانتظرها، ستكون عليه وبالا، وسببا لمصائبه. إذ جرت الرياح بما لم تشتهه نفسه، فانقلب كل شيء رأسا على عقب في حياته إثر عودته من موسكو مكللا بالأوسمة والميداليات. إذ لم يكن على ما يبدو في مقدور حافظ الأسد السيطرة على حسده وغيرته من فارس الفضاء حين التقاه مرتين في غضون أسابيع قليلة من عودته لبلاده، فقلب له الزعيم ظهر المجن وناء بجانبه عنه. 

استنكر محمد فارس المعاملة الجافة التي حَظي بها من قبل حافظ الأسد، إذ لم يلقَ منه ترحيبا.. ولم ينل منه تكريما.. ولم يتلق ترقية في رتبته العسكرية، كما هو معمول به في كافة القوانين العسكرية. اعتصر الألم فؤاد فارس الفضاء، وهو يرى أحلامه تتلاشى، وطموحاته تتحطم على صخرة نظام مستبد لا يقيم للتفوق والنجاح وزناً. وما لبث أن كشّر الأسدُ عن أنيابه، وأبانَ عن حقد طائفي دفين يختلج في صدره، فبدلَ أن يُكافأ البطلُ ويُرقـَّى ويُكرّم، أُهْمِلَ أشدَّ الإهمال عن قصد وسوء طوية، وتُرك قابعًا في بيته ما يُقارب عقد من الزمان، ينهشه القلق، وتمور في نفسه الهواجس والظنون. 

مكثَ البطل في بيته مهمّشا دونَ عمل ولا ذنب له إلاّ التفوق والنجاح، وحبّ النّاس له! كان محمد فارس يتساءل في قرارة نفسه والحيرة تضطرم في فؤاده: "ليتني أدري لماذا يعاملني الأسد بهذه الطريقة الفجّة؟؟ مع أن نجاحي وتفوقي يصبّ في خانة منجازاته وهو المستفيد الأول من ذلك النجاح. لقد دخلت سوريا بذلك إلى عالم الفضاء أسوة بالدول المتقدمة. ليتني أعلم ما هي جريرتي وما السبب وراء كل ذلك الحقد؟!" 

ولكن، للأسف، لم يجد لتلك التساؤلات، التي كانت تملأ فؤاده، إجابة! ولم يكن يدري أنّ الأسد لا يرضى أن ينافسه أحد في الظهور في الصورة في (مزرعته!)، فهو لا يحبّ أن تنحرف عنه الكاميرا قيد أنملة لتلتقط صورة غيره...

وسوم: العدد 834