العودة

شيماء الحداد

[1]

شيماء محمد توفيق الحداد *

[email protected]

(1)

فاجأهُ صوتُها الضَّعيفُ - الَّذي بدَّدَ رغبتَهُ في التَّسلُّلِ - وَهوَ يتهادى إلى أذنيهِ قائلاً:

 - إلى أينَ أنتَ ذاهبٌ يا بنيّ ؟!..

 نفضَ رأسَهُ بأسى، وَقالَ بنبرةِ حزنٍ لا تخفى بينما كانتْ يدهُ تعالجُ مقبضَ البابِ:

- إلى الجحيمِ يا أمِّي !..

 هزَّتِ الأمُّ العجوزُ رأسَها بحزنٍ وَحسرةٍ وَتمتمتْ:

- هداكَ اللهُ يا بنيّ..

******

(2)

 لا.. لمْ يكنْ يسخرُ منها، لقدْ كانَ ذاهباً إلى الجحيمِ فعلاً، وَلذلكَ خرجَ بسرعةٍ هارباً منْ نظراتها المسدَّدةِ عليهِ كالسِّهامِ، وَكأنَّهُ يخشى الفضيحةَ !، وَتمتمَ وَهوَ يتوارى وراءَ البابِ مزمعاً إغلاقَهُ:

- أنتِ السَّببُ على كلِّ حالٍ !..

 وَانتظرَ قليلاً في الخارجِ ريثما تصلُ السَّيَّارةُ السَّوداءُ الَّتي تنقلهُ يوميًّا إلى مقرِّ عملهِ البغيضِ، كانَ قلبهُ يبكي.. أكانَ يستشعرُ المهانةَ ؟!، وَكانتِ السَّماءُ تبكي.. أكانتْ تشاركُ قلبَهُ التَّعِسَ بكاءَه ؟!.. شعرَ بالاختناقِ وَالضِّيق وَأحسَّ بما يشبهُ الدُّوَّارَ، وَعزمَ على العودةِ إلى منزلهِ للرَّاحةِ، بيدَ أنَّهُ أبصرَ السَّيَّارةَ قادمةً، فتنهَّدَ بيأسٍ وَدلفَ إلى داخلها باستسلامٍ..

 وَفجأةً همسَ محدِّثاً نفسَهُ:

- ترى ماذا يفعلُ الآنَ حمزةُ وَالآخرونَ ؟!..

 وَما لبثَ أنِ انتبهَ لنفسهِ، وَنفضَ رأسَهُ بعنفٍ وَقالَ:

- ماذا ؟!.. لا.. أنا لا أفكِّرُ بهمُ الآنَ..

 وَكرَّرَ بحزنٍ ذاهلٍ:

- أنا لا أفكِّرُ بهمُ الآنَ !..

 لكنْ - وَرغماً عنهُ - سرحَ بأفكارهِ، وَاشتطَّتْ بهِ التَّأمُّلاتُ في كلِّ جانبٍ ليعودَ بذاكرتهِ إلى الوراءِ وَيستشفَّ صورَ ماضيهِ علَّهُ يصلُ إلى حججٍ مقنعةٍ تبرِّرُ ما يكتنفُ حاضرَهُ منْ ذنوبٍ وَآثامٍ، وَعنَّ لهُ ذلكَ وَاستراحَ لهذا الخاطرِ؛ فقدْ كانَ الطَّريقُ طويلاً يحتاجُ إلى ساعةٍ لقطعِهِ على أقلِّ تقديرٍ، فلماذا لا يبحرُ ناصر في محيطِ ذكرياتهِ الخوالي ؟!..

******

(3)

 كانَ والدُهُ فلَّاحاً بسيطاً دأبَ على زراعةِ أشجارِ الزَّيتونِ في الحقلِ، حبيبةٌ تلكَ الأشجارُ إلى نفسِ ناصرٍ، نشأتْ بينهُ وَبينها صداقةٌ وطيدةٌ وَأُلفةٌ صادقةٌ وَمحبَّةٌ ظاهرةٌ سرعانَ ما زالتْ وَتبدَّدتْ لمَّا تنكَّرَ لها وَأخلفَ وُعودَهُ وَغدرَ بها وَتناسى طفولتَهُ الرَّائعةَ وَأيَّامَ صباهُ الحالمةَ المترعةَ بالوفاءِ المفعمةَ بأريجِ الإصرارِ الطُّفوليِّ وَالعبثِ البريءِ، لقدْ زالَ هذا كلُّهُ، وَمحا ناصر منْ ذهنهِ ذكرياتِ فجرِ أيَّامهِ الطَّاهرِ ليلطِّخَ صفاءَهُ بأشنعِ رذيلةٍ على وجهِ الأرضِ.. الخيانة !!..

 كانَ دائماً يدورُ حولَ شجرِ الزَّيتونِ، يصولُ وَيجولُ وَيحرِّكُ يديهِ كبطلٍ أسطوريٍّ أوْ كفارسٍ وهميٍّ لا يُقهَرُ، وَيهتفُ بصوتٍ جهوريٍّ خطابيِّ اللَّهجةِ:

- روحي فداكِ يا فلسطين !.. سأحميكِ يا أشجارَ الزَّيتون !.. سأقهرُ جيشَ المعتدين !..

 وغير تلكَ الكلماتِ الَّتي كانَ يردَّدها يوميًّا كنشيدٍ وطنيٍّ يهزجُ بلحنهِ دونَ مللٍ أو تعبٍ.. كيفَ لا وقد كانَ يسمَعُ عن أفعالِ اليَهودِ المجرمينَ ويستنكِرُ نيَّتَهُمْ وتخطيطَهُمْ للهجوم على فلسطين ؟!!..

 يومها تعاهدَ هُوَ وَأصدقاؤُهُ على الدِّفاعِ عنِ الوطن وبذلِ الرُّوحِ فداءً لثراهُ وَطاعةً للهِ تعالى الَّذي أمرَ بذلكَ، وَوقتئذٍ تشابكتِ الأيادي وَخطَّتِ الأناملُ نصَّ العهدِ ليغدوَ محفوراً على جذعِ شجرةٍ منْ أشجارِ الزَّيتونِ وَالَّتي دعوها باسمِ: شجرةِ المعاهَدةِ..

******

(4)

 - الوطنُ - يا أبنائي - ليسَ مجرَّدَ أرضٍ وَترابٍ، إنَّهُ دينٌ وَاعتقادٌ تظهرُ ملامحُ وَأماراتُ وجودِهما على الأرضِ. يا أبنائي.. إنَّ الوطنَ فكرٌ وَأفرادٌ يحمونَ ذاكَ الفكرَ منَ الكفرِ وَمنَ الضَّلالِ. يا أبنائي.. حيثما يكونُ الإسلامُ يكونُ الوطنُ، وَإنَّ وطنَنا الغاليَ فلسطين مجسَّدٌ بالاعتقادِ الإسلاميِّ الحنيفِ، وَالَّذي يدعونا – بداهةً – إلى أنْ نحميَهُ وَنكافحَ منْ أجلهِ، هذا هوَ دورُكمْ يا أبنائي الأحبَّاء ضدَّ أعدائنا القَتَلَةِ المجرمينَ..

 خرجَ ناصر وَزملاؤُهُ منَ الصَّفِّ وَقدِ اكتسحَهمْ طوفانٌ هادرٌ منَ الثَّورةِ الجامحةِ الَّتي اشتعلتْ في دمائهمْ. لمْ يكنْ ذلكَ منْ كلامِ الأستاذِ الأمينِ؛ لقدْ كانتِ الثَّورةُ موجودةً في دمائهمْ مُذْ قَدِمَ العدوُّ الأحمقُ إلى ديارهمْ ناسياً متناسياً مَنْ همُ المسلمونَ !، مخدوعاً بفتراتِ الفتورِ وَالضَّعفِ الَّتي انتابتِ العالَمَ الإسلاميَّ مؤخِّراً، غيرَ مدركٍ أنَّها كبوةٌ سرعانَ ما ينهضونَ منها بإذنِ اللهِ تعالى. بَيْدَ أنَّ تلكَ الثَّورةَ كانتْ ناراً، وَكلامُ الأستاذِ زادها ضراماً..

 وَانتهى الدَّوامُ الدِّراسيُّ لذلكَ اليومِ، وَخرجَ التَّلاميذُ عازمينَ على العودةِ بسرعةٍ إلى المنازلِ ليُطَمْئِنوا أمَّهاتِهم اللَّاتي ودَّعنَهمْ ببكاءٍ وَدعاءٍ وَلهفةٍ ليخرجوا بعدَ ذلكَ وَكلُّ واحدٍ منهمْ لا يدري أيعودُ حيّاً يمشي أمْ جثَّةً هامدةً محمولةًً على الأعناقِ.. لكنَّ شيئاً وقعَ فحالَ دونَ العودةِ سريعاً؛ لقدْ رأى الأطفالُ بضعةَ جنودٍ يتخبَّطونَ كالسُّكارى، وَغلتِ الدِّماءُ في عروقِ الصِّغارِ،وَنادى صريخُ الدِّينِ وَالوطنِ في جوانحهمْ، وَمالَ أحدُهمْ – وَاسمهُ حمزة – على أُذُنِ ناصر هامساً بحقدٍ:

- إنَّهمُ الأعداءُ !..

 هزَّ ناصر رأسَهُ، وَقدِ امتلأَ قلبُهُ بغضاً هائلاً لهمْ، وَسرعانَ ما انحنى على الأرضِ ليلتقطَ ثلاثةَ أحجارٍ، وَالتفتَ إلى رفاقهِ ليجدَ الجميعَ قدْ حذوا حذوَهُ وَكلُّهمْ مستعدٌّ... حمزة، رضوان، ثابت، حذيفة، حسن، محمد، عثمان... وَغيرُهمْ.. وَقذفوا الجنودَ بحجارتِهمْ الَّتي حاكتْهمْ في الغضبِ وَالحماسِ، وَذُهِلَ الجنودُ وَاستلُّوا بندقيَّاتِهمْ ليطلقوا رصاصاتٍ طائشةً لمْ تُصِبِ الهدفَ في كلِّ مرَّةٍ بسببِ ما همْ عليهِ منْ سُكْرٍ وَجنونٍ !!.. وَأُصيبَ حمزة، فهرعَ إليهِ ناصر وَهتفَ:

-                     تعالَ يا حمزة سأوصلكَ إلى البيتِ..

 وَتفرَّقَ الأطفالُ بعدما رُوِيَ غليلُهمْ وَخفَّتِ النَّارُ في صدورِهمْ.. لكنَّهمْ في اليومِ التَّالي فوجئوا باندلاعِ مجزرةٍ شنيعةٍ في حيِّهمْ، كانوا يومها مجتمعينَ في بيتِ ناصر يدرسونَ ويلعبونَ، وَذُهِلوا منْ سرعةِ الأحداثِ الجاريةِ، وَتمتمَ حمزة بحقدٍ وَحنقٍ – وَهوَ ينظرُ منْ خلالِ النَّافذةِ متحسِّساً إصابتَهُ -:

- لا بُدَّ أنَّهمْ أتوا للانتقامِ !..

 وَأردفَ غيرَ عابئٍ بجراحهِ:

-                     لسوفَ أشاركُ في القتالِ !..

 هتفَ ناصر على الفورِ وَهوَ يمسكُ بكتفهِ:

-                     لا تفعلْ يا حمزة !.. إنَّ جُرحَكَ لمْ يلتئمْ بعدُ.. لا تخرجْ إليهمْ !..

 وَأردفَ بحماسٍ وَصدقٍ ظاهرَينِ:

-                     أنا وَالبقيَّةُ سنساعدُ الكبارَ في الدِّفاعِ وَالمقاومةِ وَأمَّا أنتَ فـ.......... .

 قاطعهُ حمزة صارخاً بغضبٍ:

-                     كلا !.. لنْ أبقى هنا جالساً كالنِّساءِ وَالأطفالِ (!!)..

 وَلوَّحَ بذراعيهِ في الهواءِ قائلاً بحماسٍ:

-                     انظرْ.. أنا لا أشعرُ بأيِّ ألمٍ.. آه !..

 ابتسمَ ناصر وَقالَ:

-                     أرأيتَ ؟..

-                     لنْ يخرجَ منَ الصِّغارِ أحدٌ معنا..

 قالها والدُ ناصر وَهوَ ينظِّفُ بندقيَّتَهُ استعداداً للقتالِ، فهتفَ الأطفالُ بصوتٍ محتجٍّ واحدٍ:

-                     لماذا ؟!..

 ابتسمَ الأبُ واستدارَ نحوهمْ قائلاً:

-                     لأنَّكمْ ما زلتُمْ صغاراً..

 وَثارَ الأطفالُ وَأصرُّوا على الذَّهابِ وَالرَّجلُ يحاولُ إقناعَهمْ وَتهدئتَهمْ، وَلمَّا فشلَ في ذلكَ قالَ لهمْ:

-                     حسنٌ.. سأدعو الأستاذَ عليّاً علَّكمْ تستمعونَ إلى نصحِهِ..

 هتفَ حمزة وَهوَ يدقُّ الأرضَ بقدمهِ محتجّاً:

-                     لنْ تستطيعَ أيَّةُ قوَّةٍ في الأرضِ منعَنا منَ الخروجِ !..

ضحكَ الرَّجلُ، وَدُقَّ البابُ، فذهبَ ليفتحَهُ وَهوَ يقولُ:

-                     أنتمْ أطفالٌ كبارٌ رائعونَ !..

 وَأسفرَ البابُ عنْ وجهِ الأستاذِ عليٍّ الباسمِ، وَهمَّ باصطحابِ والدِ ناصر للجهادِ وَهوَ يعدِّلُ وضعَ بندقيَّتَهُ على كتفهِ، فشرحَ لهُ الأبُ موقفَ الأطفالِ، وَاندهشَ الأستاذُ كثيراً، وَرغمَ سعادتهِ إلا أنَّهُ اتَّجهَ نحوهمْ قائلاً بسرعةٍ:

-       أنْ يفكِّرَ أطفالٌ في مثلِ عمركمْ هذا التَّفكيرَ شيءٌ رائعٌ، بَيْدَ أنَّ هذا وحدَهُ لا يكفي؛ فأنتمْ لا تزالونَ صغاراً، وَالمعركةُ......... .

 وَدوَّى صوتُ انفجارٍ، فتابعَ الأستاذُ كلامَهُ على عجلٍ قائلاً:

-                     وَالمعركةُ – كما ترونَ – خطِرةٌ جدّاً عليكمْ، وَلِذا لنْ تخرجوا..

 وَما أنْ أتمَّ كلامَهُ حتَّى علتْ أصواتُ الاعتراضِ وَالاحتجاجِ منَ الأطفالِ فتنهَّدَ الأستاذُ يائساً وَتوجَّهَ إلى أبي ناصر قائلاً:

-                     إنَّهمْ مصرُّونَ على رأيهمْ !!..

 وَصمتَ الرَّجلانِ قليلاً فيما انبرى ناصر قائلاً:

-       أتعلمُ يا أستاذي ؟!.. لقدِ استفدنا منْ درسِ البارحةِ وَقمنا بتطبيقهِ على جنودٍ سكارى وجدناهمْ في الطَّريقِ.. وَأظنُّ أنَّ فعلنا ذاكَ هوَ الَّذي حدا بالأعداءِ إلى هذا الجنونِ الَّذي نرى ملامحَهُ اليومَ..

 وَأضافَ متخصِّراً وَبلهجةٍ مؤدَّبةٍ خجولٍ:

-                     ما رأيكما بذلكَ ؟!.. ألسنا رجالاً ؟!.. أبي !.. معلِّمي !..

 وَأشرقَ وجهُ الرَّجلينِ بالفرحةِ، وَتمتمَ الأستاذُ بإعجابٍ:

-                     أنتمْ حقّاً مجاهدونَ رائعونَ، لمْ تخطئوا أبداً فيما فعلتموهُ.. وَلكنْ..

 هتفَ حمزة باعتراضٍ:

-                     هلْ ستمنعاننا منَ الجهادِ؟!..

-                     ............... .

 هتفَ حمزة بنبرةٍ حزينةٍ:

-       إذاً لماذا ؟!.. لماذا تحدِّثنا – يا أستاذ – عنِ جهادِ الصَّحابةِ وَعنْ جرائمِ اليهودِ المنكَرةِ إذا لمْ تسمحْ لنا بتفريغِ حقدنا على رؤوسهمْ ؟!.. لماذا وَهمْ يستحقُّونَ الرَّدعَ وَالانتقامَ ؟!.. لماذا وَهمْ يعصونَ اللهَ وَيعتدونَ على النَّاسِ ؟!.. لماذا ؟!..

 وَاغرورقتْ عينا الأستاذِ بالدُّموعِ وَمالَ على حمزة وَحضنَ وجهَهُ بينَ يديهِ وَهمسَ:

-                     وَهلْ تقدرونَ على المشاقِّ يا صغاري ؟!..

 هتفَ الصِّغارُ:

-                     نعم !.. نعم !..

قالَ الأستاذُ:

-                     أنتم رائعونَ.. إذاً..

 وَنظرَ إلى أبي ناصر نظرةً ذاتَ معنى فهمها الأخيرُ فهزَّ رأسَهُ موافقاً ليهتفَ الأستاذُ بحماسٍ:

-                     هيَّا إلى الجهادِ يا أبطال !.. يا أحفادَ أبي بكر وَعمر !..

 ابتسمَ ناصر برضا وَهوَ يتذكَّرُ تلكَ الأيَّامَ الجميلةَ، وَتمتمَ متنهِّداً:

-                     آه !.. ليتها تعودُ !..

 ماذا حدثَ بعدَ ذلكَ يا ترى ؟!.. رفعَ يدَهُ إلى جبهتهِ يتذكَّرُ، آه !.. نعم.. نعم.. تذكَّرتُ..

 لقدْ مضينا – أعني مضى الأطفالُ - بفرحٍ وَاستبشارٍ وَعزمٍ وَتصميمٍ يردِّدونَ الأناشيدَ الحماسيَّةَ وَيلوِّحونَ بأسلحتهمُ البسيطةِ بفخرٍ وَكأنَّهمْ يقولونَ: نحنُ هنا !، كانتْ أسلحتُهمْ عبارةً عنِ الأحجارِ وَبعضِ آلاتِ القذفِ الخفيفةِ أوِ الخناجرِ الصَّغيرةِ؛ إذْ لمْ تكنْ البندقيَّاتُ الثَّقيلةُ – وَالَّتي تناهزُهمْ طولاً – لتناسبَهمْ..

 وَتلفَّتَ ناصر يمنةً وَيَسرةً فرأى رجلاً منَ الأعداءِ يلقي بالأوامرِ مبتعداً بعضَ الشَّيءِ عنْ رجالهِ، فأحسَّ بأنَّهُ القائدُ، وَدوَّى في صدرهِ صوتٌ هائلٌ – تناسَبَ معَ دقَّاتِ قلبِهِ المتسارعةِ – يصرخُ:

-                     اضرب عدوَّ الدِّينِ !، اضرب عدوَّ الوطنِ !، لقِّنه درساً، هيَّا يا بطل !..

 وانطلق نحوه راكضاً، وتبعه حمزة قائلاً:

ـ انتظر.. سآتي معك..

 وَاختارَ ناصر أكبرَ حجرٍ في حوزتهِ وَرمى بهِ نحوَ القائدِ اليهوديِّ صائحاً:

ـ باسمِ اللهِ!..{ وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى }..

 وَأصابَ الحجرُ رأسَ القائدِ وَأدماهُ، فالتفتَ صارخاً بألمٍ ليستقبلَ حجراً ثانياً منْ يدِ حمزة الصَّغيرةِ وَيُصابَ في وجههِ، وَجنَّ جنونُ القائدِ وَقدْ توالتِ الحجارةُ عليهِ مسدَّدَةً إلى وجههِ المتجهِّمِ الشِّريرِ تقذفُها أيدٍ صغيرةٌ وَتسدِّدها قلوبٌ مؤمنةٌ تنبضُ نحوَهُ بالكراهيةِ الدَّفينةِ وَالحقدِ المكبوتِ.. وَانطلقَ نحوَ الأطفالِ المتكالبينَ على قذفهِ ممسكاً بندقيَّتَهُ بيدٍ مرتجفةٍ، وَهدرَ في سرِّهِ بحقدٍ قائلاً - وَفي قلبهِ رغبةٌ صادقةٌ في أنْ يشربَ منْ دمائهمْ ـ :

ـ تبَّاً !.. أطفالٌ صغارٌ يهزؤونَ بي ؟!.. أينَ جنودي الحمقى ؟!.. أينَ أولئكَ الأوغادُ ليدافعوا عنِّي ؟!!.. أينَ ؟!..

 وَأطلقَ رصاصةً طائشةً أخطأتْ هدفَها، وَانتشرَ شعاعُ الأطفالِ سابحاً في كُلِّ مكانٍ ليساعدوا المجاهدينَ الكبارَ في نواحٍ أخرى من الحيِّ، لكنَّ حمزةَ لمْ يستطعِ الفرارَ بسرعةٍ بسببِ ما أصابهُ منْ جهدٍ، فأمسكَ بهِ القائدُ اليهوديُّ وَجذبهُ منْ كفِّهِ الجريحِ بعنفٍ وَتلَّهُ بقسوةٍ ليصرخَ الصَّغيرُ متألِّماً، وَوصلَ صوتُهُ إلى ناصر صائحاً:

ـ أدركني يا ناصر !..

 هرولَ ناصر مسرعاً وَصاحَ باليهوديِّ:

ـ اتركه !.. اتركه !.. تبّاً لكَ !.. وَلكنْ اتركهُ أخيراً !..

 وَلمْ يفهمِ اليهوديُّ لغةَ الطِّفلِ، ممَّا أغاظهُ أكثرَ وَدفعهُ ليرميَ حجراً كبيراً آخرَ على وجهِ عدوِّهِ وَيجبرَهُ على تركِ صديقهِ وَالصُّراخِ ألماً.. وَنظرَ اليهوديُّ إليهما بحقدٍ منْ بينِ الدِّماءِ الَّتي غطَّتْ وجهَهُ وَقالَ في نفسهِ بخوفٍ:

ـ إذا كانَ هؤلاء الصِّغار بهذهِ الوحشيَّةِ وَذاكَ الإرهابِ (!!)، فكيفَ بالكبارِ ؟!..

 وجمَ وَهوَ يفكِّرُ في ذلكَ، وَلمْ يستفِقْ الأحمقُ منْ أفكارِهِ تلكَ حتَّى كانَ الطِّفلانِ قدِ انفلتا إلى حيث ذهب الآخرون، وقال حمزة لناصر:

ـ أشكرك يا صديقي؛ لقد أنقذت حياتي..

 وَانتهى الأمرُ بأنْ أُجبِرَ اليهودُ على الانسحابِ، فولوا عنِ الحيِّ تشيِّعُ موكبَهم الذَّليلَ لعناتُ المظلومينَ وَأنَّاتُ المعذَّبينَ وَسخرياتُ أرواحِ الشُّهداءِ الَّتي تحلِّقُ في السَّماءِ عالياً.. وَوبخَّ القائدُ جنودَهُ توبيخاً شديداً وَصرخَ بهم:

ـ لماذا هُزِمنا هكذا بسهولةٍ ؟!.. كيفَ تقهقرنا أمامَ ثلَّةٍ منَ الأطفالِ وَالضُّعفاءِ وَالعزَّلِ ؟!..

 وَعضَّ على شفتيهِ غيظاً لمَّا تذكَّرَ ما فعلهُ الأطفالُ بهِ وَتمنَّى لو يتمكَّنُ منَ الانتقامِ منهم، لقدْ باتَ الشَّاشُ الطِّبيُّ يلفُّ وجهَهُ كلَّهُ ما خلا عينيه الغاضبتين !، وَلحظَ صمتَ جنودهِ الباردَ فصرخَ بهم:

ـ أجيبوا !.. كيفَ حدثَ ذلك ؟!..

 ردَّ المساعدُ ببرودٍ:

ـ لكنَّهم ليسوا ضعفاءَ يا سيدي، إنَّ الواحدَ منهم يستطيعُ قتالَنا وَهزيمتَنا مجتمعينَ وَمنْ دونِ كبيرِ سلاحٍ !!..

 هتفَ القائدُ بحنقٍ:

ـ وَهذا ما يحيِّرني !!.. ألف لعنة !..كيفَ يستطيعُ هؤلاء فعلَ ذلك ؟!.. هذا ليس عدلاَ !!!.. نحنُ أكثر منهم عدَّةً وسلاحاً وَمعْ ذلكَ نُهزَمُ ؟!!!..

 تنحنحَ يهوديٌّ آخر قائلاً بتلعثمٍ وَارتباكٍ ـ وَكانَ قصيراً بديناً ذا صوتٍ أخنٍّ ـ :

ـ ربَّما لمْ نستعدَّ كما ينبغي يا سيدي !!..

 وَأضافَ الَّذي على جوارهِ ـ وَهوَ يهوديٌّ شديدُ الهزالِ فاقعُ الصفرةِ أبيضُ الشَّعرِ ـ :

ـ لقدِ استخففنا بهم كثيراً على ما يبدو !!..

 ضربَ القائدُ المنضدةَ أمامَهُ صائحاً:

ـ حمقى !!.. أنتم السَّبب !!.. اغربوا عن وجهي !!..

 وَكما تفرُّ الفئرانُ المذعورةُ خشيةَ خطرٍ ما .. انسحبَ الجنودُ مسرعين عدا المساعدَ الَّذي قالَ بعدَ تفكيرٍ:

ـ ما الحلُّ الآنَ يا سيِّدي ؟!..

 همسَ القائدُ بصوتٍ منفعِلٍ مخيفٍ:

ـ آه لو كانَ لدينا جاسوسٌ منهم ينقلُ أخبارَهم وَتحرُّكاتِهم لنا بدقَّةٍ !!.. إنَّ جواسيسنا كسالى للغاية !!..

 صمتَ المساعدُ وَهوَ يرشقُ القائدَ بنظرةٍ شرِّيرةٍ مؤيِّدةٍ، بيدَ أنَّهُ كانَ يتمتمُ في سرِّهِ قائلاً:

-                     ليتكَ تفشلُ في ذلك وَتستنزلُ غضبَ القيادةِ العليا عليكَ فأصبحَ محلَّكَ أيُّها العجوزُ !!..

*****

(5)

 اهتزَّتِ السيَّارةُ بشدَّةٍ، وَارتطمَ رأسُ ناصر بالمقعدِ الأماميِّ- حيثُ كانَ جالساً في الخلفِ - وَسألَ بضيقٍ وَهوَ يتحسَّس رأسَهُ منَ الألمِ:

-                     ماذا حدثَ أيُّها السَّائق ؟!..

 نزلَ السَّائقُ منَ السَّيَّارةِ وَصفعَ البابَ خلفهُ بصفاقةٍ وقحةٍ عُرِفَ بها اليهودُ وَتمتمَ حانقاً:

-       يبدو أنَّ عطلاً ما أصابَ المحرِّكَ !!.. جيِّدُ أنَّني اكتشفتهُ في الوقتِ المناسبِ، وَإلا لكنَّا الآنَ في عدادِ الموتى..

 وَطنَّتْ كلمةُ الموتِ في رأسِ ناصرٍ كالقنبلةِ، ماذا لو ماتَ وَهوَ على ما هوَ عليهِ من خيانةٍ وَوضاعةٍ ؟!..لكن.. كيفَ سلكَ هذا الطَّريقَ القذرَ الشَّائكَ أساساً ؟!.. الجوابُ يكمنُ في حلقاتِ الذِّكرياتِِ تلك.. وَتابعَ ناصرُ غزلَ ذكرياتهِ الَّتي كادَ غزلها ينتقض بِيَدِ النِّسيان..

 في اليومِ التَّالي لهزيمةِ اليهودِ سمعَ ناصرُ أصواتاً منكرةً جعلتهُ ينهضُ من فراشهِ مذعوراً ويتوجَّهُ من فورهِ إلى خارجِ غرفتهِ، وفتحَ بابَ المنزلِ وشقَّهُ شقًّا يسيراً يسمحُ لهُ باستجلاءِ الأمرِ، ففوجئَ بالوجوهِ الكابيةِ الحزينةِ، وَاصطدمَ مرآهُ باليهودِ الأنذالِ، فدارَتْ عيناهُ في محجريهِ متسائلةً قلقةً؛ لقدْ داهمَ الأعداءُ الحيَّ على حينِ غرَّةٍ وَأسروا عدداً كبيراً منَ الرِّجالِ وَجمعوا أهلَ الحيِّ في السَّاحةِ الكبيرةِ، وَتقدَّمَ أحدُ الجنودِ - عرفَ فيهِ ناصر وجهَ القائدِ الوغدِ - وَقالَ بنزقٍ وَهوَ يقرأُ بورقةٍ في يدهِ:

-                     من منكمْ يدعى أحمدْ مصطفى [2]؟!..

خرجَ والدُ ناصرٍ من بينِ الأهالي وقال:

-                     أنا هوَ..

أشارَ اليهوديُّ إلى ناحيةٍ وقال:

-                     قف هنا..

لكنَّ الرَّجلَ لمْ يستجبْ، فجرَّهُ جنديَّان وأجبراهُ على الانحناء جانباً وفقاً لأوامرِ القائدِ، وعادَ اليهوديُّ يقول:

-                     أين المدعو علي عمر النَّاصعي ؟!..

قال الأستاذ:

-                     أنا..

قال اليهوديُّ باستعلاءٍ لا يستطيعُ إخفاءَ الذُّلَّةِ الَّتي كتبها اللهُ على اليهودِ:

-                     قف مع زميلك !..

 تنهَّدَ الأستاذُ وَوقفَ بجوارِ أحمد مرغَماً وَهوَ يسألُ اللهَ تعالى اللُّطفَ وَالعافيةَ، وَيشعرُ بشيءٍ منَ الخوفِ منَ المستقبلِ المجهولِ..

 وَلمَّا فرغَ اليهوديُّ منَ القراءةِ سألهُ أحمد بجرأةٍ:

-                     ماذا تريدون منَّا ؟!..

 قال القائد ساخراً:

-                     نريدُ التَّشرُّفَ بحضراتكم في حفلِ عشاءٍ متواضعٍ يا سيِّدي المحترم !!..

وانقلبتْ سِحنةُ اليهوديِّ فجأةً وَصرخَ:

-                     اقتلوهم !..

وَسرعانَ ما خرَّ الرِّجالُ صرعى مضرِّجينَ بدمائهم الزَّكيَّةِ وَفي صدرِ كلِّ واحدٍ منهم استقرَّتْ رصاصةٌ قاتلةٌ تكشفُ الحقدَ اليهوديَّ، وَتُبِيْنُ عنْ شرِّهِ الدَّفينِ، وَتميطُ اللِّثامَ عنْ وجههِ الخبيثِ ذي المطامعِ الآثمةِ..

 وَتساقطتْ دموعٌ ساخنةٌ من عيني صبيٍّ صغيرٍ جُرِحتْ يدُهُ في معركةٍ سابقةٍ، وَارتعشَ قلبُ طفلٍ بريءٍ يشاهدُ المأساةَ منْ شقِّ بابٍ، وَهمسَ ناصر بصوتٍ فيهِ أنينٌ وَتفجُّعٌ:

-                     أبي !.. أستاذي !.. أبي !.. أستاذي !..

 وَقالَ اليهوديُّ موجِّهاً كلامَهُ للأهالي وَقدِ انتفشَ كطاووسٍ:

-       لقد أعدمنا هؤلاء الإرهابيين لأنهم كما تعلمون - !! – يحولونَ بيننا وَبينَ ما ننتوي تنفيذَهُ منْ خططِ السَّلامِ الَّتي ما جئنا إلا منْ أجلها، وَلذلكَ لاقوا جزاءَهم العدلَ الذي لا مِراءَ فيهِ وَلا جدلَ !!!..

 تصرَّمَ النَّهارُ كلُّهُ على هذه الحالِ، وَجاءَ اللَّيلُ بثوبهِ الأسودِ الدَّاكنِ، وَانصرفَ اليهودُ أخيراً بعدَ أن عاثوا في الحيِّ فساداً وَكسروا قلوبَ أهلهِ، وَصرَّ ناصر على أسنانهِ غيظاً، كانَ الأعداءُ قدْ مضوا، عادَ إلى الدَّاخلِ بعدَ أنْ ردَّ البابَ فوجدَ أمَّهُ جالسةً أمامَ المدفأةِ وَتبكي وَتستغفرُ الله، وَما إن رأتهُ حتَّى همستْ:

-                     هل... ؟..

أجابَ بألمٍ:

-                     نعم..

 وَتولَّتِ العيون مهمَّةَ الإبلاغِ عنِ الحادثِ المأساويِّ لتنفجرَ المآقي بالدُّموعِ الحرَّى الغزيرةِ، لكنَّ أمَّ ناصر ارتكبتْ خطأً فادحاً جدّاً في حقِّ طفلِها وَدينِها وَوطنِها عندما قالتْ:

-       أرأيتَ ؟!.. أرأيتَ عاقبةَ التَّهورِ وَالحماقةِ ؟!!.. لطالما نصحتُ أباكَ بعدمِ الجهادِ وَالمقاومةِ دونَ أنْ أجدَ لديهِ أذناً صاغيةً.. ماذا استفادَ الآن ؟!.. ماتَ هكذا، وَالأعداءُ لمْ يبرحوا وطنَنا يمرحون وَيقتلون وَينهبون، مضى تاركاً أرملةً وَيتيماً، هذا كلُّ شيءٍ..

 وَارتسمَ الذُّهولُ على وجهِ ناصر وَتابعتِ الأمُّ قائلةً:

-       إيَّاكَ أنْ تكونَ مثلَ أبيكَ يا ناصر، إيَّاك !.. إنَّ الأعداءَ أقوياء جدَّاً.. أتفهم ؟!.. أقوياء، احذرْ منَ الإقدامِ على أيِّ عملٍ طائشٍ !!.. إنَّ الأعداءَ كفرةٌ لا يرحمون، وَلنْ يتورَّعوا عنْ قتلِ طفلٍ مثلكَ، وَإحراقِ قلبِ أمٍّ مثلي، يجبُ أن تفكِّرَ في نفسِكَ وَتفعلَ المستحيلَ لإنقاذِ حياتك.. أتفهم؟!..

 نظرَ ناصر إليها بدهشةٍ بالغةٍ وَقالَ لها بِحَيرةٍ:

-                     وَلكنْ يا أمِّي.. أبي ذهبَ إلى الجنَّةِ بإذن اللهِ..

 نظرتْ إليهِ بغضبٍ وَصرختْ:

-                     اصمت !.. قلتُ لكَ إيَّاك أنْ تحذوَ حذوَهُ وَإلا.... !..

 رفعَ ناصر رأسَهُ بخوفٍ نحوَها بينما تابعتْ مهدِّدةً:

-                     وإلا حرمتُكَ الخروجَ منَ المنزلِ أوِ الاتِّصالَ بأصدقائكِ !!.. قمْ وَنمِ الآن..

 نهضَ ناصر لكنَّهُ اتَّجهَ إلى غرفةِ والدهِ، وَدلفَ إليها وَأرسلَ نظراتِهِ في أرجائها لتستقرَّ عينُهُ على بندقيَّةِ والدِهِ، فأسرعَ نحوها في لهفةٍ وَأمسكها، ثمَّ.. ثمَّ ضمَّها إليهِ بحرارةٍ وَهوَ يبكي؛ إنَّهُ يريدُ الانتقامَ لوالدهِ وَأستاذهِ، لكن.. لكنَّ ذلكَ الشُّعورَ ماتَ في نفسِهِ !، وَدَخَلتْ أمُّهُ الغرفةَ وَرأتْهُ على هذهِ الحالِ فانتزعتِ البندقيَّةَ منْ يدهِ بعنفٍ وَأمرتْهُ بالتوجُّهِ إلى النَّومِ لتخفيَ البندقيَّةَ في مكانٍ أمينٍ..

* * *

(6)

 في أحدِ الأيَّامِ – وَعندما كانَ ناصر في الخامسةِ منْ عمرهِ – فوجئَ بأطفالٍ أشقياءَ يؤذونَ قطَّةً صغيرةً وَيرمونها بالأحجارِ، هتفَ بهم ببراءةٍ:

- حرام عليكم !!..

 وَأرادَ أنْ منعَهم وَالتَّصدِّيَ لهم، لكنَّهم كانوا أكبرَ منهُ وَأقوى، وَاقتربَ منهُ أحدُهم وَصفعهُ قائلاً:

- وَما شأنكَ أنتَ يا صغير ؟!..

 وَاستمرُّوا بقذفِ القطَّةِ المسكينةِ حتَّى ماتتْ وَلم يجرؤ ناصر على الحديثِ، كانَ قلبُهُ يدقُّ برعبٍ، كانَ يومها يأكلُ شطيرةَ التُّفَّاحِ، وَصار بعدها يتذكَّرُ ذلكَ الحادثَ المؤلمَ كلَّما تناولَ شطيرةَ تفَّاحٍ وَيرى لونها الأحمرَ دماءَ القطَّةِ المسكينةِ ..

 وَلكنَّهُ الآنَ يُفاجَأُ بحادثةٍ أدهى وَأمرَّ؛ فلقدْ قُتِلَ والدُهُ الحبيبُ، وَاستُشهِدَ أستاذُهُ الغالي..

 أثَّرتْ تانك الحادثتانِ في نفسِ ناصر كثيراً، وَلمْ يعدْ يجتمعُ بأصدقائهِ بل أصبحَ يقضي يومَهُ كُلَّهُ في المنزلِ ذاهلاً خائفاً، مجرَّدُ ذكرِ اليهودِ يشعرُهُ بالخوفِ وَالرَّهبةِ، وَمنْ آنٍ لآخرَ تطنُّ في رأسهِ عبارةُ أمِّهِ: إنَّهم أقوياء.. إنَّهم كفرةٌ لا يرحمونَ.. إنَّهم أقوياء.. أقوياء..

 وَكبرَ ناصر وَكبرَ ذلكَ الشُّعورُ السَّلبيُّ في نفسهِ..

 وَذاتَ مرَّةٍ كانَ عائداً منَ المدرسةِ الثَّانويَّةِ بصحبةِ حمزة الذي كانَ يوبِّخهُ قائلاً:

- اسمحْ لي أنْ أقولَ لكَ يا ناصر إنَّكَ تغيَّرتَ كثيراً وَلمْ تعدْ ناصراً الَّذي أعرفُهُ.. لقدْ بِتَّ جباناً للغايةِ يا صديقي !..

 وَحاولَ ناصر الاحتجاجَ بموتِ والدهِ وَأستاذهِ، فقاطعهُ حمزة صارخاً:

-       كلاهما عزيزٌ علينا جميعاً، وَهذا منْ شأنهِ أنْ يدفعَكَ وَيحمِّسَكَ أكثرَ فتسعى للانتقامِ لهما لا أنْ تخورَ وَتضعفَ وَتنهزمَ هكذا !..

 وَقطعَ حمزة حديثَهُ؛ فقدْ حانتْ منهُ التفاتةٌ ليرى جنودَ العدوِّ في نفسِ المكانِ الَّذي ضُرِبَ فيهِ السُّكارى قبلَ سنواتٍ، وَقُتِلَ الشَّهيدانِ وَغيرُهما ظلماً وَبغياً، وَكأنَّما أرادَ حمزة استثارةَ روحِ الجهادِ في نفسِ صديقِهِ بعدَ أن خَبَتْ وَاستكانتْ فصاحَ قائلاً:

-                     هاهمْ قتلَةُ أبيكَ يا ناصر !، هلُمَّ بنا نقذفهم بالحجارةِ..

 وَظنَّ حمزة أنَّ ناصراً سيبتهجُ للفكرةِ وَيتحمَّسُ لقتالهم، لكنَّ ناصراً لاحتْ في مخيِّلتهِ تلكَ الصُّورُ الوحشيَّةُ، وَطنَّتْ في أذنيهِ عباراتُ أمِّهِ القاسيةُ، وَتراءتْ لهُ عيناها الغاضبتانِ، فهمسَ ذاهلاً:

- القطة.. أبي.. أستاذ علي..

 وَارتجفَ قائلاً بخوفٍ:

- لا.. لا أستطيع.. انسَ الأمرَ يا حمزة..

 وَأصرَّ حمزة وَأخذَ يقذفهم بالحجارةِ هوَ وَمن تصادفَ وجودُهُ منَ الأصدقاءِ تلكَ اللَّحظة، وَبقيَ ناصر واقفاً أمامهم خائفاً حائراً يرتجفُ وَيحاولُ كفَّهم عن ذلك بقوله:

- يكفي يا حمزة.. يكفي يا أصدقاء.. يكفي.. سيقتلونكم..

 فلا يلقى منْ أحدٍ جواباً، وَمن غريبِ المصادفاتِ أنَّ القائدَ اليهوديَّ كانَ يرى ذلك المشهدَ الَّذي أبهجَ قلبَهُ وَملأهُ بسرورٍ خبيثٍ، وَهمسَ قائلاً:

- منَ الجميلِ أنْ يجدَ المرءُ منَّا هذا الضُّعفَ مجسَّداً في شابٍّ مسلمٍ !!..

 وَقرَّرَ أنْ يُفيدَ منْ ذلكَ الخوفِ لخدمةِ أغراضهِ الشَّيطانيَّةِ، وَلمْ يَدُرْ بخَلَدِهِ أنَّ ذلكَ الشَّابَّ هوَ نفسُهُ الطِّفلُ الَّذي شجَّ رأسَهُ وَجرحَ وجهَهُ ذاتَ يومٍ، ممَّا خلَّفَ في رأسِهِ وَوجههِ ندوباً ما تزالُ آثارُها باقيةً على ملامحهِ حتَّى تلكَ اللَّحظةِ !!..

 وَأصدرَ القائدُ اليهوديُّ أمرَهُ بقتلِ الشُّبَّانِ المقاومينَ بسرعةٍ، فانطلقتِ الرَّصاصاتُ تحملُ ذاتَ الحقدِ الأسودِ الَّذي أردى والدَ ناصر وَأستاذَهُ في يومٍ حزينٍ..

 وَجُرِحَ ثابت وَماتَ عثمان شهيداً، وَاستطاعَ الآخرونَ النَّجاةَ بأرواحهمْ، أمَّا ناصر فقدْ تجمَّدَ مكانَهُ منَ الخوفِ، وَغدا وجهُهُ شاحباً كأنَّما قدْ نزفَ دمَهُ كلَّهُ، وَكادَ يُغمى عليهِ عندما رأى القائدَ متَّجهاً نحوَهُ، وَفي خبثٍ وَهدوءٍ وَابتسامةٍ ماكرةٍ كريهةٍ اقتربَ اليهوديُّ أكثرَ، فطارَ قلبُ ناصر فَرَقاً وَهوَ يتملَّى قسماتِ قاتلِ والدِهِ البغيضةَ وَتلعثمَ قائلاً:

- ما.. ماذا تريدونَ منِّي ؟!.. أنا لمْ.. أفعلْ.. شيئاً !!..

 وَتراجعَ إلى الوراءِ بضعَ خطواتٍ تناسبتْ معَ تقدُّمِ أحدِ اليهودِ الَّذي قالَ بهدوءٍ وَبلسانٍ عربيٍّ لا يخلو منْ ركَّةٍ:

- لا تخفْ أيُّها الشَّابُّ، إنَّما يريدُ القائدُ أنْ يتحدَّثَ إليكَ فقط..

 وَلمْ تستطعْ تلكَ اللهَّجةُ الهادئةُ – وَالَّتي لا تخلو من خبثٍ - أنْ تزيلَ قلقَ ناصر وَخوفَهُ فقالَ:

- وما.. ذا يريد ؟..

 قالَ اليهوديُّ – مترجماً كلامَ القائدِ -:

- نريدُكَ أن تكونَ عيناً لنا !!..

 وَهتفَ أحدُ رفاقِ ناصر – وَكانَ قريباً يئنُّ منْ جراحهِ -:

- لا يا ناصر!.. لا!..

 وَبإشارةٍ منْ يدِ القائدِ الغاضبِ أُطلِقَ على الشَّابِّ فلفظَ آخرَ أنفاسِهِ، وَصرخَ ناصر:

- سالم!..

 زمجرَ القائدُ بحقدٍ:

- إذا لم تستجبْ لأوامري يا ناصر فسأقتلكَ مثله !!..

 نظرَ إليهِ ناصر مستفهماً فتولَّى المترجمُ إيصالَ الكلامِ، وَارتجفَ ناصر هلعاً، بينما ابتسمَ القائدُ بمكرٍ وَقالَ يعزِّيهِ وَيغريهِ:

-       وَإذا قبلتَ العرضَ أمَّنَّا لكَ الحمايةَ وَوهبناك أموالاً وفيرةً تكونُ معها شديدَ الثَّراءِ.. هيه!.. ماذا قلتَ الآن؟!..

أيُّ شيطانٍ استولى على عقلهِ تلكَ اللَّحظة فشلَّ تفكيرَهُ وَدفعهُ للقَبولِ ؟!.. لقدْ صرختْ بهِ أشواقهُ يومها:

-                     لا تَخُنْ فلسطين !.. يا حفيدَ صلاحِ الدِّينِ، لا تتخلَّ عنْ فلسطين !..

وَتخيَّلَ أنَّ صلاحَ الدِّينِ ينظرُ إليهِ بعتاب ويقولُ:

-                     ما حرَّرتُها لتفرِّطوا فيها.. إيَّاكَ والخيانةَ يا ناصر !..

-                     لكنَّني مضطَّرٌّ يا صلاح..

-                     ما الَّذي يضطركَ لعصيانِ ربِّكَ وَخيانةِ دينِكَ وَوطنكِ ؟!!.. لا شيء .. نعم لا شيء !..

-                     ..........

وَغابتْ صورةُ صلاحِ الدِّينِ وَهوَ يهمسُ:

-                     إيَّاكَ وَالخيانةَ يا ناصر.. إيَّاكَ والخيانةَ يا ناصر.. إيَّاك..

 لكن يا للأسف !، لقدِ استحوذَ الشَّيطانُ على تفكيرهِ، وَشلَّ العجزُ إرادتَهُ، وَأخذَ الفزعُ بمجامعِ نفسِهِ، وَكانَ دبيبُ الخوفِ يزدادُ في داخلهِ، وَخفقاتُ قلبهِ صارَ يعلو وجيبُها باستمرارٍ، وَسالَ لعابهُ طمعاً بالمالِ، فهتفَ دونَ وعيٍ:

-                     قبلت.. قبلت..

 انبسطتْ أساريرُ اليهوديِّ الشِّرِّيرِ بعدَ انقباضٍ وَتجهُّمٍ وَقالَ:

-                     رائع يا ناصر.. رائع.. والآن هيَّا.. تعالَ معي..

 وأدارَ القائدُ ظهرَهُ. ليتهُ في تلكَ اللَّحظة رماهُ بحجرٍ وَصرخَ بهِ:

-                     إنَّني لا أبيعُ ديني بحفنةٍ منْ دنيا إخوانِ القرودِ !..

بَيْدَ أنَّهُ كانَ في أشدِّ حالاتِ الضَّعفِ وَالهوانِ، وَأبطأَ ناصر في السَّيرِ، فالتفتَ اليهوديُّ فوجدهُ قدْ أكبَّ على جثَّةِ صديقهِ سالم يقبِّلهُ بحزنٍ، فصرخَ غاضباً:

-                     ما هذا؟!.. ماذا تفعل عندك ؟!.. ناصر!.. اتركه!..

 ردَّ ناصر بذهولٍ:

-                     إنَّه صديقي..

 كزَّ اليهوديُّ على أسنانهِ وَقالَ دونَ رحمةٍ:

-                     لتنسَ ذلكَ نهائيًّا، انسَ الماضي كلَّهُ يا ناصر، أنتَ لنا الآن !، أنتَ لنا !، هيَّا اتبعني!..

 وَابتلعَ ناصر ألمَهُ وَتبعهُ صامتاً..

*****

(7)

 وَمنْ يومها.. آه!.. وَزفرَ ناصرٌ بألمٍ، لقدْ دخلَ عالمَ اليهودِ المميتَ الحافلَ بالغدرِ وَالفجورِ وَالجرائمِ، لشدَّ ما يحتقرُ نفسَهُ الذَّليلةَ !.. كانَ يتَّجسُّسُ على زملائهِ وَينقلُ أحاديثَهم إلى اليهودِ، بلْ وصلَ بهِ الأمرُ إلى درجةِ أنَّهُ دلَّ اليهودَ على مكانِ صديقهِ رضوانَ !، وَتبيَّنَتِ الحقيقةُ بكلِّ مرارتِها وَبشاعتِها لحمزة وَالآخرين، فصُعِقوا وَلم يصدِّقوا أن يستسلمَ ناصر للحزنِ وَاليأسِ وَالخوفِ هكذا لدرجةِ القنوطِ وَالخيانةِ، ناصر.. ذلكَ الطِّفلُ المتفجِّرُ حماسةً وَحيويَّةً وَالممتلئُ حبًّا لوطنهِ وَوفاءً لدينهِ، ذلكَ الَّذي أطلقَ الأستاذُ عليهِ لقبَ ( ناصرِ الدِّينِ ) ، يصبحُ هكذا.. خائناً.. وضيعاً ؟!!.. ماذا سيكونُ موقفُ والدهِ وَأستاذهِ منهُ لو كانا على قيدِ الحياةِ ؟!!..

 صرخَ فيهِ حمزة:

-       وددْتُ لو متُّ قبلَ أنْ أراكَ خائنًا يا ناصر !.. صدِّقني لولا أنَّ الأعمارَ بيدِ الله تعالى لتمنَّيتُ أنَّكَ لم تنقذْ حياتي ذلكَ اليومَ وَلمْ أركَ تتمرَّغُ في هذهِ الوضاعةِ !!..

 سكتَ ناصر فتابعَ حمزة بغضبٍ:

-                     كنتَ تجالسُنا وَتسمعُ حديثَنا لتنقلَ أخبارَنا لليهودِ ؟!!!.. أيَّةُ صفةٍ تناسبُ فعلَكَ المشينَ هذا ؟!!..

وأردفَ بعصبيَّةٍ:

-       أنتَ تستحقُّ الموتَ الَّذي تخافُ منهُ وَتهربُ، لكنَّني لنْ أقتلَكَ لعلَّكَ تعودُ إلى رشدكِ وَترجعُ عنْ غيِّكَ..

 وَتمنَّى حمزة لو يحدثُ ذلك قريباً، وَتخيَّلَ أنَّ صديقَهُ القديمَ سيذرفُ دموعَ النَّدمِ والتَّوبةِ وَيرجعُ عنْ غيِّهِ لكنَّ ناصراً بقيَ صامتاً، فصرخَ حمزة بغيظٍ وَهوَ يمسكُ بتلابيبهِ وَيقذفهُ خارجاً:

-       اغربْ عنْ وجهي !!.. لا أريدُ أنْ أراكَ ثانيةً !!.. لا فرقَ بينكَ وَبينَ اليهودِ ؛ كلاكما عدوٌّ للدِّينِ خطرٌ على الوطنِ !! ..

 وَطأطأَ ناصرٌ رأسَهُ بأسى وَمضى، وَما أن غابَ عنِ الأنظارِ حتَّى طفرتْ دموعُ حمزة وَقالَ لمنْ حولهُ منْ أصدقائهِ المجاهدينَ:

-                     عظَّمَ اللهُ أجرَكم في ناصر.. فلقد ماتَ !..

 وَأردفَ وَهوَ ينشجُ في حسرةٍ وَألمٍ:

-                     ماتَ يومَ أنْ ماتَ قلبُهُ وَسكرَ عقلُهُ، وَسكنتِ الشَّهوةُ نفسَهُ..

 وَتحوَّلَ الأصدقاءُ إلى أعداء، وَلا غروَ؛ فلقد ضربَ ناصر بقضيَّةِ وطنِهِ وَبتعاليمِ دينهِ السَّمحاءِ وَبأفقِ طفولتهِ الطَّاهرِ وَبأيَّامهِ الجميلةِ المليئةِ بصورِ الكفاحِ وَالبطولةِ معَ رفاقهِ عرضَ الحائطِ منْ أجلِ اليهودِ الأنذالِ، لقد رضيَ أن يكونَ نذلاً مثلهم !، وَتنكَّرَ للعهدِ، وَتنكَّرَ للوطنِ وَللدِّينِ، وَحنثَ بالقَسَمِ، وَ...

-                     لقدْ أصلحتُهُ أخيراً !..

 قالها السَّائقُ بفرحٍ ثمَّ أردفَ وَهوَ يمسحُ عرقَهُ:

-                     آه!.. لقدْ كانَ عملاً شاقًّا !..

 وَركبَ السَّيَّارةَ قائلاً:

-                     سامحني يا زميل ناصر على هذا التَّأخيرِ..

غمغمَ ناصر عابسًا – وَقدْ ساءتْهُ كلمةُ ( زميل ) :

-                     لا بأس..

 وَبعدَ نصفِ ساعةٍ وصلوا، تنهَّدَ ناصر بعمقٍ وَنزلَ يجرُّ ساقيهِ جرًّا، وَتساءلَ بدهشةٍ عنْ سببِ حزنهِ.. أكانَ يتمنَّى ألا يصلوا يا ترى؟!..

*****

(8)

 -                     حسناً.. ما هيَ الأخبار يا ناصر؟..

 تمتمَ ناصر بارتباكٍ:

-                     لا جديد يا سيِّدي القائد..

 وَصمتَ مبتلعاً كلماتهِ وَآهاتِهِ في انتظارِ التَّقريعِ وَالتَّوبيخِ كما في مرَّةٍ سابقةٍ عندما صرخَ القائدُ غضباً وَهوَ يضربُ الطَّاولةَ بقبضةٍ متشنِّجةٍ:

-       إذاً كيفَ تفسِّرُ هجومَهم الكاسحَ على دوريَّاتنا بالأمسِ ؟!.. أنتَ كأعوادِ الحنظلِ لا نفعَ منها وَلا فائدةَ !؛ تغيبُ أيَّاماً طويلةً ثمَّ تعودُ لتقولَ لي: لا جديدَ يا سيِّدي القائد !، وَهذهِ الأموالُ .. أهيَ ثمنُ العلفِ يا ترى ؟ أم أنَّكَ تحسبُنا نعطيكها لسوادِ عينيكَ ؟!! .. أنتَ كثورِ السَّاقيةِ لا تعرفُ غيرَ الدَّورانِ وَالدُّخولِ في الجدارِ آخِراً !..

 يومها صرَّ ناصر على أسنانهِ بحنقٍ وَقالَ في نفسهِ:

-                     ماذا يريدُ هذا الأحمق ؟!.. أيظنُّ أنَّني سأقدِّمُ لهُ أصدقائي على طبقٍ من ذهبٍ ؟!..

 ابتسمَ وهوَ يتذكَّرُ شهامتَهُ عندما لم يخبرْهُ بأسماءِ زملائهِ وَأمكنتِهم، لكنَّ ابتسامتَهُ ذبلتْ حينَ تراءى لهُ ذلكَ الشَّابُّ بوجههِ الحزينِ، وَتمتمَ:

- وَلكن رضوان.. آه رضوان.. المسكين، لا بدَّ أنَّهُ يتألَّمُ كثيراً من شدَّةِ العذابِ، يا لغبائي !!..

 وَانبرى القائدُ – يومها - يثرثرُ:

-                     لقد قتلوا منَّا الكثيرَ، وَنهبوا أسلحتَنا، وَأنتَ لا تملكُ معلوماتٍ عنْ كلِّ هذا ؟!!.. أكنتَ في المرِّيخِ ؟!..

 أشاحَ ناصر بوجههِ عنِ القائدِ وَهمسَ في سرِّهِ دامعًا:

-                     ليتني كنتُ معهم !..

غيرَ أنَّ القائدَ في هذه المرَّةِ قالَ:

-                     حسنًا لا يهمّ.. لقد كانت الأخبارُ فيما مضى كافية..

 نظرَ إليهِ ناصر مستفهماً مستغربًا؛ فقدْ عزفَ في الأيَّامِ الأخيرةِ عنِ البوحِ بأيِّ شيءٍ، لكنَّهُ عادَ فتذكَّرَ أنَّ المكانَ يعجُّ بمئاتٍ منَ الجواسيسِ غيرِهِ وَقدْ تعرَّفَ إلى معظمهم، وَرانَ عليهِ الأسى؛ فقدْ ساءَهُ وَحزَّ في قلبهِ أن يعدَّ نفسَهُ منهم، لكن.. أليستِ الحقيقةَ ؟!.. لقد قالَ لهُ أحدُهم مرَّةً ساخراً:

- أنتَ جاسوسٌ ذو ضميرٍ !!..

 وَانفجرَ الجميعُ ضاحكينَ، وَضحكَ معهم وَهوَ يكظمُ غيظَهُ وَيخفي أساهُ حتَّى يكملَ أصولَ المسرحيَّةِ الدَّنيئةِ الَّتي يشاركُ الكلُّ في أدوارها !!.. وَتمتمَ بينهُ وَبينَ نفسهِ وَهوَ يتحسَّسُ رأسَهُ المتعبَ:

- ترى.. ماذا يفعل حمزة والآخرون الآن ؟!..

 لشدَّ ما يشعرُ بالحنينِ إليهم !، وَفجأةً.. شعرَ بحقدٍ هائلٍ على نفسهِ وَعلى اليهودِ، وَتمنَّى لو يستطيعُ الهربَ، لو يستطيعُ الصُّراخَ، شعرَ بالحسدِ تجاهَ الطُّيورِ؛ إنَّها حرَّةٌ لا يستعبدها إخوانُ القرودِ وَلا يوجِّهونها كيفما شاؤوا، لا يشيعُ الظَّلَمَةُ في نفوسها مشاعرَ الألمِ وَالأسى وَالضَّنكِ وَالعبوديَّةَ وَلا يقهرونها كما يقهرونَ المسلمينَ .. وَوجدَ نفسَهُ يقولُ أخيراً:

- سيِّدي..

 رفعَ القائدُ رأسَهُ ببرودٍ وَقالَ بنظراتٍ ميِّتةٍ لا حياةَ فيها:

- نعم ؟..

- قد لا أحضرُ غدًا..

- والسَّبب ؟..

 ردَّ ناصر وَهوَ يتحسَّسُ رأسَهُ مجدَّداً:

- أشعرُ ببعضِ التَّعبِ وَالإعياءِ..

- حسنٌ حسنٌ.. لا بأس.. لكن لاحظْ أنَّكَ تقصِّرُ كثيراً هذهِ الأيَّام وَأنَّ عليك تلافي ذلك !..

 لكنَّهُ لم يدرِ أنَّ ناصرًا لن يحضرَ أبدًا !.. وَرجعَ ناصر إلى البيتِ سريعاً، وَتوجَّهَ رأساً إلى غرفتهِ، وَانتبهتْ إليهِ أمُّهُ العجوزُ، تلك التي كانتْ يوماً شابَّةً فيها خوفُ العجائزِ، هيَ ذي عجوزاً تحملُ مَضاءَ الشَّابَّاتِ، توجَّهتْ إلى ولدها، وَقد عزمتْ على تغييرِ حالهِ الَّتي كانتْ سبباً فيها، دخلتْ غرفتَهُ وَقالتْ بنبراتٍ حزينةٍ:

- أرجوكَ يا بني.. فكِّرْ في وضعك الحالي، أيرضيكَ ما أنتَ عليهِ منْ ذلٍّ وَخيانةٍ؟!..

-.................

 لمْ يجبْ ناصر بغيرِ الدُّموعِ الحرَّى، فتابعت:

- أينَ مني ولدي الشُّجاع ناصر الذي كانَ يضربُ اليهودَ بالأحجارِ دونَ خوفٍ أو رهبةٍ ؟!.. أين هو؟!.. إنني أفتِّشُ عنهُ في ملامحكَ فلا أجدهُ !، أتراني فقدتُهُ يومَ فقدتُ أبيهِ ؟!.. أينَ ولدي البطل أين ؟!..

 رشقها بنظراتٍ قاسيةٍ وَهتفَ وَهوَ يبكي:

- لقد قضيتِ عليهِ بيديكِ يا أمي !..

 بكتِ الأم بحرارةٍ فأحسَّ ناصر النَّدمَ وَطأطأَ رأسَهُ قائلاً:

- آسف..

 قالت أمُّهُ بتوسُّلٍ:

- أرجوكَ ثِبْ إلى رشدكَ لأموتَ مرتاحةَ البالِ منْ ثقلِ ذلكَ الذَّنبِ العظيمِ.. أرجوكَ عدْ إلى الجهادِ !..

 ثمَّ ضربتْ على جنبها بندمٍ وَقالتْ:

- لشدَّ ما كنتُ جاهلةً وَحمقاءَ وقتئذٍ !!..

 ثمَّ التفتتْ إليهِ ثانيةً وَهتفتْ:

- أرجوكَ عدْ إلى الجهادِ !!..

 وَحاولتْ أن تمدَّ يديها إليه، لكنَّهُ راغَ منها وَهتفَ وَهوَ ينهضُ واقفاً ذاهلاً:

- لا أستطيع !.. لا أستطيع !.. لقد فاتَ الأوانُ، إنَّني أريدُ العودةَ، لكنَّني لا أستطيع !..

 هتفتْ بإصرارٍ:

- بل تستطيع.. لا تقنط من رَوحِ اللهِ يا ولدي.. لديكَ فرصةٌ، وَبابُ اللهِ تعالى مفتوحٌ أبداً للعصاةِ النَّادمينَ..

 نظرَ إليها بِحَيرةٍ وَقالَ:

- لدي فرصة ؟!.. كيف ؟!..

 خرجتْ مسرعةً لتعودَ وَمعها بندقيَّةُ والدهِ، وَقالتْ بتصميمٍ:

- خذ هذه..

 وَتردَّدَ فقالتْ برجاءٍ:

- هيَّا..

 تمتم باكياً:

- إنَّني أخجلُ من لمسها.. إنَّ فيها رائحةُ أبي الشَّهيدِ ، وَأنا .. أنا خائنٌ !..

- أرجوكَ خذها يا بني.. إنَّكَ ما زلتَ ابنَهُ !..

 وَصاحتْ عواطفُهُ فجأةً:

- عد إلى فلسطين.. استغفر رب العالمين.. عد إلى الجهاد..

 وَقدحَ زنادُ الإيمانِ في قلبهِ شلَّالاً منْ نورٍ غسلَ الرَّانَ فحملَ البندقيَّةَ وَقالَ بعزمٍ:

- سأفعل إن شاء الله تعالى.. نعم.. سأفعل.. سأجاهد !..

 وَذهبَ مسرعاً تشيِّعهُ نظراتُ أمِّهِ الجذلةُ وَدعواتُها الحارَّةُ، وَاتَّجهَ إلى شجرةِ المعاهدةِ، إلى حيث يجتمع أصدقاؤه كل يوم، مسحَ الغبارَ عن اسمه، وَصلى ركعتين وَسجدَ يبلِّلُ التُّرابَ بدموعِ النَّدمِ وَالتَّوبةِ سائلاً اللهَ تعالى القَبولَ وَالغفرانَ.. وَما أن فرغَ وَالتفتَ حتى وجدَ أصدقاءَهُ ينظرونَ إليهِ وَقدْ لمعَ في عيونهم بريقُ الفرحِ، وَقالَ حمزة بقسوةٍ وَعتابٍ أخفى تحتهما فرحتَهُ الشَّديدةَ:

- هيه !.. وماذا بعد ؟!..

 نهضَ ناصر وَقالَ على الفورِ:

- سأنقذ زميلنا رضوان..

 سأل حمزة باستنكار وعجب:

- ماذا؟!.. زميلنا؟!..

 رد ناصر بعزم خالطه الخجل:

- نعم.. زميلنا؛ فقد عدت إليكم..

- وكيف ستعيده؟!..

التفت ناصر ورمى ببصره إلى البعيد وتمتم بهدوء شارد:

- إنني أعرف مكان السجن..

 سأله حمزة بشك – وكأنه يمتحن صدقه -:

- أواثق أنت من أنك تريد إنقاذه ؟!..

 هتف ناصر بانفعال:

- نعم.. ولن يفعلها أحد غيري..

 ابتسم حمزة قائلاً:

- ما دام الأمر كذلك فسأُرْسِــ..........

 قاطعه قائلاً:

- كلا.. سأذهب وحدي..

 ومال برأسه إلى الأمام قائلاً:

- أريد أن أكفِّر عن ذنبي يا حمزة..

وتلاقت النظرات وساد الصمت وأخيراً قال حمزة:

- حسن.. كما تريد..

- شكراً يا حمزة..

 ومضى ناصر مسرعاً بينما هتف حمزة:

- صحبك الله يا ناصر..

 ومال أحدهم على حمزة قائلا بفرح:

- لقد تاب ناصر يا حمزة..

 ولم يحول حمزة نظره عن ناصر الذي غدا نقطة بعيدة، وقال وهو يهز رأسه مكتِّفاً يديه:

- نعم.. الحمد لله.. لقد كانت تجربة قاسية مُرَّة عليه، لكنه خرج منها ليكون أكثر ثباتاً وقوة إنشاء الله..

 ثم أرخى يديه والتفت إلى أصحابه قائلا بصوت خفيض:

- لقد مر المسكين بظروف مريرة أثرت عليه فاستكان للحزن وانصاع للشيطان.. صحيح أنه ما كان على صواب ولا كان معذوراً في ذلك، لكنه عاد في النهاية، فأرجو ألا تثقلوا عليه باللوم.. يكفي أنه استشعر الألم وذاق مرارة الخطأ وندم أشد الندم..

 وصمت حمزة قليلاً ثم أردف:

- كما أنه – والحق يقال – لم يسرِّب أخباراً مهمة كباقي الخونة، فقط كان إبلاغه عن أنشطة رضوان ومكانه غلطة كبرى، وهاهو ذا يسعى للتكفير عن خطئه..

 عقَّب أحدهم على الكلام معلقاً:

- فعلا.. إنه يختلف عن باقي الخونة؛ لأن الخير في داخله أصيل، ومكانه هنا بيننا بين المدفع والرشاش وعلى أبواب الشهادة لا هناك في أحضان الخيانة والذل والهوان والوحل..

 هز حمزة رأسه قائلاً:

- صدقت.. لقد كان جاسوساً ذا ضمير[3]!!..

 وفي المساء.. عاد ناصر ورضوان معاً إلى الأصدقاء ليشهدوا ميلاد صديقهم ناصر الجديد وليجدد القسم، وتعانق ناصر مع رضوان وحمزة، واعتذر قائلاً بصوتٍ مرتعشٍ منَ الانفعالِ خفيضٍ:

- سامحوني.. أرجوكم..

 وتساقطت دموعه خجلة متبعثرة، فربت رضوان على كتفه قائلاً:

- لا عليك.. المهم أنك قد عدت إلى واحة الإيمان والجهاد من جديد والحمد لله..

 أسرع محمد قائلاً:

- جهودك الفعالة وآراؤك البناءة .. بلادُك ودينُك أحقُّ بها..

 ثم أردف بمرح:

- لا أدري كيف سولت لك نفسك أن تتركنا هكذا !!.. لقد افتقدناك يا شيخ !!..

 وضحك الجميع، وأخرج ناصر كيساً مليئاً بالأموال المحرَّمة التي كسبها من ذلك العمل المنحط وأعلن عن رغبته في التبرع بها، ثم سكبها بين يدي القائد حمزة وسط تكبير أصدقائه وتهليلهم، وقال حمزة بسعادة:

- لقد عدت إلينا.. والعَود أحمد..

 واستمر ناصر مع رفاقه مجاهداً شجاعاً مقداماً مغواراً بعد أن أطلق نفسه من قيود الوهم وحررها من عقال الخوف، وأيقن أن اليهود أذل وأقل من أن يثيروا في نفسه كل ذلك الرعب الذي استشعره ومكنه من نفسه في لحظة عصيبة شاقة، وحمد الله تعالى على نجاته من الشر والأشرار قبل فوات الأوان وعلى عودته إلى المجاهدين الأخيار لينافسهم على دخول الجنان، عاقداً العزم على تحرير وطنه الحبيب وعلى رفع راية دينه الحنيف، وتراءى له من جديد وجه صلاح الدين – كما تراءى له من قبل -، لكنه في هذه المرة.. كان مبتسماً..

              

*عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

[1] ألَّفتها في الخامسة عشرة من عمري .

[2] الأسماء كلها من عندي .

[3] أين قرأ القارئ هذه العبارة؟!!..