الغيمة الباكية (6)

عبد الله عيسى السلامة

الغيمة الباكية

عبد الله عيسى السلامة

الفصل السادس

زوابع الربيع

وضع منادي كتاب التفسير بجانبه بعد أن قرأ فيه قليلاً.. وشرد بعيداً.. لم يكن قبل شهور قليلة يتصور أن الأحداث، يمكن أن تتطور بهذا الشكل السريع والعنيف.. أربعة شهور فقط.. أربعة شهور، حملت من الأحداث الجسام، ما تنوء بحمله السنوات الطوال..

كان يجلس على لباد من الصوف الملون، أمام البيت.. بيت أبيه المبني من الطين والحجارة، المسقوف بالصفائح الخشبية العريضة، المرصوفة بعناية، فوق أعمدة من الخشب الصلب المسمى "الحور" وأمامه، على مد البصر، أرض فسيحة، بدأت خضرة العشب تدب فيها شيئاً فشيئاً.. مؤذنة بنهاية فصل الشتاء، وبداية فصل الربيع.. وكانت الشمس تظهر حيناً، وتحتجب أحياناً خلف الغيوم البيض الخفيفة التي لا تؤثر في صحو النهار وجماله، والأنسام تهدأ حيناً، وتهب حيناً خفيفة باردة، لطيفة البرودة..

كان شهر شباط يمسك بكيس فيه ثمانية وعشرون يوماً، يستخرجها واحداً بعد الآخر، ويسلمها للأرض الملهوفة، كما يفعل التاجر البخيل مع زوجته حين تنظر إليه ضارعة، فينقدها بعض الدنانير ببطء وحذر، لتشتري بها بعض القوت، تغذي به أطفالها الجياع المهازيل.. ولم تكن أيام شباط كلها متساوية متماثلة، فمنها المشمس والغائم، منها الدافئ والبارد، ومنها الهادئ والعاصف، ومنها الماطر والصاحي.. وكان اليوم التاسع من أيامه مشمساً دافئاً صاحياً، مع نسمة عليلة تهب بين آونة وأخرى.. وهذا ما أغرى "منادي"، الشاب الأسمر الوديع، بالجلوس أمام البيت، ينظر في كتابه حيناً.. ويتأمل في صفحة الكون حيناً.. ويستعيد ذكرياته المرة القريبة حيناً، فيتجرع مراراتها من جديد.. وكنها حية مائلة أمامه تدور أحداثها لحظة بلحظة، فتنقبض نفسه في كل لحظة، ويتنهد، ويطرق صامتاً، ليعود فيستأنف متابعة الشريط المتسلسل من حيث وصل.. حتى إذا انتهى إلى آخره، عاد إلى أوله من جديد، مدققاً في كل موقف، وفي كل علاقة، وفي كل حركة.. متوقفاً عند الخطأ والصواب، وعند السمو والإسفاف، وعند المعقول وغير المعقول.. وعند عناصر المأساة التي تشكلت منها مهزلة، وعناصر المهزلة التي اجتمعت فكانت مأساة.. ها هو ذا الشريط يلوح أمامه منذ البداية، منذ الساعة التي عاد فيها أبوه ليلاً، هائجاً مضطرباً، نتيجة لما سمعه من مسعود، من ابتزاز وتهديد ونذالة، في تلك الليلة التي اجتمع فيها الاخوة الخمسة، والتي لم يجتمعوا في غيرها من بعد حتى هذه الساعة..

أيقظه أبوه من نومه بصوت متهدج مخنوق: منادي.. منادي.. فلما فتح عينيه قال له: قم يا بني.. لي معك حديث خاص.. وهام.. فقام مستغرباً حالة أبيه، وما هو فيه من قلق واضطراب.. وجلسا في ناحية خاصة منعزلة من بيت الشعر الواسع.. وبدأ الوالد بالحديث دون مقدمات:

هل تعلم ما فعله عمك مسعود.. يا منادي!؟

قال منادي بهدوء وقلق: خير يا أبي.. خير.. ماذا فعل!؟

وقص هواش على ابنه القصة كاملة.. كل ما دار في المجلس من أحاديث وآراء ومقترحات.. حتى وصل إلى تلميحات مسعود القذرة بشأن ظبية.. وطلبه التعجيزي بضرورة حل مشكلة الغلمان أتباع مدلول خلال عشرة أيام.. وصمت هواش.. ورانت لحظات من القلق والتوتر على الأب وابنه.. ثم قال الابن بهدوء: والحل يا أبي؟ أعني ماذا تنوي أن تفعل!؟

قال الأب متحيراً: والله يا ابني لا أدري.. إن عروق جسمي تنتفض.. وإن الشيطان يأتيني في كل ساعة بثوب جديد، ويزين لي ارتكاب الجريمة.. ولقد فكرت كثيراً بهذا الأمر، منذ خروجي من عند عمك السافل مسعود، حتى وصلت إلى هنا.. لكن ماذا يفيد ارتكاب الجريمة..؟! ترى لو حملت بارودتي وأفرغت رصاصها في رأس هذا النذل، ماذا ستكون النتيجة..؟! لا شيء.. لا شيء يا منادي.. إلا الدمار.. إلا الدماء.. القتل، والثأر، والانتقام.. و.. النتيجة هي فناء الأسرتين.. أسرتنا هو أسرة مسعود، وقد يتدخل أعمامك الآخرون وأبناؤهم.. فتفنى القبيلة كلها، لأن العشائر لن تقف مكتوفة الأيدي.. وهكذا من أجل نذل حقير، تفنى قبيلة بكاملها.. وما منعني من قتله إلا هذا.. فماذا ترى أنت يا بني؟ إن الأمر خطير، والظرف عصيب..

قال منادي بحماسة هادئة: أنا يا أبي عون لك على كل خير.. إن شاء الله.. لكن أما ترى أن هذا الاتفاق فيما بينكم على محاربة عباس المدلول وأتباعه، مخالف للدين يا أبي؟ بل اسمح لي أن أقول لك: إنه مخالف لما عرفناه عنك أنت بالذات، من حكمة واتزان ورجاحة عقل..؟؟ كيف يا أبي.. كيف قبلت مثل هذا الاتفاق، الذي سيدمر القبيلة تدميراً تاماً.. إن لم تدمر نفسها بنفسها، فسيدمرها الله تدميراً مباشراً في الدنيا.. ويوم القيامة تتسعر أجساد المجرمين في جهنم..؟ كيف يا أبي.. كيف؟

قال هواش متنهداً: الضرورات لها أحكام يا بني!

قال منادي مستغرباً: وأ]ة ضرورات هذه يا أبي، التي تدفعكم إلى البطش بأناس أبرياء، لا ذنب لهم إلا أن يقوموا ربنا الله!؟ أية ضرورات هذه يا أبي؟

قال هواش بقلق ظاهر: إنها الحكومة يا بني.. الحكومة.. هي التي تريد ذلك، وتطالبنا به..

قال منادي مستغرباً: الحكومة!؟ تعني حكومة فرنسا

قال هواش: أجل يا بني.. حكومة فرنسا.. إنها تلح علينا للقضاء على أتباع الشيخ عباس المدلول بأية وسيلة.. بالإقناع.. بالقتل.. بالتشريد.. بتسليمهم إلى السلطات لتودعهم السجن.. ولقد ذكرت لك قبل قليل، حديث عمك مرهج وتعهده بأن الكولونيل لوفنتال سيعامل من يسلم إليه منكم معاملة حسنة.. ولا يمسه بأي سوء..

ضحك منادي وقال: نعم التعهد..!

قال الأب جاداً: نحن أمام خيارات صعبة يا منادي.. كل منها أصعب من الآخر.. وأصعبها جميعاً هو معاداة فرنسا..

قال منادي: هل تسمح لي بسؤال يا أبي؟

قال الأب: اسأل يا بني عما بدا لك.

قال منادي: كم غزوة غزوت في حياتك؟

قال هواش هو يحاول التذكر، دون أن يعرف الدافع وراء هذا السؤال: كم غزوة..؟ كم غزوة..؟ والله يا ابني لا أستطيع التذكر.. لكن أقول لك: إنني بدأت بالغزو من سن مبكرة.. من أول شبابي.. لعلي كنت يومها في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمري.. وما زلت حتى الآن مستعداً للغزو.. ولعلك تستطيع أن تقول: إني كنت أغزو في السنة غزوة أو اثنتين.. وأحياناً ثلاث غزوات.. حسب الظروف، وحسب حاجتنا للرزق.. وحسب ثاراتنا مع القبائل.. وتستطيع أن تقول: إني غزوت حوالي مئة غزوة، بين غزوة كسب، وغزوة ثأر..

قال منادي: وهل كنت مستعداً للموت يا أبي في هذه الغزوات؟

قال الأب مستغرباً: ما هذا الكلام يا منادي!؟ وهل الغازي إلا قاتل أو مقتول!؟

قال منادي: وأين كنت ستذهب يا أبي، لو قتلت..!؟ لا سمح الله..

قال الأب: إلى القبر.. أو تأكلني وحوش الفلا.. إذا لم يدفني أحد..

قال منادي: وبعد القبر يا أبي.. كيف يكون المصير؟

قال الأب: والله يا ابني ما سألت نفسي هذا السؤال.. لكن الله رحيم، ويغفر ذنوب عباده..

لم يستغرب منادي منطق أبيه، فهو منطق البدو عامة.. لذا لم يحاول أن يدخل معه في حديث عن العالم الآخر، بل أراد الوصول إلى غايته، من خلال صرف الحديث إلى نقطة أخرى هي أقرب إلى ما يريده فقال: يا أبي ما دام لديك هذا الاستعداد للموت في أي ساعة، لم تقبل أن تحارب الله ورسوله والمؤمنين الداعين إلى الإسلام، ولا تقبل أن تحارب أعداء الله الكافرين المجرمين، الذين يحضونك على حرب الله ورسوله؟

قال هواش: وماذا تعني يا منادي؟ أحارب من؟ الحكومة!؟

قال منادي: تحارب فرنسا يا أبي.. أليست الحكومة فرنسية كافرة!؟

قال هواش مستغرباً: ماذا تقول يا منادي..؟ أنا أحارب الحكومة؟ أنا لدي قدرة على محاربة الحكومة يا منادي؟ فرنسا دولة يا بني.. دولة قوية، وحاكمة بلادنا بالحديد والنار.. أنا لي قدرة على محاربتها!؟

قال منادي: لديك استعداد أن تموت في معركة باطلة ظالمة ضد القبائل، وليس لديك استعداد لأن تموت في سبيل الله يا أبي!؟

قال الأب: قبائل مثلنا يا منادي.. نحن رجال وهم رجال.. وعيب على الرجل أن يهرب من أمام الرجال.. عار علينا أن نهرب من رجال مثلنا.. وكان جدك الله يرحمه يقول:"عار الدنيا أشد من عذاب الآخرة.." لكن الحكومة يا بني وراءها قوة الدولة كلها..

ضحك منادي ضحكة خفيفة صفراء، وقال: رحم الله جدي على هذه الحكمة الرائعة.. ومن أدراه أن عار الدنيا أشد من عذاب الآخرة..؟ ترى ما زال مقتنعاً بهذه الحكمة، بعد أن انتقل إلى الآخرة ورأى ما فيها!؟

قال الأب: رحم الله جدك.. كانت عقليته جاهلية أكثر منا.. ربما كان غلطان.. لكن والله يا ابني إن عار الدنيا صعب..

قال منادي مسايراً أباه: يا أبي ألا ترى أنه من العار علينا أن يغتصب الكفار أرضنا ويتحكموا في رقابنا؟

قال الأب: أنا يا ابني أرضي على حالها.. والله ما أخذوا منها شبراً واحداً.. أما التحكم برقابنا فوالله أنهم ما عملوا معنا إلا كل مليح.. يعطوننا المال، ويسمحون لنا بحمل السلاح حتى ندافع عن أنفسنا ضد القبائل الأخرى.. نقولها للإنصاف.. وليسوا حاضرين معنا الآن حتى نجاملهم..

تنهد منادي بعمق تجاه منطق أبيه، وتفكيره المحصور بشخصه وفي إطار قبيلته.. فأراد اختصار هذه النقطة إذ لا جدوى من الحديث حولها، فقال لأبيه:

والآن يا بني، ماذا في نيتكم أن تفعلوا أنت واخوتك؟

قال الأب: لا بد من تنفيذ الاتفاق يا منادي.. وأريدك أن تساعدني في هذا الأمر ولا تحرجني يا بني.. الله يرضى عليك..

قال منادي: أتريدني أن أترك ديني يا أبي؟

قال الأب: لا يا منادي لا.. أعوذ بالله.. كيف تترك دينك يا ابني؟ أريدك أن تترك عباس المدلول.. الذي يحارب الحكومة.. الحكومة يا بني ما تمنعك عن دينك.. ولا تمنع أحداً عن دينه.. لكن الذي يحاربها تحاربه.. ترى يا منادي لو حاربك أحد، هل تقف مكتوف الأيدي تنظر إليه حتى يقضي عليك؟ طبعاً لا.. وكذلك الحكومة يا بني.. لا ترضى أن يحاربها أحد، وتسكت عنه..

قال منادي بقصد إخراج أبيه من الحرج، وإخراج نفسه كذلك: أبي إنني أقدر الحرج الذي أنت فيه.. وسأساعدك للتخلص منه، وأرجو أن تساعدني كذلك في الخروج من دائرة الحرج.. وعلى هذا فإني أتعهد لك ألا أذكر فرنسا بخير أو شر.. وإذا سألني أحد عن حكم الموقف منها ومن احتلالها لبلادنا، أقول له: لا أعلم.. أنظر الحكم في كتاب الله.. هل تحارب فرنسا كتاب الله يا أبي؟ ألم تقل لي أنها لا تحارب الدين!؟ فما رأيك يا أبي!؟

قال الأب: هذا كلا طيب يا منادي.. الله يبارك فيك يا بني.. وإن شاء الله يرضى به لوفنتال.. فهو لا يسبب لفرنسا أية عداوة.

قال منادي: لكن يا أبي كيف سيكون الأمر بالنسبة إلى الآخرين!؟

قال الأب: المهم عندي يا منادي هو أنت.. وأظن أن أولاد عمك سيكون أمرهم أسهل من أمرك.. أنت متمسك بالدين أكثر منهم جميعاً.. وما دمت قد لنت وسايرت أباك، فسيلينون هم كذلك.. وأظن أنهم بين أمرين: إما أن يتركوا ابن مدلول نهائياً.. وإما أن يسافروا إلى مكان آخر يلتمسون فيه الرزق الحلال.. أما نحن فرزقنا الحلال كثير والحمد لله.. صحيح أن لدينا مجموعة كبيرة من الإبل والغنم من مال الغزو.. لكن لدينا كثير من الرزق الحلال كذلك.. اشتريناه بمال حلال..

قال منادي: الله يوفقنا إلى ما فيه الخير..

كان هذا اللقاء هو الفاتحة في سلسلة الأحداث بالنسبة لمنادي وكانت فاتحة السلسلة، أكثرها سهولة ويسراً.. فها هي ذي المجموعة تبدأ بالتفكك والتشرد ومقارعة الشدائد والصعاب..

أبناء عمه الثلاثة: صالح بن طراد، وزهلول بن غزوان، وفداوي بن مرهج، منذ الأسبوع الأول لبدء حملة التضييق، كانوا قد انتقلوا إلى مزرعة كبيرة يملكها أحد أصهار الشيخ طراد.. واستقروا فيها، وبدأ كل منهم يسعى وراء لقمة العيش التي يكسبها من عمله..

العبيد: تراجع كثيرون منهم عن مواقفهم، منذ الأيام الأولى، وبعضهم استمر شهراً في تحمل الضغط والإهانة ثم استسلم.. وظل قليلون منهم مستمرين في المحافظة على عهدهم للشيخ المدلول.. وهؤلاء لم تكن صلتهم بالشيخ ظاهرة أصلاً..

أبناء القبيلة الآخرون، ترك الشيخ عدد كبير منهم يصل إلى النصف قريباً ضمن مراحل متعاقبة من المحاصرة والإهانة والتضييق..

أما النساء فكن بالأصل قلائل، مرتبطات بظبية.. وقد تخلين عن التزامهن منذ اليوم الذي أصيبت فيه ظبية بالإغماء، بعد أن عرض أبوها عليها الزواج بالعبد..

وحصيلة ما تبقى من الرجال مئتا رجل، بعد أن كانوا يزيدون على الخمسمئة..

كانت الوسائل التي اتبعت في صرف الناس عن الشيخ مدلول كثيرة، منها الإقناع بالنسبة إلى بعض العناصر التي كانت قناعتها بخط ابن مدلول ونهجه هشة بالأصل..

ومنها الترغيب والترهيب بدرجاتهما المختلفة.. بين من يرغبه الدينار ومن يرغبه المئة.. وبين من ترهبه الكلمة، ومن ترهبه العصا..

ومنها ممارسة الإهانة الفعلية والضرب الفعلي.. لمن لم يجد فيه أسلوب آخر.. هذا فضلاً عن عمليات الانسحاب التلقائي بمجرد سفر أبناء الزعماء الثلاثة إلى المزرعة البعيدة تخلصاً من المأزق والتماساً للرزق..

ولقد كان يمكن أن تثور بعض الفتن، لولا التهديد بسلطة الحكومة.. فأي شاب كان يبدي تمرداً أو نية للمقاومة كان يهدد باستدعاء قوات الحكومة لاعتقاله وتعريضه للسجن والإهانة وربما الإعدام، بتهمة التحريض ضد الدولة، وإثارة الفتن والإخلال بالأمن..

وجاء دور العمل المكتوم، المحصور في دوائر ضيقة، وبشكل أكثر وعياً وحذراً وتركيزاً مما سبق..

العناصر التي لم يكن ولاؤها للشيخ معروفاً من قبل.. والعناصر التي تظاهرت بترك منهج الشيخ، وظلت مرتبطة به خفية.. والعناصر القليلة التي انضمت مؤخراً بعد موجة الحصار العاتية.. هذه العناصر كلها شكل مجموعها حوالي مئتي رجل.. وقد رتبت ضمن مجموعات صغيرة، ورتب لها أسلوب معين للالتقاء بعيداً عن أعين الناس..

وكان لا بد لهذا التجمع من قيادة تنظم أموره وتسهر على أمنه ورعاية مصالحه.. بعد أن انفرط عقده العلني السابق، وسافر بعض العناصر القيادية فيه إلى خارج القبيلة.. كما تركت عناصر أخرى للعمل، وانصرفت إلى شؤونها الخاصة.

وكان لا بد للقيادة الجديدة من انتخاب.. يرتبه ويشرف عليه العناصر الباقية من القيادة القديمة وهكذا كان.. فقد تمت لقاءات سرية لكل عناصر التجمع، بشكل مرتب ومدروس فاختاروا عشرة ليكونوا مجلس قيادة.. وعلى هذا المجلس أن يختار واحداً من بين أعضائه ليكون مسؤولاً أولاً عن العمل، ويكون صلة الوصل بين التجمع والشيخ عباس المدلول..

والتقى العشرة المنتخبون.. وكان اللقاء الأول عاصفاً.. فقد كان تباين وجهات النظر حاداً، حول كيفية التعامل مع القبيلة.. وتبلور الخلاف حول وجهتي نظر محددتين: الأولى تميل إلى المسالمة والموادعة واللين، والتعامل مع الناس داخل القبيلة بالحكمة والموعظة الحسنة.. دون أن تكشف أمرها، أو علاقتها بالشيخ المدلول.. ولا ترى هذه الفئة مانعاً من التعامل مع شيوخ القبيلة، مع علمها القاطع بأنهم موجهون من قبل فرنسا التي تحتل البلاد، وبعضهم له ارتباط سري مع بريطانيا من وراء ظهر فرنسا.. لقد كانت وجهة نظر هذه الفئة، تنصب على وجوب إصلاح القبيلة من داخلها ومن داخل البنى والعلاقات السائدة فيها، والقوى المؤثرة فيها.. وكان عدد هؤلاء ستة نفر..

أما الآخرون، فلا يرون خيراً في هذا النوع من التعامل، سوى ضياع الجهد والوقت بلا طائل، بل سوف تهدر الطاقات عبثاً، وتظل فرنسا متحكمة في البلاد، عن طريق القوى التي اشترتها أو هيمنت عليها.. ويظل مشايخ القبيلة عبارة عن دمى صغيرة بيد الكولونيل لوفنتال.. أو الكولونيل شوفان، الذي يحرك بعض العناصر البدوية من وراء ظهر فرنسا..

وانشق مجلس العشرة..

واجتمع الستة المعتدلون لانتخاب مسؤول أول.. وتمحورت الأصوات حول شخصين: منادي بن هواش منصور، وسراح بن سارح الدعيوي... وبدأ الحوار والمناقشة حول مناقب كل منهما.. وشن أحد الستة حملة شرسة ضد منادي، متهماً إياه بمسايرة أبيه المجرم ضد أتباع الشيخ المدلول.. ثم توصل هذا المهاجم إلى أن يتهم "منادي" بالعمالة لأبيه، والعمالة بالتالي لفرنسا لأن أباه عميل لفرنسا.. ولم يكتف بهذا بل قاله عنه: على فرض أنه ليس عميلاً، فهو لا يصلح لقيادة المجموعة لأنه لا يستطيع الانسلاخ عن نفسية الزعامة التي ورثها عن أبيه، والتي تغلغلت في أعماق نفسه، والدليل على ذلك أن أخته ظبية رفضت الزواج بالعبد، مع علمها القاطع بأن التفاضل بين الناس إنما يكون بالتقوى والعمل الصالح.. فكيف يتوقع من أخيها أن يتخلى عن نفسيته التي تأصل فيها مبدأ العبودية والزعامة..

كان هذا المتكلم العنيف هو جلمود بن حايص اللهاط.. وكان منادي يعرفه جيداً. يعرف آفاقه الضيقة ونقده الكثير الجارح، وضعف استيعابه لأبسط الأمور.. وقد ألف منه هذا الأسلوب، الذي لا طائل وراءه.. كما ألف منه طرح الآراء البدائية الساذجة التي لا يعرف صاحبها نفسه، ما إذا كانت تنفع أو تضر.. أو ما إذا كانت تنفع في مرحلة وتضر في مرحلة أخرى.. ولقد صمت منادي إزاء تجريح جلمود وأطال الصمت.. وانتهت عملية الانتخاب.. وفاز منافسه سراح بن سارح الدعيوي.. وبدأ بتصريف الأمور، كان جلمود بن حايص اللهاط له بالمرصاد.. ينقده في كل قول أو سلوك، دون أن يعرف سارح ما الذي يريده منه جلمود بالضبط.. ودون أن يعرف جلمود نفسه ماذا يريد من سراح..

وبدأت تتبلور المواقف داخل مجلس الستة.. ثلاثة يميلون إلى توسيع التعامل مع القبيلة ضمن أقصى مدى ممكن.. وهم:"سراح ابن سارح الدعيوي"، و"رماد بن نهتان اللفاط"، "وزلاف بن مخبور المكعون".. وثلاثة يميلون إلى التعامل الحذر الواعي وعدم الانجراف في تيار القبيلة، وهم: منادي بن هواش المنصور، وجلمود بن حايص اللهاط، وسالم بن مهاجر الناطور.. وبدت المواقف بين الأخذ والرد، وبين الرأي ونقيضه وما يزال هذا حالهم منذ أسبوعين..

أما الأربعة الآخرون، فآخر المعلومات عنهم، أنهم اختلفوا حول الأسلوب المفضل للعمل، فقد عدل اثنان عن رأيهما في مجابهة القبيلة، إلا أنهما لم يميلا إلى التعامل معها.. فانسحبا.. أحدهما انسحب إلى بيته ولزمه، وهو "مخلاف بن شاهد المزنوق"، وأما الثاني فانسحب إلى خارج القبيلة، لأته يحرم العيش فيها أصلاً، وهو "ثاني بن دفاع المعاود".

أما الآخران، فاختلفا حول أسلوب المجابهة: الأول يرى مجابهة زعماء القبيلة، بدءاً برؤساء العشاير، وانتهاء بالعبيد الذين يخدمونهم، بما في ذلك صليب الذين يحذون خيولهم ويدلونهم على مسالك الصحراء.. وهذا الشاب هو "صقر بن سواط المدافر".. وأما الثاني فقد التقى بشاب مثقف من أتباع الشيخ عباس، فأقنعه بأسلوب آخر للعمل، بعد أن وضح له، أن القبيلة حلقة صغيرة في سلسلة طويلة ضخمة، أولها في بادية الشام، وآخرها في لندن عن طريق شوفان، أو في باريس، عن طريق لوفنتال.. والصراع داخل حلقة القبيلة وحدها غير مجد، لأ، إسقاط شيخ يأتي بأسوأ منه، وتحطيم علاقة ما، يؤدي إلى أسوأ منها، بحكم ارتباط كيان القبيلة برمته بهذه السلسلة الطويلة التي رأسها في باريس، أو لندن، وذيلها في بادية الشام، والجزيرة السورية.. فلا بد إذن من تقطيع السلسلة برمتها، وضرب كل حلقة من حلقاتها في أي موقع وفي أي زمان.. وضرب له الشاب المثقف مثالاً عن الحرب العالمية الدائرة  في أوروبا.. فهي دائرة للسيطرة على مناطق النفوذ في العالم، وهي تشمل العالم كله تقريباً، فلا يمكن في الوقت الراهن أن تنفصل بقعه من بقاع الأرض عن باقي العالم، وتعيش منعزلة دون أن تكون لإحدى الدول القوية السيطرة عليها، وذلك بحكم المواصلات الحديثة، وبحكم التوسع في القوى العسكرية لكل دولة، فضلاً عن امتداد الحضارة النصرانية الراهنة وتغلغل مظاهرها في أرجاء العالم.. وعلى هذا لا بد من تقطيع حلقات السلسلة التي صنعتها الدول المستعمرة لتتمكن بوساطتها من الهيمنة على العالم، واستعباد الدول الفقيرة.. ووضعت لذلك صمامات أمان تحفظ لها توازن مصالحها في أنحاء الأرض. ولقد اقتنع هذا الشاب، بكلام الشاب المثقف.. وتعاهدا على العمل سوية لهذه الغاية: تقطيع أواصر السلسلة التي تحكم العالم.. أو يتعرف هذا العالم للمسلمين بشيء من الحقوق، ويسمح لهم بصون بعض كرامتهم، والإفادة من أراضيهم وممتلكاتهم وأرزاقهم.. وإلا فالمبدأ المطروح هو: "علي وعلى أعدائي يا رب.." وهذا الشاب هو عزام بن ليث الهزاع.. أما الشاب الآخر المثقف، فلم يعرف منادي اسمه بعد..

استعرض منادي هذا الشريط كله، وهو في مجلسه أمام البيت، فتنهد بعمق وقال:" لا حول ولا قوة إلا بالله"

وكان أبوه قد وصل قبل قليل من مدينة دير الزور، حيث ذهب يقابل الكولونيل لوفنتال، وعاد مقطب الجبين.. ولا يدري ما الذي حمله معه من جعبة الضابط الفرنسي الخبيث.. فلينتظر حتى يبادره أبوه بالكلام بعد أن يأخذ حظه من الراحة.. إن السفر على ظهر الفرس متعب.. ووالده لم يعد شاباً.. صحيح أنه كهل حنكته الأيام.. إلا أن للسن حقوقاًً لا بد أن تأخذها من جسم الإنسان.. لن يبادر أباه بالسؤال.. إن لديه أسئلة شتى، ولا بد أن لدى أبيه الكثير مما يمكن أن يخبره به.. فلينتظر.. وليبق في عالمه الفكري الخاص.. يستعرض بعض ما في ذهنه من نماذج بشرية، كتب عليه أن يتعامل معها.. بسموها وتدنيها، بخفتها وسماجتها.. بعمقها وسطحيتها.. وكان نموذج اللهاط هو أقوى النماذج وضوحاً لديه، وأشدها بروزاً في ذهنه.. ترى أليس الشيخ عباس فراسة..!؟ فإن كان لديه شيء من الفراسة أو المعرفة بالرجال، فكيف يقبل بين أتباعه مثل هذا الإنسان..!؟ لكن من يدري..؟ لعل بعض العناصر التي تغتر بكثرة الثرثرة وإدعاء المثاليات، قد زكاه أمام الشيخ التقي، فقبل ضمه إلى قائمة أتباعه.. إن اللهاط الآن يشكل واحداً من ستة من مجلس القيادة والتوجيه.. ترى لو استعرض العناصر كلها، يجد النسبة ذاتها في هذا التجمع: واحد على ستة.. فليجرب.. وبدأ باستعراض النماذج، فبدأ جبينه يتصبب عرقاً برغم النسمات اللطيفة التي تداعبه.. لقد وجد نموذج اللهاط يشكل ما يقرب من الربع.. أطرق قليلاً وتمتم: حسبنا الله ونعم الوكيل.. كيف يمكن التعامل مع هذا الطراز من البشر، ضمن هذه الأجواء الخانقة..؟ ضغط الزعامات والمشايخ من الأعلى، وفوقهم فرنسا.. وسماجة جلمود اللهاط وأضرابه من الداخل..! صحيح أن نسبة العناصر الجيدة والمقبولة في هذا التجمع أكثر من نسبة العناصر الغليظة السمجة.. إلا أن صعوبة الظروف تقتضي أن تكون النسب مختلفة تماماً.. يجب أن يكون العناصر جميعاً بين ممتاز، وجيد جداً، وجيد.. ولا دور للوسط وما دونه البتة.. وإلا فستؤدي كثرة الضعفاء إلى انهيار التجمع كله، تحت ضربات المطارق الثقيلة، وبين نيران الفتن والمحن والبلايا.. فما العمل؟ إن ما يعاني منه هو، يعاني منه سراح ابن سراح الدعيوي، المسؤول الجديد للتجمع.. كما تعاني منه العناصر الأخرى داخل مجموعة الستة.. برغم تفاوت مواقفهم بين المعارضة الظاهرة لأساليب اللهاط، وبين الامتعاض الظاهر والصمت المطبق.. ومن يدري..!؟ لعله لو عرض على سراح اقتراحاً باتخاذ موقف ما، تجاه جلمود لظن سراح أنه إنما يحمل في نفسه شيئاً ضد جلمود لوقوفه في الانتخاب إلى جانب سراح، أيحاول جس نبض العناصر الأخرى؟ لعل الآخرين يظنون به الظنون، ويتهمونه بالسعي إلى أحداث الفتنة، وشق التجمع كما شق أبوه من قبله قبيلة المداعيس.. وعلى كل حال لا بد من البحث عن مخرج، وإلا ظل اللهاط ينخر في جسم التجمع الصغير كالسوس في الخشب، وبنية الإصلاح وادعاء المثالية التي لا يملك منها شيئاً.. وليته نخر في زاوية مهملة، إذن لهان الأمر.. إنه ينخر في الرأس.. لا يعمل شيئاً ولا يترك أحداً يعمل شيئاً إلا وفقاً لما يريد.. ولا يعرف ما يريد.. ولا بد من أن يسوط الناس بلسانه صباح مساء، لأنهم اتجهوا شرقاً، أو غرباً، أو شمالاً أو جنوباً أو صعدوا إلى الأعلى، أو ظلوا في أماكنهم.. في كل الأحوال لا بد من أن ينالوا حظهم من لسعات لسانه الذي لا يكل من الحركة ولا يمل.. ولا يميز بين الجرأة الأدبية والوقاحة ولا بين النصيحة والتشهير، ولا بين ظرف طبيعي وظرف خاص.. إنه بلاء حقيقي.. تذكر الحديث النبوي الذي سمعه مرة من الشيخ عباس:"الناس معادن.. خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام، إذا فقهوا" ثم تذكر معدن اللهاط.. منبته.. منشأه.. بيئته.. فما وجد ما يشير إلى أصالة المعدن.. ونظر في أثر الإسلام وتعاليم ابن مدلول في نفس الرجل وعقله.. فما وجد إلا قشوراًً منبثة على سطح الشخصية هنا وهناك.. وبشكل عشوائي.. ودون أن يكون لها أي عمق في نفسية الرجل أو عقليته.. تنهد وحوقل.. ثم أخذ عوداً صغيراً من أمامه، بدأ ينكت به الأرض بصمت قلق حزين..

انتبه إلى صوت أبيه بحنان: خير يا منادي خير.. نصف الألف خمسمئة.. نظر إلى أبيه ونهض مبتسماً.. وهو يقول: لا شيء يا أبي.. لا شيء.. كنت أفكر قليلاً في بعض الأمور..

قال أبوه مستبشراً: الحمد لله إن حالة ظبية في تحسن مستمر.. هل تلاحظ ذلك؟

قال منادي باسماً: هذا الشتاء انقضى ولم يبق في الجو غيوم.. وحتى يأتي الشتاء القادم، لا ندري كيف تتطور الأمور..

قال الأب: لكن لا تنس أن شهر شباط ما يزال في بدايته، ويتلوه آذار، وكلاهما من شهور الغيم والمطر..

قال منادي باسماً بألم: فلتبك ظبية قليلاً يا أبي فيما تبقى من أيام الربيع.. إن البكاء في هذه الظروف يا أبي نعمة من نعم الله.. ليتنا نستطيع البكاء.. ليتك يا أبي علمتنا كيف نبكي.. لقد عودتنا على القسوة والصلابة والجلد.. كلما سمعت غلاماً منا يبكي نهرته قائلاً: أخسأ يا نذل.. الرجل يبكي؟! لا أقول إنك ظلمتنا يا أبي.. لكن أقول: ليتك سمحت لنا بأن نعود عيوننا على البكاء.. إذن لاستطعنا تفريغ آلامنا وهمومنا، كما تفعل ظبية تحت الغيوم.. فلتبك ظبية يا أبي.. فلتبك حتى تخضل ثيابها من الدمع.. إن هذا يخفف من أحزانها..

كان الرجل وابنه ما يزالان واقفين.. وكان الأب يحس أن في أعماق ابنه بحراً زاخراً من الآلام والأحزان.. كانت كل كلمة قالها الابن توحي بهذا.. وكان الأب يستطيع أن يخمن بعض ما يدور في رأس ابنه، من خلال المشكلات المطروحة على الساحة.. إلا أنه يجهل الكثير كذلك مما  في نفس الشاب الحيي، ذي العينين الواسعتين الصافيتين، والقامة الممشوقة الفارعة كقامة سروة غضة فتية تتمايل مع النسيم، لولا أن في أعماقها صلابة رجل لا يعرف البكاء..

قال الأب بحنان: اجلس يا منادي.. اجلس لنتحدث قليلاً.. وارفع هذا المصحف عن اللباد.. أليس هذا مصحفاً؟

قال منادي: لا يا أبي هذا كتاب في تفسير القرآن.

قال الأب: أليس فيه آيات من القرآن؟

قال منادي: بلى يا أبي..

قال الأب برقة وهدوء: ارفعه يا ابني ارفعه.. كتاب الله على رأسنا وعيننا..

لم يستغرب منادي هذا الحس الإيماني العميق لدى أبيه.. فهو يعرف لديه هذا من زمن طويل.. إنما الذي يحيره هو أن هذا الإحساس الديني المرهف، لا يدفع إلى عبادة ولا يمنع عن أكل المال الحرام، من مال الغزو والنهب، كما لا يمنع عن قتل النفس التي حرمها الله.. وهذا التناقض العجيب ليس عند أبيه وحسب، بل لدى كثير من رجال القبيلة من مشايخ ووجهاء وسواهم..

قام منادي، فوضع الكتاب على رف صغير داخل البيت، وعاد إلى أبيه، الذي جلس مسنداً ظهره إلى جدار البيت، وماداً رجليه إلى الأمام باسترخاء.. فجلس بجانبه ينتظر أن يحدثه أبوه عن سفرته القصيرة لزيارة الكولونيل الفرنسي، أو عن أمور أخرى مما يجول في خاطره القلق المكدود..

قال الأب وهو ينظر إلى ابنه ويبتسم بمرارة: هل تعرف يا منادي أن ظفر الشيخ المدلول يساوي فرنسا كلها، من ديغول إلى لوفنتال.. ومن المارشال بيتان الذي يقولون عنه، إلى الجنرال موراي.. هل تعرف ذلك..!؟

قال منادي باسماً، وقد استغرب طريقة حديث والده، وهذه الموازنة التي لا يعرف لها مسوغاً ظاهراً، بين فرنسا والشيخ المدلول: نعم يا أبي أعرف ذلك.. أعرفه من زمن بعيد.. لكن كنت أتمنى أن يعرفه غيري..

قال الأب بحرقة وقد انتبه إلى تلميح ابنه: والله يا ابني ما شككت قط في صلاح المدلول وعلمه وتقواه.. لكني ما كنت أتوقع أن يكون هؤلاء الروم.. صفر الشوارب بهذه الخسة والنذالة.. كنت أحسبهم رجالاً يعرفون معنى الرجولة والشهامة وشيم الرجال.. فتبين لي أنهم أنذال.. عفون.. لا يعرفون شيئاً من خلق ولا كرامة.. لكن ماذا نعمل؟ العين بصيرة واليد قصيرة..

قال الابن يستحث أباه بلطف على الحديث: خير إن شاء الله يا أبي..! هل جد شيء يشغل بالك..!؟

قال الأب جاداً: نعم يا منادي.. نعم.. جدت أمور كثيرة.. الله يجيرنا من عواقبها..

قال منادي: مثل ماذا يا أبي؟

قال الأب وهو يزفر زفرة قوية: النذل لوفنتال.. يتآمر علينا..

قال منادي: ماذا تقصد يا أبي..!؟ كيف يتآمر علينا..؟

قال الأب، وهو يحاول أن يستعيد تفاصيل لقائه بالكولونيل الفرنسي: أول ما رآني رحب بي، وابتسم ابتسامة الذئب الماكر.. ثم صب لي كأساً من الخمر، وقدمها لي، فاعتذرت عن شربها.. وألح علي، فكررت الاعتذار بقوة، وقلت له: ما تعودت على شرب الخمر يا سعادة الكولونيل.. لا أبي شربها ولا جدي.. فكشر عن أنيابه القذرة وقال بحقد وخبث: يبدو أن المدلول لم يؤثر في الصغار فقط.. بل أثر في الكبار أيضاً.. فقلت له معتذراً: إنها عادة والله يا سعادة الكولونيل.. عادة.. أنا لم أعتد على شرب الخمر.. وأنا لست غلاماً غراً حتى يضحك بعقلي ابن مدلول أو غيره.. لكني ما اعتدت على شرب الخمر.. وما يليق بي بعد هذا العمر أن أشربها.. نحن أبناء عشاير، والرجل منا يخاف على سمعته.. والبادية لها تقاليدها وعاداتها الخاصة.. والرجل إذا سقط بين الناس، موته أشرف له.. فأرجو أن تعفيني منها يا سعادة الكولونيل..

فقال لي بخبث: أليس مسعود أخاً لك؟ إنه يكرع الكؤوس كما يكرع البعير الظامئ ماء البئر من الحوض.. فقلت له، وقد أحسست بالحرج الشديد: مسعود تعود على شرب الخمر يا سعادة الكولونيل.. وما عادت تؤثر فيه.. أما أنا  فلو شربت كأساً واحدة لسكرت وفقدت عقلي.. وقد أسقط على الأرض، أو يقع عقالي من فوق رأسي، وقد يراني أحد أبناء القبيلة فيفضحني.. وماذا أفعل بنفسي  بعد ذلك..؟ حتى لو قتلت نفسي فسيظل العار ملاحقاً أولادي من بعدي.. يقول لهم الناس "يا أولاد السكير".. فأرجوك أن تعفيني من هذا الأمر يا سعادة الكولونيل.. فهز رأسه وهو يهمس ليسمعني: مدلول.. منادي.. ظبية.. هواش.. عظيم.. عظيم.. ثم التفت إلي وسألني عن حال ظبية، وعن تعلقها بالغيوم، وعما إذا كانت ما تزال تعلم بنات العبيد تعاليم ابن مدلول.. فأخبرته عن تحسن صحتها، وعن تركها لتعاليم ابن مدلول.. فهز رأسه، وأخذ جرعة من كأسه، وسألني عنك يا منادي.. قال لي: كيف حال منادي؟ فأجبته: إنه بخير والحمد لله. فقال لي: وكيف علاقته الأخيرة بابن مدلول وأتباعه؟ فأجبته بأن "منادي" ترك ابن مدلول من شهور طويلة.. وذكرته بما اتفقنا عليه في حينه، من ألا تذكر فرنسا بخير ولا بشر، وأن تهتم بأمورك الخاصة.. فكشر عن أنيابه تكشيرة الذئب الأغبر، وقال: إنك تكذب علي يا هواش.. إنك تخدعني.. إنك تتستر على ابنك الذي يعادي فرنسا ويحض الناس على عداوتها.. فأحسست بالانهيار أمام سفاهة الرجل، واتهامه إياي بالكذب والخداع.. إلا أنني تماسكت وتجلدت.. ولو كان رجلاً من أمثالنا، من رجال القبائل، لما جرؤ على أن يخاطبني بهذه اللهجة، ولا أن يوجه إلي كلمة نابية.. وإلا لذبحته ذبح الخروف.. لكني صبرت يا ابني.. كنت مجبراً على الصبر.. العين ما تقابل مخرزاً.. وحين رآني النذل قد اضطربت أحوالي، سألني بحقد وسخرية قائلاً: هل تعرف "جدوع" يا هواش..؟ فقلت مستفسراً: أي جدوع تعني يا سعادة الكولونيل، فإن عندنا عدداً من الرجال يحملون هذا الاسم؟ فتضاحك بمكر وقال لي: أتتظاهر بالغباء يا أبا منادي.. أنا أسألك عن جدوع.. جدوع الدحام مهرب السلاح.. ألا تعرفه؟ فقلت: بلى يا سعادة الكولونيل.. أعرفه جيداً.. فقال لي: كم قطعة سلاح اشتريت منه؟ فقلت مستغرباً: أذكر أني لم أشتر منه قطعة منذ زمن طويل.. فقال ضاحكاً: وحديثاً.. ألم تشتر منه شيئاً؟ فقلت: لا.. أبداً.. ولا طلقة مسدس.. فقال: ومنادي.. ألم يشتر منه شيئاً؟ فقلت: لا أعلم أن ابني يملك ثمن قطعة سلاح.. فالسلاح مرتفع الثمن.. وابن يعيش عندي، وأنا الذي أصرف عليه من جيبي.. فليس له مال مستقل عن مالي.. وهنا وجه إلي إهانة أخرى قائلاً: أتظنني حماراً تخدعني أنت وابنك المجرم.. يا كذاب يا حقير..؟ ألا تعلم أن ابنك متورط مع عصابة إجرامية تشتري السلاح وتخزنه لتقوم بمحاربة فرنسا؟ هل أعدد لك أنواع الأسلحة التي اشترتها عصابة المجرم مدلول من جدوع الدحام وحده.. اسمع إذن: عشر بنادق فرنسية قصيرة، مع خمسمئة طلقة لها.. خمس بنادق إيطالية "برنو" مع ثلاث مئة طلقة.. عشرون مسدساً أمريكياً من طراز "ستاندارد"، ثماني بنادق ألمانية طويلة، من هذه التي تسمونها: "أم خرزة" مع مئة وستين طلقة لها.. أربعون قنبلة إنجليزية.. هل أعدد لك أيضاً يا هواش أم أكتفي بهذا..؟ ومع ذلك تزعم انك لا علم لك بذلك.. هل تحسبنا نياماً يا هواش.. إننا نحصي أنفاسك التي تستنشقها خلال أربع وعشرين ساعة.. تحت كل حجر من حجارة البادية لنا عين ترصد، وأذن تسمع.. أخباركم تأتينا لحظة بلحظة يا هواش.. لحظة بلحظة.. كل الناس في البادية معنا، يحبوننا ويقدمون لنا الأخبار.. البدو.. العبيد.. وحتى صليب.. صليب هؤلاء الذين تحتقرونهم وتذلونهم، ولا تعتبرونهم بشراً.. يحبوننا ويتعاونون معنا.. ويقدمون لنا الأخبار عن كلما يجري في البادية أولاً بأول.. ثم سألني عن عدد المرات التي قابلت فيها ابن مدلول يا منادي.. فأجبته بأن لا علم لي بأية علاقة بين منادي وابن مدلول.. فأعطاني معلومات مفصلة بأنك التقيت يا منادي مع خمسة من أتباع مدلول، بشيخكم في مدينة القامشلي، وقد جاءها متنكراً بزي فلاح كردي، وذلك منذ عشرين يوماً تقريباً، وأعطاكم تعليماته وتوجيهاته، وزودكم بنصائح في كيفية التعامل فيما بينكم من ناحية، وفيما بينكم وبين أبناء القبيلة من ناحية أخرى.. ثم التقى به مرة أخرى منذ عشرة أيام، رئيسكم ومساعده، في مدينة الحسكة، وقد جاء متنكراً بزي صليبي، يركب حمارة سريعة بيضاء، من تلك التي يركبها صليب في البادية.. ثم لمح لي الخبيث، عن علاقتي بالكولونيل شوفان، وأخيراً أكد لي أن هذه البلاد هي مستعمرة فرنسية، وأن الذين يتصدون للزعامة والوجاهة فيها، يجب أن يكونوا أصدقاء لفرنسا، وأن يحسنوا التعامل معها.. وأن كل وجيه في أية عشيرة، يمكن أن يكون في أية ساعة شيخاً لهذه العشيرة، إذا أثبت صدقاً في التعامل مع فرنسا.. وبالمقابل، أي شيخ أو زعيم، يمكن أن يجد نفسه شريداً طريداً إذا عادى فرنسا، أو تستر على المجرمين الذين يحضون النسا على عداوتها.. ولقد ذكر بهذه المناسبة، اسم: مدعثر.. مدعثر بن طايع القشران.. وابتسم، وهو يريد أن يوحي إلي أن "مدعثر" يمكن أن يكون بديلاً عني في زعامة العشيرة.. وطلب مني أن أقدم له في أقرب وقت، معلومات مفصلة عن صفقة السلاح التي اشترتها عصابة المدلول، والهدف من شرائها.. وتحركات أفراد العصابة.. مع أسمائهم وأساليبهم في العمل.. وطلب مني أن أثبت حسن نية في هذا المجال، لأظل حائزاً على ثقة فرنسا ودعمها.. كما طلب مني أن أعرفه على موقفك أنت يا منادي من عصابة مدلول، فإن كنت فعلاً قد انسلخت عنها وصرت حريصاً على مصلحة أهلك وعشيرتك، فيجب أن تثبت حسن نية في هذا المجال، وتتعاون مع الحكومة، لرصد أخبار المجرمين وتحركاتهم المشبوهة.. وامتناعك عن التعاون في هذا المجال، دليل على أنك ما تزال متورطاً مع العصابة.. وعليك بالتالي أن تتحمل نتائج تصرفاتك، وتدفع ثمن تسترك على المجرمين الذين يعبثون بأمن البلاد، ويحضون الناس على الفتنة والتخريب..!

تنهد الأب بحرقة وختم كلامه: هذه هي يا بني محصلة لقائي مع الكولونيل الفرنسي لوفنتال.. فماذا ترى أنت..؟ إن النذل يريدنا جواسيس له ومخبرين..

ابتسم منادي ابتسامة مرة، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. ثم ردد جزءاً من الآية الكريمة (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم..) ثم خيم على الرجلين صمت عميق.. كان كل منهما يفكر خلاله بطريقة مختلفة عن طريقة تفكير الآخر.. كان هواش يفكر بالعشيرة وزعامتها، والبديل المتوقع الذي يمكن أن يكون خلفاً له.. وتهديدات لوفنتال، وموقفه العنيف منه.. والموازنة التي عقدها لوفنتال بينه وبين مسعود.. وكيفية الخروج من المأزق.. ومستقبل هواش وأسرته في حال تنفيذ الكولونيل لتهديداته، وتنحية هواش عن زعامة العشيرة.. وغير ذلك..

أما منادي فانصرف ذهنه إلى التفكير بأساليب الفرنسيين، وطرائقهم في التهديد والابتزاز.. وكيفية تعاملهم مع المسلمين بشكل عام.. وأحقادهم على الإسلام، التي لا يستطيعون إخفاءها.. ولا يستطيعون مسايرة عملائهم حتى في مجرد الامتناع عن شرب الخمر، لأن شرب الخمر يعني أول ما يعني عدم الاكتراث بأحكام الإسلام وتعاليمه، وأوامر الله ونواهيه.. كما عاد منادي بتفكيره إلى انشقاق أتباع المدلول، وإلى النهج الذي قرره الشابان العنيفان المتحمسان: صقر بن سواط المدافر، وعزام ابن ليث الهزاع، في المجابهة وحمل السلاح، على اختلاف ما بينهما في رؤية ساحة المعركة وأبعادها وعناصرها.. وقدر في ذهنه، أن أحد الرجلين ربما كان قد اشترى من جدوع الدحام سلاحاً لمجموعته التي يقودها.. وربما كان جدوع نفسه عميلاً للسلطة، يبيع السلاح للناس ويخبر السلطة عنه.. أو ربما كان أحد العناصر التي يقودها الشابان المتحمسان، له ارتباط بالسلطة، وقد يكون هذا الارتباط قبل التحاقه بالمجموعات الثائرة، أو بعد ذلك.. فقد دأبت السلطة على دس عملائها في صفوف الكتل المعادية لها.. كما دأبت على شراء عناصر منضمة أصلاً إلى هذه الكتل.. وربما حصل خلط في ذهن الكولونيل، بين المجموعات التي قررت حمل السلاح، والمجموعات الأخرى التي فضلت الأسلوب السلمي.. وقد يكون هذا الخلط ناجماً عن معلومات مغلوطة أو مشوشة تلقاها الكولونيل من عملائه.. وربما كان الخلط متعمداً، لاتخاذه ذريعة لضرب العناصر الإسلامية بشكل عام، أو لتهديدهم وابتزازهم بذريعة حمل السلاح ومقاومة السلطة بالعنف لإملاء شروط قاسية عليهم وعلى أهليهم.. وانتقل بتفكيره إلى أخبار كتلتهم التي تسربت إلى الكولونيل.. إنها دقيقة ومفصلة.. فمن ذا الذي نقلها إلى السلطة.. ليس هناك من يعرفها بهذه الدقة إلا الشيخ عباس ومرافقه، والعناصر الستة التي تشكل قيادة التجمع.. فأي هذه العناصر يمكن أن يكون موضع شك..؟ أيمكن أن يكون بين الستة عميل للسلطة صنعته ثم دسته في التجمع، أو اشترته بعد أن دخل التجمع وأصبح عضواً بارزاً فيه..؟ أيمكن أن يكون أحد الستة غير منضبط أمنياً وقد تحدث إلى زوجته أو إلى أحد عناصر التجمع المقربين منه، فانتقلت المعلومات عن طريق التسلسل الفردي، من شخص إلى آخر، حتى وصلت إلى عميل نقلها إلى السلطة.. إن الأمر محير.. كل الاحتمالات التي استعرضها في ذهنه قائمة فعلاً.. وبعضها أرجح من بعض.. وهناك احتمال آخر، هو أن يكون الشخص الموثوق الذي تم اللقاء في بيته، ليس أهلاً للثقة.. أما احتمال كون بيته مراقباًً، فلا يمكن أن يقدم للسلطة معلومات عن وظائف الأشخاص "المسؤول ونائبه" التي ما تزال سراً لا يعرفه إلا قلة قليلة من أفراد التجمع.. وهؤلاء الذين يعرفون، لا علم لهم بمقابلات المدلول مع العناصر المسؤولة.. ما هذه الألغاز؟ لا بد من كشف هذا السر الخطير مهما كلفت الظروف، وإلا فالعاقبة الدمار المحقق للتجمع كله.. استعرض أسماء الستة في ذهنه واحداً واحداً.. لم يجد منهم من يمكن أن يرقى إليه الشك من الناحية الأمنية.. ربما كان فيهم أو في بعضهم نوع من حب الثرثرة، أو حب التظاهر والادعاء.. وربما كان لدى بعضهم شيء من الحب الزائد للمال، أو الثقة الزائدة بالآخرين.. وربما كان لدى بعضهم نوع من الضعف أمام إرادة زوجته، التي تظل ثائرة في وجهه حتى يقدم لها كشفاً، عن تسلسل أعماله اليومية، ليثبت لها أن غيابه عن البيت كان مشروعاً ومعقولاً وضرورياً.. ربما كان لدى بعض العناصر الستة مظاهر ضعف من هذه التي خطرت في ذهنه، إلا أن مظاهر الضعف هذه كلها من النوع العادي، والمقبول نسبياً والذي لا تكاد تخلو منه نفس بشرية بشكل عام.. ومع ذلك، أفلا يمكن أن يكون السر قد تسرب من إحدى نقاط الضعف هذه..!؟ كل الأمور محتملة.. ولا بد من التقصي والبحث والتنقيب.. وإلا فالعاقبة وخيمة. خطر في باله اللهاط، وتذكر ثرثرته الزائدة ومثاليته العقيمة التي لا يطبق شيئاً منها على نفسه.. إلا أنه صرف عن ذهنه هذا الخاطر، خشية أن يكون نوعاً من الوسواس الشيطاني، بثه الشيطان في نفسه، ليوغر صدره ضد الشخص الذي هاجمه في الحملة الانتخابية، وانتقص من قدر أخته الطاهرة البريئة، التي رفضت الزواج من ابن عمها عقاب، مع أنه من فرسان القبيلة المعدودين، رفضته لمجرد عدم التزامه بأحكام الدين، ولأنه لا يتحرج من قتل النفس البشرية بغير حق.. فهل يجب عليها بالضرورة أن تتزوج بالعبد لمجرد كونه عبداً، مع أنه ليس أهلاً لها ولا كفؤاً، ولا يملك من الصفات إلا كونه من أبناء آدم وآدم من تراب.. أفيجب عليها الزواج من هذا العبد، لترتفع عنها سلاطة لسان اللهاط..!؟ لقد صرف منادي ذهنه عن الشك باللهاط، خوفاً من أن يقع في حبائل الشيطان، من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنه لا يشك فيه من الناحية الأمنية، أو بشكل أدق يستبعد جداً أن يكون اللهاط عميلاً للسلطة الفرنسية، برغم الخطورة الكامنة في حبه للثرثرة والادعاء الفارغ.. كل الأمور المحتملة.. وكل الاحتمالات المتعلقة بالعناصر الستة مستبعدة، لكن ليس بينها احتمال واحد مستحيلاً.. والفرق بين الصعب الممكن، وبين المستحيل، لا يستهان به في القضايا الأمنية الحساسة الخطيرة، مهما كان ضئيلاً، فالقضية قضية مصير.. فكر في أبيه الجالس بجواره، والإهانات التي وجهها إليه المجرم لوفنتال.. ونفسية أبيه الصلبة الأبية التي لم تسكت على إهانة أو ضيم قط.. والعبث الذي يعبثه الفرنسي المجرم بأعصاب أبيه، والسعي لاستدراج الأسرة لتكون حفنة من الجواسيس عنده، لقاء تثبيت الأب في زعامة هشة ذليلة، هي نوع من الإستزلام الرخيص للكولونيل الفاجر.. وفكر في الخيارات الصعبة المطروحة أمام والده، من ترك زعامة العشيرة والغرق في مصير مظلم مجهول، إلى البقاء في الزعامة مع الخضوع المهين لإرادة الكولونيل.. وفكر بما يمكن أن يظهره بعض أعمامه، من شماتة خسيسة بأبيه لو نحي عن زعامة العشيرة.. وفكر في منطق أبيه الذي يقبل أن يقتل في عملية غزو إجرامية ضد بعض القبائل، ولا يجرؤ على رفع رأسه أمام القوات الفرنسية، لأنها "حكومة"، مع أن عشيرة السواعير التي يقودها أبوه، تستطيع وحدها أن تناجز القوات الفرنسية الموجودة في سورية كلها، شهوراً طوالاً في بادية الشام المترامية الأطراف.. فإذا أضيفت إليها قبائل أخرى، أو حتى بعض العشائر الأخرى من قبيلة المداعيس ذاتها.. أمكن كسب عدد من المعارك الظافرة ضد فرنسا.. وقد ثبتت صحة هذا الافتراض، في مناطق كثيرة من سورية.. إلا أن كلمة "الحكومة" لدى البدو تشكل شبحاً هائلاً مخيفاًً لا يتصورون حتى مجرد رفض أوامره السخيفة، فضلاً عن مقاومته بالسلاح. عصر ذهنه بحثاً عن الحلول الممكنة، فما وجد حلاً سهلاً مقبولاً.. الحلول كلها صعبة قاسية، وتجربته القصيرة في ميدان الحياة، لم تؤهله بعد للموازنة بين خيارات من هذه المستويات المطروحة أمامه.. أحس بحاجة شديدة إلى البكاء.. لكن أين الدمع؟ لقد جف ينبوع الدمع من أعماقه منذ كان صبياً لم يبلغ الحلم.. وأسهل على عينيه أن تتشققا، من أن تذرفا دمعة واحدة.. تذكر ظبية، ثم نظر إلى السماء، فما رأى فيها غيوماً سوداً.. ثم همس في سره: هنيئاً لظبية.. إن رحمة السماء أسرع إلى تلبية العيون المخضلة، منها إلى تلبية العيون الجافة.. نظر إلى أبيه، فوجده ينكت الأرض بعود صغير في يده.. تنحنح قليلاً وقال مخاطباً أباه بهدوء وأدب:

أبي.. أود أن أسألك بعض الأسئلة القصيرة، حول مقابلتك مع هذه الخبيث، عسى أن تتذكر شيئاً آخر يمكن أن ينير لنا بعض جوانب المسائل التي تحدثتما فيها.. ونرجو أن نتعاون على ما فيه الخير..

قال الأب باسماً بهدوء: تفضل يا منادي.. أسأل عما تحب..

منادي: أبي هل ذكر لك شيئاً عن السلاح غير الذي ذكرته لي؟

الأب: من حيث أعداد القطع وأنواعها، لا أذكر أنه قال شيئاً غير ما ذكرته لك.. لكنه وقف عند نقطتين: الأولى موضوع القنابل.. فقد استغرب شراء القنابل هنا في البادية، إذ الأمر غير مألوف.. البدو يشترون بنادق، مسدسات، خناجر... أما القنابل فأمرها يثير الانتباه.. وهذا مما جعله يؤكد أن السلاح لم يشتر للصراع ضد القبائل، أو للدفاع الفردي عن النفس.. بل وراءه غاية أخرى.

أما النقطة الثانية التي أكد عليها، فهي عملية حمل السلاح بالذات، إذ قال لي: يا هواش.. نحن نعلم جيداً أن لديكم أسلحة غير مرخصة، وأنكم تشترون مئات القطع من هذه الأسلحة سنوياً، وعشرات الآلاف من الطلقات.. إلا أننا نغض النظر عنكم، لعلمنا أنكم هنا في البادية تحتاجون إلى السلاح لتدافعوا به عن أنفسكم ضد القبائل الأخرى، وضد الوحش التي يمكن أ، تهاجم دوابكم ومواشيكم.. أما حين تشترون السلاح بقصد محاربتنا، فنحن نعرف كيف نتصرف معكم.. فحمل السلاح بحد ذاته جريمة يعاقب عليها القانون.. إذا لم يكن السلاح مرخصاً.. وأنت تعرف ذلك جيداً يا هواش..

منادي: وهل لمح لك يا أبي من بعيد أو قريب، حول مصدر معلوماته بالنسبة لصفقة السلاح؟

الأب: ليس من عادة السلطات أن تكشف عن مخبريها إلا في حالات خاصة جداً.. لقد جربنا الحكومات كثيراً في هذا المجال.. ولقد سجنت أنا مرات كثيرة من أجل وشاية عن قطعة سلاح أملكها.. وحين كنت أنكر حيازتي للسلاح، وأطلب معرفة الشخص الذي نقل المعلومات، كان رجال الأمن يسخرون مني، ويقولون لي: مصادر معلوماتنا أصدق منك.. ثم يواجهونني بمعلومات دقيقة حول نوعية السلاح، وعياره، والدولة التي صنعته، ورقم السلاح أحياناً.. فلا يبقى أمامي مجال للإنكار.. فاعترف وأنال عقوبتي.. وتظل قضية المخبر بالنسبة إلي قضية تكهن وتخمين.. أما بالنسبة لهذه الصفقة الأخيرة التي ذكرها الكولونيل، فإني أتوقع أن المخبر هو جدوع نفسه.. هذا إذا كانت الصفقة حقيقية، ولم يلفقها الكولونيل تلفيقاً ليوهمني ويرهبني.. فقد فعلها معي من قبل، هذا النذل جدوع، منذ حوالي خمس عشرة سنة.. إذ باعني بارودة إنجليزية، وفي الليلة الثانية داهمت قوات الأمن بيتي وفتشته وعثرت على البندقية فصادرتها، وقادتني إلى الحبس.. ولم يكن حينذاك أحد من الناس يعلم بأمر البندقية، إلا ثلاثة: أنا وجدوع ووالدتك، التي خبأت البندقية بين طيات أحد الفرش المنضودة في البيت.. وحين عاتبته على فعلته بعد خروجي من السجن، أنكر علمه بالأمر، وحلف لي بالطلاق ثلاثاً أنه لم يبلغ عني.. فضحكت وقلت: يبدو أن نجية زوجتي هي التي أبلغت عني رجال الأمن.. إن "جدوع" نذل.. يبيع أمه وأباه بليرة ذهبية واحدة..

منادي: وهل ذكر لك شيئاً آخر بشأن ظبية؟

الأب: لا أذكر.. بلى.. تذكرت شيئاً.. لقد سألني الملعون عن السبب في عدم زواجها حتى الآن.. فأجبته: إن الزواج قسمة ونصيب يا سعادة الكولونيل.. وحين يأتيها نصيبها ستتزوج إن شاء الله.. فقال لي وعلى شفتيه ابتسامة خبيثة: زوجها يا شيخ زوجها، لعلها ترتاح قليلاً، وتهدأ نفسها، وتكف عن مطاردة الغيوم.. ولم أفهم ما قصده بالضبط من هذا الكلام، إلا أنه تابع قائلاً: يبدو أن أبناء البادية السمر لا يعجبونها.. فعسى أن ترزق رجلاً أبيض..

قال منادي متأثراً: وهل أدركت ما يقصده هذا الخبيث يا أبي؟

قال الأب: والله يا ابني خطر لي عدد من الخواطر.. فالبادية فيها رجال بيض.. وهذا أول ما تبادر إلى ذهني.. إلا أن أسلوبه القذر في معاملتي، جعلني أشك بكل كلمة يقولها.. فخطر لي بناءً على هذا الشك، أن النذل ربما كان يلوح بشيء دنيء في نفسه.. وهو يعلم أنا لا نزوجها إياه زواجاً شرعياً، لأنه كافر ولا يحل لنساء المسلمين الزواج منه.. أما الخواطر الخبيثة الأخرى، فوالله يا بني، لو حاول تنفيذ  شيء منها، فسأجعل جثته القذرة النتنة مرتعاً لوحوش البادية.. ولو قتلت أنا وأسرتي وعشيرتي بالكامل.. وهو النذل يعرف هذا، ورجاله كلهم يعرفون ذلك.. لذا، تراهم يبتعدون عن قضايا الأعراض قدر ما يستطيعون.. كل شيء ولا الناموس يا ابني.. كل شيء ولا العرض..

منادي: وهل ذكر لك شيئاً آخر عن أتباع المدلول.. وعن المقابلات التي أجراها الشيخ مع عناصره في الحسكة والقامشلي..

الأب: لا.. إنما أكد على أنه يعرف كل شيء عن تحركات المدلول وعناصره.. وأنه تصله معلومات دقيقة أولاً بأول، عن كل ما يجري داخل هذا التجمع.. وحين أكدت له أن ابني لا علاقة له بمدلول، قال بلهجة جازمة: إن معلوماتنا لا يرقى إليه الشك، فهي تأتينا من أوثق المصادر..

وهنا خطر لمنادي خاطر غريب، فقرر أن يقوم بعمليات ربط وتحليل خاصة.. فسأل أباه: أبي.. هل تعرف الأصل الحقيقي لصليب!؟

استغرب الأب السؤال الذي طرح دون أية مناسبة تدعو إليه، إلا أنه فكر قليلاً وقال: والله يا ابني أرجح الأقوال حسب علمي، أنهم ليسوا عرباً في الأصل، وإنما استوطنوا في هذه البلاد منذ مئات السنين.. وبعض الناس العارفين بالتاريخ والأنساب يقولون: إنهم من بقايا الصليبيين الذين غزوا بلادنا أيام صلاح الدين الأيوبي.. وحين انكسر الصليبيون في حروبهم مع المسلمين، وعادوا إلى بلادهم، ظل أناس منهم مستوطنين في بلادنا.. وعاش أكثرهم في البوادي بين البدو الرحل، يمارسون بعض الصناعات اليدوية، ويخدمون البدو.. وصار لهم خبرة طويلة في الصحراء، فصاروا أدلاء فيها.. إلا أنهم لا وزن لهم ولا شأن ولا كرامة.. وحتى أن الرجل منا يستحيي أن يضرب أحدهم خشية أن يعير به فيقال: "انظروا إلى هذا الوغد الجبان، ما ظهرت مراجله إلا على واحد صليبي".. ومع ذلك، فإن لهم ملامح غريبة لا تغيب عن فراسة البدوي.. الوجوه، والعيون، والشعر، والرقاب، والأيدي، والأرجل.. كل ذلك يدل على أن أصولهم ليست مشابهة لأصول أهل البلاد.. هذا فضلاً عن الذل والمسكنة، وعدم صيانة الأعراض.. مما لا يعرفه أبناء البادية، ولا يتصورونه.. هذا كل ما أعرفه عن صليب..

منادي: هل هناك عائلات صليبية، زورت أصولها، وانتمت إلى بعض القبائل البدوية؟

الأب: لا أستغرب أن يكون مثل هذا الأمر قد حصل.. ولكنه حسب علمي قليل..

منادي: هل تعرف بعضاً من هذه العائلات يا أبي؟

الأب: في قبيلتنا لا أذكر إلا عائلة واحدة، يقال إنها صليبية في الأصل، اسمها عائلة: اللفاط.. لكنها انتمت إلى قبيلة المداعيس وصارت منها وفيها..

بلع منادي ريقه، وقد تذكر رماد بن نهتان اللفاط.. أيعقل هذا؟ أمر غريب حقاً.. وهمس لنفسه بتوتر: غريب.. غريب..

قال الأب: وقد سمع همس ابنه: وما الغريب يا منادي؟

قال منادي وهو يحاول كتم توتره: لا شيء يا أبي.. لا شيء.. ولكن قل لي يا أبي: كيف كانت علاقة صليب بالفرنسيين، منذ دخلت فرنسا بلادنا حتى الآن؟

قال الأب بتؤدة وحذر: والله يا ابني صليب كثيرون.. يملؤون الصحراء.. ومواقفهم متفاوتة.. منهم من فرج بدخول فرنسا، ومنهم من لم يهتم بالأمر.. إلا أن ضعف نفوسهم، جعل السلطات الفرنسية تركز عليهم لتتخذ منهم جواسيس ومخبرين، ينقلون إليها أخبار القبائل.. وهم متغلغلون بين القبائل بشكل واسع جداً، بين بيطار يحذو الخيل، ومبيض للأواني، وصانع لجم وأرسان للخيل، وصانع أقتاب للجمال، وإسكافي يصلح أحذية البدو.. وغير ذلك من المهن التي لا يستغني عنها بيت في البادية.. وقد استغلت فرنسا هذا التغلغل بين البدو واستفادت منه.. لكن هل كل صليبي مخبر؟ لا أستطيع أن أظلم الناس، فقد يكون هناك أبرياء لا يعرفون فرنسا ولا تعرفهم.. وإن كان بعض الضباط الفرنسيين يمزحون أحياناً مع بعض رجال صليب قائلين: أنتم أقاربنا.. ثم يضحك هؤلاء وهؤلاء.. وتمر المزحة، دون أن يعلق أحد عليها شيئاً..

تضاحك منادي قليلاً، وقال لأبيه: لو لم يكن للبادية من فضل يا أبي إلا حفظ الأنساب، لكفاها ذلك فخراً..

قال الأب: صدقت يا منادي صدقت.. لولا محافظة القبائل على أنسابها، لكنت ترى صليب هؤلاء سادة في البوادي، يوجهون الناس فيها كما يشاؤون.. إذ يكفي أن يندسوا في القبائل، ويدعوا أنسابها، حتى يأتيهم يوم يصبحون فيه أصحاب السيادة والمشورة والرأي.. فتفسد نفوس الرجال وتموت النخوة في رؤوسهم بالتدريج، حتى يصبحوا أذل من قطعان الغنم.. لكن والله يا ابني أرى هذا العصر عصر سوء.. وقد بدأ فيه اختلاط الأنساب.. والله يجيرنا.. كان الرجل من آبائنا وأجدادنا، لا يتزوج صليبية، ولو ملكته الدنيا بأسرها، خوفاً من أن تخلف له ابناً نذلاً جباناً.. أما اليوم.. فالله يجيرنا.. يكفي أن تكون البنت بيضاء الوجه والذراعين، حتى يركض الشاب من أبناء الوجهاء إلى أبيها يخطبها منه.. دون أن يسأل عن أصلها ومنبتها، وماذا يمكن أن تخلف له من سفلة رعاديد..

ابتسم منادي، وقد كتم في نفسه أمراً.. وقال لأبيه: يبدو يا أبي أن لوفنتال يلفق تلفيقات لا أساس لها من الصحة، بقصد الإرهاب وفرض السيطرة.. وعلى كل حال، ستجدني عوناً لك في كل خير إن شاء الله.. ولن نترك مجالاً لهذا الفاجر، ليعبث بأعصابنا، أو يسخرنا جواسيس لديه.. فهل تأمرني الآن بخدمة يا أبي؟

قال الأب: بارك الله بك يا بني.. لا أحتاج منك شيئاً الآن.. لكن أدرس لي الموضوع جيداً، لنناقشه فيما بعد معاً.

كانت الشمس ما تزال تحتجب وراء الغيوم البيض وتظهر.. والنسمات العليلة البادرة، ما تزال تهب بين آونة وأخرى.. وصوت الأم داخل البيت يخاطب ظبية بحنان: الله يحفظك يا بنتي، ويريح بالك.. ويمن عليك بالصبر والسلوان.. وظبية تلح بضراعة: أرجوك يا أمي.. أرجوك.. إذا رأيت غيمة سوداء، فأخبريني..