الزمن الجريح

نعماء محمد المجذوب

رواية: نعماء محمد المجذوب*

(19)

كانت شخصية ليلى تنمو في اتزان واتساق، والنور يطوف حول وجهها الأسمر بإشراق مضيء، يزينه الحجاب، فيمنحها تألقاً، كانت حياتها تخلو من أي نكد أو كدر، من لفظ أو سلوك، فكسبت احترام من يختلط بها.. لها أحلامها البعيدة، فرضا الله سيد الأحلام، تناله بالتقوى.. كافحت من أجل أمها وأختها، وأضفت على البيت برعايتها جواً من الأنس والبهجة.

كان المذياع يردد أخبار الوطن، أطفال ونساء وشيوخ يقتلون، وأراض تجرف، وأشجار تقلع، وبيوت تهدم، وحقوق تهدر، ونجوم الوطن تهوي أسرى بأيدي العدو.

استحوذ عليها الأسى، صرخت بصوت ندي بالدموع:

- هنيئاً لمن يقتل في سبيل الله، هنيئاً للشهيد، استبدل الموت بالحياة، ونعيم الآخرة بمتاع الدنيا.

كانت الضحكات تتلاشى من وجه أحلام، وفكاهتها تهمد، وخصلات شعرها تتهدل على جانبي وجهها بعبث، وآمالها تموت، فتستسلم لليأس بمرارة.. نظرت إلى خيالها في المرآة، شعرت بشبابها يشيخ قبل الأوان، حتى ظلال الذكرى تعشعشت في داخلها كالعنكبوت تمد خيوطها حولها، لم تستطع التفلت منها، وطغت عليه الأفكار الضالة، وحالت بينها وبين الهداية، وكانت حياتها مخضرة بالحب، ثم أجدبت.

لم تستطع أن تنسى اللحظات السعيدة مع سمير، حين كانا يتناجيان، ويتعاهدان على الإخلاص، كان شعاعاً في قلبها الحر، وأغنية على شفتيها، وصدى على ورقها، لم يخطر في ذهنها يوماً أن تتبدل الأيام، وتتعذب، ولم يخطر لها أن في نفسه شراً استشرى في خداعها، وتتساءل:

"أهكذا أخسر كل شيء؟".

التقت بإحدى رفيقات الفكر، لمحت السخرية بوجهها، سألتها أحلام عن حالها.. سكتت طويلاً، ثم سمعتها تبكي بحرقة.

- هل من شيء؟

- غامرت مغامرة مسلية، فخسرت.

- كيف؟ مع من؟

- مع كهل جرب كل شيء، وانتهى من كل شيء.

- لماذا؟

- كنتُ قد تركتُ نفسي على سجيتها.

- وكنتِ الخاسرة، ويئستِ من كل شيء، أليس هذا ما حصل؟

- أجل، وأنتِ؟

سكتت أحلام لحظة، لم تجب، سُمع صوت لهاثها، ثم قالت:

- لقد اخترنا طريقاً يائساً، خاسراً.

- لقد فقدت القدرة على أن أعيش كما أشتهي، أفكر في أن أموت كما أشتهي.

- كلانا في الهم سواء.. ويبقى حلم العودة يهيم على شفاهنا.

- هل يمكن أن ننسى؟

- الدنيا أيام وأنفاس يا رفيقة الفكر والدرب، والوساوس تركبنا، وتدفعنا إلى الهاوية، ويلبسنا الخوف، ويستثيرنا الغضب، وتموت العزائم، والنصر الذي نأمل بعيد.

كانت خطوات ليلى تقترب منهما، سمعت آخر الكلام، فقالت:

- لن تموت العزائم، النصر وعد من الله قريب، ولكن..

- لكن، ماذا؟

- للمؤمنين فقط، وليس للكافرين الجاحدين.

هوت أحلام نحو الأرض كحجر هوى، كتلة من تمنيات ومشاعر، رفعتها ليلى وهي تقول:

- تمني ما تشائين، الأماني تخفف من حدة اليأس، واليأس تبدده الأفكار والأمنيات.

كانت مشاعر أحلام تزداد خصوبة في أحضان الليل، وداخل النفس. في البيت اعتزلت بركن هادئ، توارت عن أعين أمها وأختها، حلقت بخيالها، استغرقت في التحليق بلذة، بعيدة عن الواقع الذي يدفعها في مسالك خطرة، قارنت بين حالها وحال أختها، رأت هدوء ليلى وتصرفها السليم، والبراءة من الفساد، رغم أنهما تشتركان بعالم واحد، ولكن طريقيهما متناقضان، ليلى تنشد الاستقرار والانسجام مع قيم المجتمع التي تعتقدها في قرارة نفسها من غير ضغوط أو إيحاءات من الآخرين، ووفقت في ذلك، فعاشت في أمان وسلام، وأحلام تنشد الاستقرار بجو تخططه لنفسها، ترى فيه الانعتاق من كل شيء، واستبداله بآخر لا يمت إلى تراثنا بشيء، فكان أن اضطربت وبقيت بلا أعمدة ترتكز عليها، وآلت حالتها إلى الضياع.

بدأ النفور يدب بين الأختين، بدل التواصل والتكامل لم يتغلب الحوار على الصدام والفوضى في الأفكار، ولم تصلا إلى قرار حاسم، النفور يبعدها عن ليلى، وليلى تبعد عنها، غلب على أحلام أنها قد غدت وحيدة، أحست بنفسها كصحراء لا حياة فيها، ولكن الصحراء كانت في قلبها وحدها، تشعرها بالمرارة، لا أحلام، ولا أجنحة تحلق بها، ولا غيوم تبللها بقطرها، أحست بالذبول، وصار اليأس سيد نفسها، وانكمشت على ذاتها، أفكارها الإلحادية أبعدت عنها شفافية الأفكار، طاشت سهامها في جنون، وصار الهتاف أمنية، وظل سمير في خيالها لا يبرحه.

تساءلت: هل يحس بالوحدة مثلي؟

كان ميلاد حبها بغير حسبان، باحت به شفاههما بغير أوان، عاشا في سلام، ثم غرقت وحدها في بحر من الحداد، يزيدها أرقاً في الليل، نهضت صباحاً، مشت ببطء، سألتها ليلى عن حالها، فقالت:

- أرتحل في الليل أبحث عن لؤلؤة ضاعت مني.

- هل وجدتها؟

- عدت بحصى، بحجارة تلسع كالنار، تقتلع السكينة من نفسي، وتورق فيها أدغالاً حزينة.

- إذاً لم التعب والارتحال؟

- أشواقي ترمي بي في الآفاق، كي أبحث عن كنز ضاع مني.. هكذا حلمي يومض في العتمة بعد أن انطفأ المصباح، ينتزع حياتي من الموت، ويفرض الحبور على نفسي، ويبعث فيها العافية.

- هكذا الصبايا يهربن من الواقع إلى عالم الخيال، ثم لا يلبث الخيال أن يخبو ضوؤه مع شعاع الشمس، فيهدم كل ما بني.

- ما أروع الليل، يهدي لي نجمة تتلألأ على حافة النافذة، تلقي علي شروداً يحلق بي بعيداً إلى من أحببت.

- انسيه يا أختي.

- نسيانه يعني لي الموت.

سمعتها ليلى تبكي بحرقة، وبصوت هامس تقول:

- لا لم يمت.. تجسد في جسدي.

الحياة كالومضة الخاطفة في الزمن الطويل.

كانت بمجرد أن تغلق دونها الباب، تقترب من الورق، والريشة بين أصابعها ترتعش، ترتعد، تقف أناملها عن الرسم، وتغدو الخطوط في عينيها سوداء، رمادية، تتخطفها الأحاسيس، وتلبث لحظات، ثم تهبط بمشاعرها على الورق، وتسمع لريشتها حفيفاً رائعاً، ولمسات حانية.

"سمير، أريدك أن تطل من بين الغيوم الداكنة،... أن تسمع صوتي، ونداء نفسي، أظنك كنت تمازحني عندما قلت لي: ألاَّ أنتظرك.. أرى حياتي بك.. في شذاك الذي يسري في أحشائي"

كانت الريشة ترسم وجهاً ملائكياً لطفل ضاحك بين شعاع الشمس، سمير الطفل، تحدق فيه، ينعشها الأمل، يهبط الوجه رويداً، رويداً نحو الأفق، وجفناها ينسبلان معه، ثم إذا بريشتها تغرق في أفق البحر، ووراء الأفق يختفي الوجه الأمل..

تأوهت وهي تقول:

الحب مذل.. بمرارة تساءلت: هل رفعتني مبادئي، أم هبطت بي إلى الأرض؟.. حالي يغني عن سؤالي.

لم تتغير أحلام مع الأيام، منعها الهوى من التغير، بقيت متشبثة بأفكارها، ولا تزال الصدمات تذيب البقايا المتماسكة في نفسها، تتراكم في عقد، حاولت أن تخرج من سياج نفسها من خلال التأمل في الكون، رأته فضاءً واسعاً فضياً لم يثر  فيها خشوعاً، بقيت ملتصقة بالأرض، عبارات تلقتها من رائدها: أن لا إله والحياة مادة، والطبيعة أوجدت نفسها، لذا لم تتصور خالقاً لها.

تأملت وجهها في المرآة، لم تكف عيناها عن التحديق. في صورتها شحوب، عينان تغوصان في بحر الماضي، تنفصل عن حاضرها، توقفت عند كل حدث، دارت بها الغرفة، صرخت، اصطدمت صرختها بالجدران، لم يسمع صراخها أحد، النافذة مغلقة، وفضاء الغرفة ساكن.. كنارى ليلى كان يمكن أن يتوقف بصخبه على صراخها، تفحصته، تساءلت:

"هل أصابه رعب فأخرسه؟.. ربما." ثم أخذ يصخب داخل قفصه يقفز بمهارة، مستمتعاً بحياته، ثبتت نظرها فيه، كأنها تراه لأول مرة، تعجبت من أمر نفسها، ماذا دهاها؟ تمنت لو كانت مثل هذا الطير، وهو يقفز في سجنه، يغني، يمرح، ينتظر رجوع ليلى، باستغراب سألت: "لم لا أكون مثله؟"

أوقفها معنى الانتظار.. انتظار من تحب، استرجعت المواقف البهيجة، حينما كانت تنتظر أباها، يعود وفي يده بندقية، وفي الأخرى هدية، يغمرها بحنانه، يجري وتجري خلفه، وتنتشر ضحكاتها في كل مكان، ثم تتوقف عند فوّهة البندقية، تتراجع إلى الوراء.... مواقف الانتظار تمر بذهنها بلذة حيناً، وبضيق حيناًَ آخر، تتأوه، بألم تتساءل:

"هل يمكن أن أنسى سمير؟... لا يمكن. وهل هو كذلك؟.. ربما" سيستمر الانتظار.. أطلقت عينيها من خلال النافذة، لتلتقي الأفق البعيد، وترقب الريح الثائرة، ثم لترقد في الحقول، وبين الشجر.

انتاب الأم هزال شديد، انتهى بغيبوبة طويلة.. أفاقت.. صمتت.. ابتسامة مصطنعة لاحت على وجهها، كانت جامدة، لم تستطع أن تموه عن الحزن.. دمعات تعلقت بحلقها، كتمتها عن ابنتيها، ودت لو أنها تمنحهما شيئاً من الفرح، وليلى تنظر إليها بخوف، وأحلام تحاول الهرب من كابوس كل ليلة، وتتفتق مشاعرها في رسومات تشحنها بمشاعر عميقة، شفافة.. كان النعاس يلتهم عينيها وهي تحاول أن تسمع صوت أمها.. النهار لا يأتي وحيداً، كل متاعبها تتعلق بذيله..

اقتربت من أمها لتناولها الدواء، لم تعد شفتاها قادرتين على التعبير عما يدور بخلدها، ولم تعد يداها تقدران على رفع شيء، تخفيها العتمة، وتسبت نهاراً، تطمئن للنور، ويفيض وجهها بإشراق خفي وهي ترى ابنتيها تخطران أمامها، تتحدثان، تتحاوران، تتراقص الخيالات في ذهنها منذ أن كانتا طفلتين، تطوفان حولها وحول أبيهما،.. ثم تعيش القهر، ويبدأ عهد استرجاع اللحظات السعيدة، ويملأ نفسها الغيظ، وتنطوي على مقت وكره.. ممن؟.. من يدري؟.. الأسباب متنوعة، في صدرها أشياء كثيرة تريد أن تقولها.. كانت نظراتها تائهة، ضبابية، فقط يرعشها الشوق المكلل بالبسمة الباردة،.. فتحت عينيها، نظرت إلى ابنتيها، ضباب يجللهما، كلمات ترددها: تفرق الجيران والأصحاب في رقع الأرض.. كانت حارتنا في نابلس من بين أكثر الحارات حماسة للمقاومة.. الجيران كانوا كالأهل".صمتت.. خيال يمتد أمامها، ابتسمت، حملقت... مدت يدها، إنه فهمي أبو البنتين، تكاد أيديهما تتلاقى وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة.. ثم يتراجع، اختلطت الابتسامة بمرارة الفراق.. لماذا يأتيها، ويوشك أن يتلاقيا، ثم يبتعد؟.. أهو الشوق أم لحظات الاحتضار؟

أحست الأختان ببرودة نظراتها، توقف الدواء في حلقها، حتى الجسد خانته الحركة.. هدأ الجسم الهزيل.. غاصت النظرة، ثم انطفأت.

(20)

قالت أحلام لأختها:

- ما أصعب أن يهاجمنا النوم حين تقيدنا الرياح الباردة بالصفير والارتعاش!..

تذكرت أترابها وقد غادرتهم في الوطن، تصورتهم فبكت، بكتهم جميعاً، اكتشفت أن كل واحد منهم كان يأخذ جزءاً من قلبها قبل أن ترحل، تمنت أن تعود الأيام إلى سابق عهدها.

أصبحت كأن وحشاً دائم التوتر ينهش في داخلها، وإحساساًَ قاسياً بعدم الأمان يبدو في عينيها، ويكاد يقفز مع كلماتها، وإشارات يديها، إنها تكتم مشاعر مصحوبة بالخوف المعذب من المستقبل، لقد اختفت أمها من حياتها كما اختفى أبوها، وكما اختفى سمير، تسلل اليأس، والاكتئاب إلى قلبها، وأصابها الذهول حين تذكرت الموت يزرع في كل بيت في فلسطين، ثم هنا، ارتجت رجلاها، واجهت بذكر الموت عتمة غرفتها الباردة، كانت تظن أن عينيها نضبتا، ولكن عاودهما البكاء يهطل بغزارة.. وأصبح الموت قضية يخترق بركان روحها.

تلقت ليلى الصدمة بتأن، واسترجاع لله، غذى الإيمان أعصابها وإرادتها، قالت لأحلام تهدئها:

- هكذا الدنيا حياة وموت، إعمار وفناء، المؤمنون في إعداد واستعداد لما بعد الموت.. تقبلي الأمر بمنتهى الواقعية.

بيأس هزت رأسها وهي تقول:

- هل تدفع مصيبة جديدة المصيبة القديمة، أم تتراكمان؟

أقبلت إليها ليلى وهي تجفف أعضاءها من أثر الوضوء، وقالت:

- لماذا تعدين المصائب، وتنسين نعم الله عليك؟... لا تستسلمي لهدير اليأس، بمقدورك أن تبتعدي عن هذا الشعور، مهما تنوعت الأسباب.

- فعلاً، أشعر بما تقولين، لقد حطمتني الصدمات، وأرهقني التفكير... ثم استطردت مرتعشة كما لو كانت قد مسها الموت بقشعريرة.

وحبي الأول كان فترة مضيئة في حياتي، انطفأ كشمعة.. هوى قبل الأوان، كبرعم سقط قبل أن ينضج منفصلاً عن غصنه، كان كزهرة متشوقة للحياة،.. للأسف كان بين تقاليد كالأشواك.

لم تجرؤ ليلى على أن تهمس بكلمة، صمتت، تعرف أن نصحها يجرحها، واصلت أحلام أنينها في كلماتها:

لو استمر حبنا لكنت كمنال، أنعم في بيت جميل مع من أحب.

قالت ليلى:

- كل شيء قسمة ونصيب يا أختي.

- أهذه قسمتي، أن أحرم من كل شيء؟.. هل شاهدت بيتها؟.. يستريح فوق تلة، شرفاته على شاطئ البحر، كان من اختيارها، وزوجها ملك يديها، ضحى بصلته مع خديجة خطيبته ليتزوج منال، وترك الأولى تلعق مرارة الأسى.

ثم عضت على شفتها بغيظ وقالت:

- أشعر وكأنني عجوز تقترب من نهايتها.

لم تجد محاولات ليلى في تهدئتها، ربتت بخفة على ظهرها، وهتفت مشجعة مهدئة:

- أين مرحك؟ قتلته بيأسك، هيا لنذهب إلى الريف، له مفاتن، والفلاحات فيه تصنع الخصب والحياة، ثم نعرج على بيت عمنا خيري... هيا ابتسمي.

- من أين تأتي الابتسامة، فيما تعتصر المصائب طيبة الإنسان، الابتسام صعب في الأيام الصعبة.

- أتعلمين ما السبب؟

- ما هو؟

- خواء قلبك من دوافع الإيمان.. إذا خالط الإيمان قلبك غير من تصرفاتك، وقيمك، وموازينك، واهتماماتك، وأحال جحودك بالله اعترفاً بفضله، وشكراناً.

- في هذا نحن مختلفتان.

- الإنسان بغير إيمان حقير المطامع، صغير الاهتمامات، مهما كبرت أطماعه، واشتد طموحه، وسمت أهدافه، فإنه سيظل ملتصقاً بالأرض، مقيداً بحدود العمر، سجيناً في سجن الذات، لا يطلقه، ولا يرفعه إلا الاتصال بعالم أكبر، وأبعد من الحياة الدنيا، وأعظم من الذات:

عالم يصدر عن الله الأزلي، تتصل  فيه الدنيا بالآخرة.

- العقل هو الإله.

- ماذا يحدث في عقلك؟... شيطانك إلى أين يقودك؟

- وأمنا التي ماتت أمامنا، هل سهل وقع الحدث في نفسي؟

- كانت في صراع مع المرض، وموعد مع الموت، والموت يأتي في النهاية.

- وحبي الذي مات؟

- أحياناً يمهد الحب الكامل، ولكن المحب ينهض بعد تعثر، ويبدأ من جديد.

- أنت يا ليلى تختلفين عني في كل شيء.

- فعلاً، فأنا لا أزال أستقبل الصباح بسلام، فانخفضت في جوانحي عوامل الأسى، والتآمر على الوطن.

- هل أنا أتآمر على وطني؟

- ألا تفكرين بأن تستبدلي المكر والتآمر بآخر فيه احتلال إسرائيل؟

- أحلم بوطن تسوده المحبة، والسماحة، ترفرف عليه أعلام الإخاء الإنساني.

- لا يكون السلام إلا بعد جهاد طويل، ومرير.

- أملي أن ينقذ الغرب وطني الذبيح.

- كيف؟ وهم الذين زرعوا إسرائيل في فلسطين؟.. هم يرسخونها بكل ما أوتوا بقوة.. سأحدثك عن الحمامة التي حملت غصن الزيتون، وعادت به إلى نوح عليه السلام، التي أطلقها من السفينة لترتاد الكرة الأرضية حالة الطوفان، فلما عادت ومعها هذا الغصن عرف أن الأرض انكشفت بعد غرقها، وأنبتت، ونحن نعلم أن السلام سيعود إلى فلسطين بعد الجهاد الطويل.

- ونبقى في الصراع؟

- لم يعرف التاريخ صراعاً يكاد يكون متصلاً حول بقعة في الأرض، كما عرف على أرض فلسطين.. فلسطين ليست مجرد أرض ووطن ومراتع طفولة وذكريات وحسب! إنها الأرض المقدسة التي عاش فيها الكثير من الأنبياء، فمنحوها القداسة،.. ولذا كانت منذ القدم محط أنظار المسلمين، والمسيحيين، واليهود على السواء.

- أرى الأمر يختلف في هذا العصر.

- أجل، تعرضت فلسطين للغزو من قبل اليهود ليس لغرض الاحتلال فحسب، ولكن لغرض الاستيطان على المدى البعيد، مندفعين بتحريض التراث التوراتي الذي يجعل فلسطين وما جاورها "أرض الميعاد"، يغذيها فكر صهيوني عنصري ينكر وجود أي شعب آخر غير "الشعب المختار" كما ينكرون وجود أي حضارة أخرى على أرضها غير حضارتهم، وقد سخروا كل شيء لهذا الاعتقاد، ورسخوه في الأذهان بكل الوسائل المؤثرة، ويحاولون أن يطمسوا أي أثر لوجود حضارة أو حضارات أخرى فيها.

- إذن ينكرون أصالة الشعب الفلسطيني؟.. شيء رعيب.

- قرأت قول المؤرخين بأن الكنعانيين جاؤوا إلى فلسطين في أكبر موجة عربية خرجت من الجزيرة العربية قبل الميلاد بألوف السنين، واستوطنوا في لبنان وفلسطين، وسيناء، كما انحدر جزء منهم إلى مصر، إذ جاءوا من سواحل الخليج العربي، من الأطراف الشرقية للجزيرة العربية، حيث كانوا يقيمون بادئ الأمر، وقد حمل الكنعانيون معهم أسماء المدن، والأماكن من شرقي الجزيرة إلى بلاد الشام موطنهم الجديد.

- إذاً فلسطين عربية.

- أجل، عربية إسلامية، ولا يرد الطغاة عنها غير الجهاد في سبيل الله، لا يسار ولا غيره، ولا يهز الأرواح غير الإيمان بالله.

- نحن في زمن يتكاثر فيه الاكتئاب والقلق بسبب الأوضاع الراهنة. لماذا يروج لعشرات العقاقير باعتبارها الحل الأحدث ضد القلق؟

- ألسنا في عصر القلق؟

- هل هناك حل لهذا الإشكال غير العقاقير؟

- لا تكوني دائمة الإبحار في همومك، افلتيها من يديك.

- يصعب عليّ ذلك، أشعر بلذة في استرجاعها، وتقوي فؤادي بالحنين بمجرد ما أمسك بطرف منها.

- حاربيها بريشتك، وبالألوان، في الرسم تنفيس عما بك، والشتات تلملمين أبعاده فوق الورق، وإلا فتت الهموم كبدك، ولا شيء يستحيل على الخيال.

أنقذي بالخيال عمرك من الوهم، ومنّي النفس بالمنى.. لا تدرين.. قد تتغير ظروف حياتك، وتضيء منارة الهدى خطاك، ويتوقد الحنين إلى الإيمان في صدرك، ولا يبقى من الماضي إلا رماده، وذكرى لدمعة.

- هيا لنذهب إلى الريف، ثم إلى بيت عمك.. لا تتمهلي.

- اذهبي وحدك، أما أنا فسأبقى.

أرادت أحلام أن تختلي بنفسها مع ريشتها، أسعفها البوح بمكنونات نفسها على الورق، بعد أن أوشك أن يتوسد النسيان، نظرت في المرآة، رأت وجهاً يشبه وجهها، وأحست بنبض يشبه نبضها، يكاد الدهر يأكل ما بقي من جمالها.

نظرت إلى ما رسمت.. أمّ ترقد بجانبها الأدوات والسلال، وطفلة تلعب.. الأم تأكل مما تزرع في قطعة الأرض التابعة للبيت، تلبس مما تحوك، وتخيط، والحياة تسكب في نفسها الطمأنينة ورجاء النصر، ونسمات تلاعب أغصان الزيتون، وسنابل القمح.. تقف أحلام أمام هذه اللمسات، وتردد بشوق: هل يعود زمن الحكايات البهيجة؟.. حياة متواضعة في الوطن توحي بالحبور والبهجة، والسعة والفرح.

أسعفها نقرات على الباب، وصوت رفيقتها تنادي باسمها. أدركت أحلام تأجج فضولها في السؤال عن سبب غيابها عن الاجتماعيات.

- هل سأل عني الرفيق الرائد، أم أتيت لتطمئني عليّ؟

- لسببين.

- اليوم بالذات أنا تعبة، بحاجة إلى التنزه.

- صباح اليوم ربيعي بهيج، يشدنا ببريقه المتألق في كل شيء، في الطريق سألتها الرفيقة:

- أراك كثيرة الاعتزال.

- أجد نفسي غريبة هنا، الغربة تسحقني، ولم تعد الأسرة تألفني، ولم أعد آلفها.

- لماذا هذا الانقلاب في سلوكك؟ أمر يدعو إلى العجب.

- نحن رفيقتان في درب اليسار من سنين، ألا تشعرين بما أشعر به؟

- نوعاً ما.. تريدين الحقيقة أو جانباً منها؟

- الحقيقة كلها.

- خروجنا عن قيم الدين، وتقاليد البلد هو السبب الأول، والسبب الآخر الأفكار الجديدة المزوقة التي أعمت بصائرنا.. لا أخفي عليك، الأهل يخشون على بناتهم من العدوى.

سألتها أحلام:

- ألا يرفقون بي؟.. ألا يستعيدون ذكرياتي معهم؟

ثم قالت بألم:

- أنا والوطن ذبيحان، كلانا نعيش في أسى وشجى، وطني تنهال فوقه البلايا وتحطمه، ويبحث عن أبنائه بين الركام، وأنا تنهال عليّ البلايا، وتئن نفسي من الأهوال.

بغمز ضحكت الرفيقة وقالت:

- قصة حبك انتشرت في كل بيت.

- هل الحب جريمة أعاقب عليه؟

- تحررك، وخروجك مع سمير علناً، والتنزه معاً على ضفاف النهر، وعند شاطئ البحر، وفي أمكنة مختلفة، وتبرجك، وعرض مفاتنك يعتبر جريمة أمام القيم، وحرك زلزالاً في البلد، تحرك نحوك.

سألتها أحلام:

- ألم تحبي؟

أجابت الرفيقة:

- تحررت من الحب، خشيت على سمعتي من أن تلوكها الألسنة.. بصراحة، كان عليك ألاّ تتجاهلي أخلاق البلد، للأسف كان الهوى يسيّرك، ويجرفك تياره القوي، ويهبط بك إلى الأعماق.

ثم بتفاؤل قالت لها:

- لا تزالين شابة، لك موهبة فذة بفنّ الرسم، تابعي اختصاصك، اقترب موعد تخرجك.

قالت أحلام:

- أنا شابة في نفسية عجوز.. كرهت حياتي.

قالت الرفيقة:

- أردت أن تجعلي الأرض أحلامك، فاتبعت هواك، وتهمشت آمالك وأحلامك، وتخلى عنك سمير طائعاً أو غير طائع، مصلحته فوق أي اعتبار.

كانت سحابة ذات بريق خاطف تمر فوقهما، متجهة نحو البحر، ودت أن تضيء حياتها كضوء البرق.. ولكن البرق لا يلبث أن يخبو ضوؤه.. تريد.. تتمنى، ولكن بغير واسطة.. لم تفكر بالله الذي خلقها، ويقودها.. تساءلت: إلى أين تقودني أمانيّ؟

كانت تنظر إلى قارب فوق سطح البحر ينزلق بنعومة، ثم تعترضه موجة عاتية تقلبه، فتغرقه.. تأملت المشهد.. تعجبت من زورق آمن يغرق أمام عينيها.. تساءلت بفزع:

"سحابة، برق، عتمة، نور، ظلمة، صاعقة، زورق آمن يغرق.. أهكذا الحياة؟".

قالت لرفيقتها:

- اتركيني على رمل الشاطئ أشم أنفاس النسيم.

- الجو متقلب.

- هادئ حيناً، يتخبط حيناً آخر.

- أتريدين أن تجلسي في لحظة تأمل؟

- أجل، اتركيني أسمع البحر ينادي، ويهرول مع الموج، والريح تولول وتجري.

- لطالما كان البحر بجماله يستدرج المحبين إلى الخطيئة.

- ماذا تقصدين؟

- لكل شيء صوت وصدى.

- أجل، لكل شيء صوت وصدى.

(21)

ارتدت ليلى ثوب الفرح، حصلت على زوج من غير معاناة، أعجب بخلقها وتقاها، رأى في اسمرارها ضياء، وفي ابتسامتها إشراقاً، وفي اتزانها ثباتاً، وفي طاعة ربها نوراً واستقامة، ويسر لها العش الهادئ، ونقلت إليه صديقها الكناري.

مرّ في ذهن أحلام خاطر، تساءلت:

"هل سعادة ليلى بسبب اتزان زوجها اليميني، بحيث لا يرى أجمل منها ولا أبهى".

تذكرت كلمات أختها قبل مغادرة البيت، وكأن صداها لم يزل في سمعها:

- إنك لا تحبين الشفاء من عُقَدِك، تتلذذين بتعذيب نفسك. قد يصل الأمر بك إلى مالا تحمد عقباه.

قلبت بعض الرسومات بين يديها، تأملتها، مرت في ذهنها كلمات ليلى تقول لها:

- هذه لوحة تحمل زخم الحياة، وطاقة المخيلة، وهذه مجردة تدور حولها أسئلة قلقة، وتلك فيها لمسات من الرومانسية.. كم أنت مدهشة في فنك الجميل؟

وتأملت إحداها كثيراً، ثم قالت:

- هذه فيها بارقة أمل، عبرت عن هموم الكثيرات من الشابات المهجرات.

وقتئذ قالت أحلام:

- ريشتي غالباً ما تنجرف مع مشاعري وخيالي.

في لحظة الوداع، وهي تقبل أحلام، سألتها:

- كيف ستعيشين من بعدي؟

تركت الدموع تعبر عن ألم الفراق، ثم قالت:

- لم أفكر في ذلك.. لماذا لم أنتبه؟

*  *  *

كانت أحلام في صعود إلى الردى، تحمل همومها المستحيلة، والوقت يتفتت، وينهار في عينيها، فتذبل منه أجفانها، والغرفة باردة، خاوية إلا من لوحات سكبت فوقها أشجانها، يطل من بعضها من جنبات الخطوط وجه أسمر، ذو عينين متسعتين، شارد الذهن، يوحي بالفراق الأبدي، وغراب ينعق فوق غصن يابس، باستياء تساءلت:

"هل كنت أجري في الغدر والخديعة؟

أجل، وإنني ألبس الخديعة، ولقد لبستني".

طفرت الدموع من عينيها، الماضي يتخايل أمامها، رأت نفسها تواجه المرارة بجراح عميقة، بجنون لذيذ في ماض دفين، دفعها إلى ظل بارد، بلا حبيب، أو صديق، عاداها الناس.. هل لتحررها وتمردها؟.. أكيد..

كثرت لوحاتها في رسم أماكن تذكرها بسمير، سألتها رفيقتها بالفكر:

- أتذكرينه رغم الغدر والفشل؟

- سيبقى وطناً آخر، يتغلغل حبه في أعماقي.

- من دون أمل؟

- من دون أمل، يعزيني نعيق البوم والغراب، ويمضي بنفسي إلى الخراب.

- تعوذي بالله من هذا التشاؤم.

- هذا ما أحس به بعد أن نبذني أهل البلد.

- طبعاً، لأن الأفكار المناقضة لهم تلهو بك.

- وأنت يا رفيقة، ألم تله بك؟

- تركتها، وجدتها سخيفة.

تناولت أحلام الريشة، دارت حول نفسها، وفي كفها الألوان، لترسم أمساً قريباً مضمخاً بالجراح، ضاق صدرها بحمله، أخذت تسكبه خطوطاً، وصوراً على الورق، بنفس متوهجة لا تعرف السكينة.

لم تزل في حبها لسمير، والناس في مظنة سوء، من يبرئها من الاتهامات؟.. أمها ماتت، وليلى غير راضية عن سلوكها، وتزوجت، لمن تشكو معاناتها؟ عمها خيري لا يدري عنها، غارق في عمله، وزوجة عمها امرأة مستعلية، قالت في نفسها: ليس لي إلا معلم الرسم.

لم تعد ليلى تسمع لأنينها، ولم تقتنع أحلام بنصحها، وتنظر إليها فتاة رجعية، متخلفة،.. كانت في صراع بين أفكار رائدها اليساري، وتوجيه معلمها، وكان تأثرها بالأول، مما جعلها تخرج من دائرة القيم والتراث، وتسير من غير ضابط من دين، فكان نموها النفسي شاذاً، وافتقر معلمها للمهارة في معالجة مشكلاتها.

عندما سألها عن سبب نفورها من القيم الدينية، والتراث، أجابته: - لأنها لا تعمل شيئاً لوطني.

أجابها: - ذلك يحتاج إلى مشوار طويل.

وعندما رأى بعض رسوماتها شجعها بقوله:

- إنك تملكين موهبة فنية، وتحسنين اختيار الألوان للتعبير عن مشاعرك، وتشيعين الحزن فيها نتيجة تأثرك بالظروف القاسية، والأحداث الشائعة، وتميلين في بعضها إلى التجريد والتعقيد بما يتلاءم مع الأفكار الجديدة، احتفظي بها كيلا تفقديها، ويصيبها الضياع، واستمري في الإفصاح عما تعانينه بالرسم.

كانت العلاقة مع معلمها طيبة، نجح في تنمية موهبتها، ولكنه لم ينجح في معالجة مشكلاتها النفسية، بسبب عدم تكيفها مع البيئة المحيطة بها، ورفضها الاندماج بوجدان معها، لها عالمها الخاص تريد أن تفرضه على من حولها بأفكار غريبة، وهم لم يكونوا كذلك. يستنكرون من هذه الدخيلة ومثيلاتها تصرفاتهن المشينة، وسلوكياتهن المحرجة.

لم تستمر في الشكوى إلى معلمها، حين وجدت لديه استنكاراً لأفكارها، دل عليه صمته، ومن ثم عدم استجابته لشكواها.. اتخذت من أوراقها سفناً ترحل من مرفأ الذاكرة، وتجول بين مواقف اللقاءات، والأمكنة القريبة والبعيدة، لونتها بجراحات نفسها، ونقشتها بدموعها، كرسائل حملتها نبضات قلبها، وهي ترى مستقبلها يسفك شيئاً، فشيئاً، بألم تساءلت:

"لماذا أضل في أوجاعي، وقيامة المجتمع تهب من حولي، وتحاصرني الاتهامات؟... لست وحدي في الميدان، أمثالي كثيرون.. هل أنا التي أثرت عليهم بسلوكي العاري؟... ربما."

عندما زارت معلم الرسم في بيته، استنكرت زوجته حالها، سألتها وهي تمسك بكفها الباردة:

- كنت في نشاط وحيوية، وضحكاتك تتناثر في كل أذن، وابتسامتك يبتسم لها كل فم... ما الذي دهاك؟

- دواه كثيرة.

- كل مصيبة للمؤمن فيها خير، اذكري الله.

سكتت، بصوت هامس قالت:

- يقولون لي ذلك، ولكن لا أستطيع.

- لماذا؟

- لم شردنا؟ لم احتل اليهود فلسطين، ولم يخلصنا الله منهم؟

- حكاية اليهود حكاية طويلة.

سمع معلم الرسم الحوار، دعاها إلى الجلوس، قال:

- سأحكي لك ما لا تعلمينه عن الاستعمار واليهود بإيجاز:

لقد شهد العالم عام 1492 أفول نجم العرب الساطع في الأندلس، وكان الأفول مولد عام جديد.. النزعة العدوانية الشهوانية، والنظرة الاستعمارية الوحشية متأصلة في دماء بعض قادة الغرب،  فإذا نظرنا إلى الماضي، ووقفنا عند الحاضر، رأينا أشكالاً من الممارسات لا تزال تمارس بالمنهج والعقلية نفسها، فاليهود وما يمارسونه من قتل، وتشريد، واغتصاب للأراضي، وهدم البيوت، يؤكد هذه النزعة العدوانية، والعنصرية البغيضة، هو امتداد للاستعمار، ولكن بشكل استيطان، وليس احتلالاً.. والمد الاستعماري الذي زحف على أمتنا العربية، اتهم الإسلام بعدم صلاحيته للحياة، وكان الدافع للجدال، والنقاش، والأفكار والرؤى التي حملها معه عن الإسلام، تنبثق من تصورات خاطئة عن هذا الدين.

بفخر قالت زوجته:

- العكس هو الصحيح، فالإسلام دين العلم والحضارة، والصالح لقيادة البشرية والحياة.

- ما سر تخلفنا، وانقيادنا للغير؟

- هو تأثر الشباب بالثقافة الغربية، عن طريق الإعلام، والأفكار الإلحادية التي اتخذوها عقيدة لهم. هل الغرب يفرض علينا ثقافتهم، والسؤال:

- هل الثقافة قابلة للاستبدال بأخرى؟

هل نضحي بثقافتنا، وفيها حقنا الإنساني.

قالت أحلام:

- إنها عوامل تطور وتقدم، فما المانع من الأخذ بها؟

- نأخذ منها ما يتلاءم مع ديننا، وبالتقوى.

سألته:

- نسمع أخبار فلسطين، تحول الموت فيها إلى خبر عادي كل صباح، ما موقف الغرب؟

- موقفهم متلعثم، متردد في حسم المذبحة، وهو عار على البشرية.

بتحسر قالت:

- ما أقسى ظروف الوطن!

- تعود الناس أن يحملوا الظروف فيما يتعلق بحياتهم، أو بالوطن، ولست أؤمن بالظروف، الناس هم الذين يصنعونها.

قالت:

- ينبغي أن نتجدد، أن نتطور في مختلف مجالات الحياة.

- التطور والتجدد مستمران في جميع أنحاء الحياة.. ومع هذا ننزعج لأن العصر الحديث تلازمه جرائم، وفواجع، لم تكن معروفة من قبل.

- ما السبب؟

- بعدنا عن الدين.

- ما العمل؟

- بالعودة إلى أمجادنا القديمة... ننهض كما نهض أجدادنا.

- أبا لعودة إلى القديم؟

- أجل، وتقتلعين وأمثالك من اليساريين أفكاركم الغريبة، ذات الأهداف الخفية التي تغيب عنك وعن أمثالك من المخدوعين بها.

أردف قائلاً:

- والجهاد الثقافي والفكري هو أعلى مراتب الجهاد في اللحظة التاريخية الراهنة، والصمود والتحدي بمنهجية محددة، وبرؤية عربية إسلامية.

- سأحدث رفاقي عن ذلك.

- المهم أن تقتنعي، لتقنعي.

- لا أدري... شيء محير، هل الدين والروحانية عوامل سلام أم حرب؟

- كلاهما.

- رأسي يكاد ينفجر.

ودعتهما وهي تقول:

- سأفجره على الورق، بمشاعر جياشة.. لا أدري.. قد تكون مشاعر ممزقة.

مشت فوق الرصيف المطل على الشاطئ، كانت الجبال في الجانب الآخر مكللة بالضباب الشفاف والضياء، والبحر في حالة هيجان، وسفينة تتصارع مع الموج، ثم يموت الضوء، وتختفي السفينة، ومعركة بين الريح والسحب، والشجر، وسحابة تتناثر في الفضاء، وزوارق الصيد والصيادون يتدحرجون فوق سطح الماء، يقاومون ليصلوا إلى الشاطئ، وهم في صراع مع الموت.. صرخت:

"آه.. هكذا صدري، تناقضات، صدمات، معركات لا تنتهي، ضعف، وحدة، تدهور وأنا في عز الشباب"

رددت كلمات، نثرتها في الهواء:

يا ليل الصب متى غده؟

ضحكت وهي تتذكر معنى ردده بعض الموظفين في فهم الصب، على أساس أنه صب المرتبات آخر كل شهر... نظرت خلفها، تساءلت: هل يسمع أحد ضحكتي؟.. اطمأنت، لا أحد خلفها، سوى الريح تدفعها.

في البيت حدثت نفسها:

"أنا الآن وحدي.. أعتاد على الوحدة، فيها تتوهج ذاكرتي.. ذاكرتي رهيبة، أتمتع بها، ولكن أراني غير قادرة على قراءة أي شيء، أو أن أتذكره لفترة طويلة، لماذا يحدث التغيير في ذاكرتي.. حتى لا أستطيع حفظ كلمة إلا بعد تكرارها مرات عدة."؟

خافت أن يتدنى مستواها الدراسي بشكل مدمر، خشيت أن تصبح لا شيء.

شكت حالها إلى ليلى فقالت، لها:

- بسبب إجهادك، وقلقك النفسي، ووحدتك في البيت تؤثر على أعصابك، وتهيج أوجاعك وآلامك، عمك خيري يريدك أن تعيشي في كنفه.

سكتت برهة ثم أردفت:

- أتمنى أن تتخلصي من طريقة تفكيرك السلبية.

- الأيام تمضي، والحبيب الموعود لا يعود.. ليس لدي رغبة في الحياة في بيت عمي، لأسباب كثيرة.

- رغم الأسباب، عليك أن تستقري في بيت عمك.

- لدي مشكلة.

- أعرفها.

- لا تعرفين عنها شيئاً، تكمن في تفكير يلازمني دائماً، حتى صرت أتمنى الموت.

- الموت بالمرصاد للجميع.. قد نموت بعد قليل.

- يلازمني التفكير به كل وقت، لدرجة أنني تعبت كثيراً، وأصبحت أنظر إلى الدنيا بتشاؤم حاد.

- أبسبب سفر سمير؟.. انسيه يا أختي.

- صعب، سمير علق بي، لا أستطيع التخلص منه، سفره كان لي كالموت، غير من حياتي كثيراً، أصبحت أخاف من لا شيء، لا أحس بالأمان، التفكير لا يفارقني.

- علاقة وانتهت لم تعقدين الأمور؟

- آه.. لم تفهميني بعد، العلاقة لم تنته أبداً، أشعر بالهوان، وبتحطم رجائي... حبي جرفني إلى الهاوية.. أفضل أن أبقى هنا، أن أعيش وحدي.

- يا أختي: الإنسان في هذه الدنيا يطوف على مواقف وأحداث مختلفة، بعضها يعلق في الذاكرة فرحاً كان أو ترحاً، وأخرى شذرات تعصف في حياته، فنأسى على التعيسة منها، ونمني نفوسنا بعودة الجميلة، وهيهات هيهات لما مضى، المألوف أن ننشغل في حالنا، لأن المصالح الدنيوية تطغى على العاطفة.

- أمر بديهي، هكذا قانون الحياة.

- أمامك فصل دراسي ثم يكون تخرجك، وتعملين، وتتزوجين، ويكون لك بيت وأطفال.

صمتت أحلام، تحسست بطنها بأصابعها، وهمست لنفسها:

"أنا في عالم آخر بعيد جداً عن عالم ليلى"

تابعت ليلى:

- ما تزالين في مقتبل العمر، ولك شغف بالعلم، ولك فكر ثاقب، ولوحاتك تدل على فن مدهش.. كوني مع الله، يكن معك.

ثم ربتت على كتفها لتقول:

- هيا معي إلى بيت عمك.

- لكن...

- ماذا؟

- نقدهم لاذع، وقسوتهم تجعل بيني وبينهم حواجز كثيفة، تمنعني من الانصياع لهم، ويشتد بي النفور منهم.

وبضيق قالت:

- يشعرونني دائماً بالدونية والاختلاف.

- تغير الحال بعد أن أصبحت وحيدة.

- إن كان لزيارة فلا بأس. ثم أعود إلى مقري، أما إجباري على المكوث عندهم فهذا يزيدني انقباضاً.

 

              

* أديبة سورية تعيش في المنفى