خطوات في الليل(2)

محمد الحسناوي

خطوات في الليل(2)

محمد الحسناوي*

[email protected]

الليلة الثانية

مساء يوم الخميس 5 حزيران 1980

بعد تناول طعام العشاء فتحت الكوة الحديدية في أعلى الباب لزنزانة رقم (13) أطل وجه عسكري جديد. نادى حسان:

- هل أنت حامد؟

- نعم.

- تعال بسرعة.

هذه أول مرة يدعى فيها حسان إلى التحقيق.أتيح له رغم التعليمات الصارمة بعدم الالتفات أو التوقف أو الكلام.. أن يدرك بأنه مطلوب للتحقيق، وأن بناء الزنزانات الخاصة به وبأمثاله منفصل عن المبنى العام الذي جعلت غرف الدور الأول منه لشؤون التحقيق. الحارس المرفق برتبة رقيب أول. قليل الكلام. صارم الملامح. قصير القامة.

أدخله الحارس المرافق إلى غرفة صغيرة، سقفها منخفض ليس فيها إلا المنضدة يجلس عليها رجل طويل القامة عريض المنكبين أسود الشعر والحاجبين والعينين. إلى جواره يقف شاب أصغر منه سناً أمام المنضدة كرسيّ واحد، لا يبعد أكثر من مسافة مترين. وعن الجدار مسافة متر واحد. الجدران نظيفة جداً، بيضاء. الإضاءة قوية.

وراء الرجل الجالس على الكرسي والمنضدة. توجد خزانة حديدية ذات دروج، تستخدم للمحفوظات، تشبه الخزانة التي احتجزت من بيت حسان.

بعد أن طلب من حسان الجلوس خاطبه الرجل الطويل قائلاً:

- اسمك الحقيقي؟

- حامد أبو الفضل.

كان لكلمة (حقيقي) على لسان المحقق وقع عنيف في نفس حسان، لأن الاسم الذي يدعيه غير حقيقي، ولأنه رتب في نفسه ومع ولده مجاهد قصة اعترافات مطولة غير حقيقية، فكيف يفاجأ من أول لحظة بالتشكيك... مع ذلك تماسك وأصر قائلاً ما قال، كما أصر على متابعة ترتيباته الخاصة.

- عملك؟

- مدرس لغة عربية في مدينة حلب.

- علاقتك بالتنظيم الإسلامي وموقعك التنظيمي.

- لا علاقة لي بالتنظيم.

ما كاد حسان يتلفظ بهذه العبارة حتى أهوى الرجل الطويل بيده على المنضدة الخشبية، وخبط بها المنضدة خبطة قوية ارتجت لها أركان الغرفة الصغيرة، وصاح وهو يزمجر، وشارباه يرتجفان:

- أنت كذاب. كذاب!

على الرغم من تعود حسان على أجواء التحقيق ومعاناة الضغوط المتعددة.. أحس برهبة حقيقية، فلاذ بما أوصى به نفسه من صبر ومصابرة ومن تأمل المواقف بعمق، وعدم اللجوء إلى ردود الفعل، والاكتفاء بأقل الأجوبة، وبالصمت ما أمكن. ومما أفاده تأمل المواقف أنه رأى شاربي المحقق يرتجفان بشدة. اكتشف لأول مرة أن من أسباب هيبته وتخويفه هما هذان الشاربان الطويلان الكثيفان الأسودان، لكن ماذا يفعل الشاربان وحدهما؟!

لم يتفوه حسان بشيء. بعد فترة صمت استعاد فيها المحقق هدوءه، ولم يتغير شيء من ملامح حسان، قال المحقق:

- أعيد عليك السؤال. ما علاقتك بالتنظيم.

- لا علاقة لي بالتنظيم.

- في بيتك (كاصة) حديدية ملأى بالأرشيف والوثائق والكليشيهات وعدد ضخم من كتب التنظيم ومن المجلات والصحف، ثم تزعم بأنك لست من التنظيم؟

- لو سألتني عن سبب وجود هذه الأشياء لشرحت لك ذلك:

- وهل هناك سبب غير عضويتك في التنظيم؟

- لو علمت حقيقة عملي لما استغربت وجود هذه الأشياء في بيتي.

- عملك عضو قيادي في هذا التنظيم لا يجادل فيه إنسان.

- هذا مجرد استنتاج لا يستند إلى براهين.

مال الشاب المجاور للمحقق وهمس بـ.........، قال المحقق وهو يشير بيده الطويلة إلى الأمام والوراء:

- أقول لك بصراحة: نحن لا نقبل اللف والدوران، ولا تضييع الوقت، إما أن تقول الحقيقية كاملة، وإما أن نرسلكم إلى جهات أنتم لا ترغبون بالذهاب إليها.

تساءل حسان في نفسه: هل استخدام ضمير الجمع يعني أن إخوانه المعتقلين الآخرين يصرون على الإنكار أيضاً، وهذا ما يتوقع؟ وتساءل: هل هو جاد في تهديده بتسليمهم إلى سلطات بلادهم التي نجوا من بطشها، ويعملون لإنهاء مظالمها؟

- هذه الأشياء وضعتها في بيتي أمانة. ولحاجات العمل لأنني أعمل موظفاً، مجرد موظف عادي.

- أفهم من كلامك أنك مصرّ على الإنكار، ولا تريد أن تساعد نفسك، ولا أن تنتهي قضيتك بسهولة.

مد المحقق يده إلى ناحية في الجدار. ضغط على الجرس الكهربائي فانفتح الباب، ودخل الرقيب أول، وخبط الأرض برجليه وأدى التحية العسكرية قائلاً:

- أمرك سيدي.

- خذ هذا إلى غرفته.

في طريق العودة إلى الزنزانة أخذ حسان يحلل كلام المحقق: (خذ هذا إلى غرفته)، هل تحتمل إمكانية جولة أخرى للتحقيق، أو هي تمهيد لحزم الأمتعة القليلة والتسليم لسلطات بلاده؟ على كل حال إنها لا تعني حتى الآن شيئاً من الإخضاع للتعذيب أو العنف، كما أنها لا تضيء المستقبل.

ما إن أغلق باب الزنزانة (13) وراء حسان حتى بادره همام بلهفة:

- هل حققوا معك!

- نعم.

- ماذا قالوا لك؟

- قالوا لي: لماذا جئت إلى هذه البلاد. وماذا تعمل هنا؟

- غريب! بلادنا واحدة. نحن نذهب إلى بلادكم وأنتم تحضرون إلى بلادنا من قديم الزمان!

- لا بد أن هناك خطأً ما.

- ربما.

- هل ضربوك أو أهانوك؟

- لا، أبداً.

لم يسأله: هل هدَودك؟ ولو سأله لأجابه بالنفي، لأنه بدأ يستمرئ الكذب، فقد كذب على نفسه، وكذب على المحققين، كما كذب على همام، وهو لم يتعود على الكذب، وما يظن بأنه يستطيع التعود عليه. حبل الكذب قصير.

مد همام يده بصعوبة إلى جيبه وأخرج علبة سجائره. وضع إحدى السجائر بين شفتيه الغليظتين، وبدأ البحث عن (قداحة الفتيل) ليشعل السيجارة. فتش جيوبه بصعوبة وبحرص فلم يجدها. أخيراً عثر عليها تحت البطانية التي يتكئ عليها مثل وسادة، وبدأ الدخان يتجول في الزنزانة منبعثاً حلقات من السيجارة، وصنابير من أنف همام ومن فمه. انسجم حسان مع هذا المنظر وتلك الروائح. وجد فيها راحة تنسيه جلسة التحقيق وذيولها، بل أخذ يستهلك ما تنتجه أجهزة همام من سحب وأمطار دخانية. تذكر حسان أنه عاد إلى التدخين في فترة اعتقاله عام 1967 أما الآن فإنه يقاوم هذه الرغبة، كما يقاوم عدداً من الضغوط الحسية والنفسية. واكتفى بمنتجات همام.

"إما أن تقول الحقيقة كاملة، وإما أن نرسلكم إلى جهات أنتم لا ترغبون بالذهاب إليها".

لا شك أن ما قاله حسان ليس الحقيقة كاملة، ولا شك أن لدى المحقق من المستمسكات ما يجعله يطعن بأقوال حسان جملةً وتفصيلاً، لكن هل يقدم المحقق أو المسؤولون على تنفيذ هذا التهديد "نرسلكم إلى جهات لا ترغبون بالذهاب إليها". إنه تهديد شديد، وإن التلويح به كاف لإضرام نار القلق والمخاوف التي لها أول وليس لها آخر.

جوازات السفر أولاً مزورة. والملفات المحجوزة حافلة بالأدلة بالدامغة والوثائق الخطيرة التي تشير كل واحدة منها إلى أن من يمتلكها يحتل موقعاً بارزاً في تنظيم سياسي معارض لسلطات بلده، وهو يوجه مع زملائه أحداث الشارع السياسي كله وبشكل يومي.

قبل يوم واحد فقط كان حسان قد أنجز مع مساعدة فارس ترتيب خزانة الأرشيف من جمع للمواد، وتنظيم وتوثيق وفهرسة، ووضعها ضمن ملفات وظروف خاصة، وعنوانات أبجدية تسهل التعامل معها، والرجوع إليها، وتثبيت تلك العنوانات على كل ظرف ثم في ورقة واحدة. وفيها دراسات عن الجبهة الوطنية والجبهة الإسلامية وعن النقابات والطلاب والعمال والفلاحين والاقتصاد...

أما وجود نشرة (النداء) فإشارة واضحة إلى اسم هذا التنظيم ودوره الحالي، فكيف إذا عثر على أعداد كثيرة وعلى مواد مجهزة للنشر فيها وعلى العنوانات المستخدمة في غلافها وفي رؤوس موضوعاتها الداخلية، بالإضافة إلى كراس يضم مئات العناوين البريدية بالعربية والأجنبية لرجال السياسة والعلم والفكر ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان ورجال القضاء.

وضع حسان يده اليمنى على صدغه كمن يريد أن يقف سيل المعلومات المتدفق. وزفر زفرة طويلة امتصت كمية ضخمة من منتجات همام الدخانية، ثم أطلقها مع تنهدة عميقة لم تفلح في كبح الهواجس الجامحة:

انتبه حسان إلى أن هماماً يخاطبه:

- لا يهمك أستاذ. لا بد أن يأتي يوم يتضح فيه الخطأ ويفرجون عنك.

- إن شاء الله.

لو علم همام أن الخطأ الذي سوف ينكشف هو كذب ادعاءات حسان حول اسمه أو أعماله لما قال هذه الكلمات التي تزيد في إثارة القلق والبلبلة بلا قصد. ثم ما رأي همام برجل فهم الإسلام فهماً شاملاً وتبناه عقيدة وسلوكاً ومنهج حياة وتعرض بسبب ذلك للاضطهاد والمخاطر والهجرة، ثم يضطر إلى ركوب هذا المركب الصعب مركب الكذب، والضرورات تبيح المحظورات، كما أن الحرب خدعة. لكن من يحارب حسان في هذه اللحظات؟!

اكتشف حسان فجأة أنه لا يحارب في هذه اللحظات سلطات بلاده مباشرة بل يحارب الحواجز التي تقف في طريق قضيته وقضية شعبه الصابر المضطهد.

لم لا يقول لهمام إن الخطر المحدق بالإسلام ليس التحريف اللفظي لآيات القرآن الكريم وحسب؟!

لم لا يشرح لسلطات هذا البلد أن حكام بلاده لا يشكلون خطراً على شعبه وحسب بل على شعوب المنطقة وحكوماتها كلها؟!

أطل الحارس من الكوة التي في أعلى الباب ونادى:

- استعدوا جاء دوركم بالحمام.

قال حسان:

- أنا غير محتاج لأنني استحممت البارحة.

- قلت لك أكثر من مرة نفذ الأوامر ولا تعترض. حمام يعني حمام.

 الليلة الثالثة

مساء يوم الجمعة 6 حزيران

مع غروب الشمس فتح باب الزنزانة (رقم 13) أطل الحارس الأسود، وقال مشيراًَ إلى حسان:

- أنت، هات أغراضك وتعال.

لم تكن مع حسان أغراض تذكر غير بدل ثياب داخلية ومنشفة، لكن لديه مجموعة غير قليلة من الهواجس والهموم، فحملها معه، ولحق بالحارس محدثاً نفسه:

- إما الإفراج أو التسليم لسلطات بلادنا.

لم يكن هذا ولا ذاك، بل فتح له الحارس باب الزنزانة "10" وقال له:

- ادخل هنا. وسآتيك بالفراش والغطاء والوسادة.

لم ينس حسان أن يحمل معه أيضاً ممتلكاته الجديدة التي انضمت إلى أغراضه: كوب الماء، وفنجان الشاي وهما من مادة (البلاستيك) المحلي، ومما لقنه همام الاحتفاظ به للحاجة اليومية.

وجد حسان نفسه وحيداً في هذه الزنزانة، فشرع يتفحصه. لم يجد فيها فرقاً يذكر غير تساوي حجم جدارها الخلفي مع الجدار الأمامي، وقوة الإضاءة المنبعثة من المصباح الكهربائي الوحيد في سقف الغرفة، ومن كوة الباب الحديدية المطلة على الرواق حين يفتحها الحارس. وتبين أن الكوة التي بمساحة 25×25 سم تقريباً مشبكة بقضبان معدنية مسطحة ومتقاطعة.

أعاد الحارس فتح الباب وقذف بالفراش والأغطية والوسادة ثم أغلق الباب.

- هذه زنزانة انفرادية إذن، وهذه أول تجربة لي في السجن الانفرادي. كيف حال العيش انفرادياً؟ في حدود علمي أن السجن الانفرادي عقوبة للسجين الذي يخالف أنظمة السجون أو للذي اقترف جرماً خطيراً خارج السجن أو داخله، فأصبح عنصراً خطراً يخشى على السجناء الآخرين من شره. هذا في السجون العادية، فما الشأن في مثل سجني وسجن إخواني الآخرين؟

تذكر حسان أيام اعتقاله عام 1967، وقد مر بثلاثة أنواع من السجون، كان في كل منها يحبس مع مجموعة من إخوانه، ففي سجن الشرطة العسكرية بحي ميسلون جعل في زنزانة تضم خمسة أخوة (أربعة مدرسين وأستاذ جامعي)، وفي قبو المخابرات العسكرية بشارع اسكندرون وضع في زنزانة عشرة أخوة، وهي لا تفتح إلا على (صالون) القبو حيث تنفذ عمليات التحقيق والتعذيب ليلاً، وباب الزنزانة من نوع (سحاب) ليست له نافذة، تفتح دفتاه بالجر إحداهما إلى اليمين والثانية إلى اليسار، لكن حين وقعت حرب حزيران، وملئت السجون بمئات المعتقلين الجدد غصت هذه الزنزانة بمعتقليها لدرجة أن بعضهم قضى الليلة واقفاً على قدميه حتى الصباح.

أما الزنزانة التي قضى فيها حسان بقية أيام اعتقاله عام 1967 فكانت غرفة النظارة في سجن حلب المدني، كانت بالنسبة إلى حسان من أمتع أنواع السجون والزنزانات لعدة أسباب. منها أن بابها مفتوح طوال النهار على ممر جانبي طويل يشرف مباشرة على باحة السجن الكبرى من خلال حاجز شبك معدني غير ضيق، كما أنها قريبة من غرفة الحرس ومن الباب الخارجي، وهي في الوقت نفسه تضم دورة مياه خاصة بها.

- دورة المياه كانت تثير تقزز إخواني لكنني كنت فرحاً بها لسهولة الوصول إليها. (قال حسان في نفسه، وتابع): لكن كيف الوصول إلى دورة المياه في السجون الأخرى وفي مثل هذه الزنزانة الانفرادية الصماء!

أخوف ما كنت أخافه في الماضي أن أعتقل في زنزانة انفرادية، لكنني سمعت من أخي علي صدر الدين طرفاً من ذكرياته في سجن (الشيخ حسن) بحي الميدان بدمشق عام 975، حيث قضى معظم أيام سجنه في زنزانة انفرادية، لا يؤنسه فيها غير خرير مجرى المياه القذرة لدورات المياه، وحركة الجرذان النشيطة فيها.

كم أنا مشتاق إليك يا أخي الحبيب أبا أنس؟! وهل أنت الآن بخير كما أرجو وأتمنى لكل الأحباب؟ في تقديري أنك نجوت هذه المرة من الاعتقال، وأنك الآن طليق تتابع قضية شعبنا العامة كما تتابع قضية الإفراج عنها.

إني لأغبطك على تحملك أيام السجن الطويلة في سجن الشيخ حسن، وفرحتك بالانفراد مع نفسك والخلوة إلى الله تعالى تناجيه وتعبده بصفاء وهدوء، لا تزيدهما قسوة السجن والتعذيب إلا قوة وجلاء. ها أنذا أستعيد تجربتك وآمل أن آنس بالخلوة إلى الله جل جلاله. لطالما فرطت في جنب الله، وشغلت عن الذكر والدعاء بشواغل الحياة التي لا تنقضي: لا إله إلا الله. سبحان الله وبحمده. يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.

عاد حسان إلى تأمل الغرفة وتفحص جدرانها النظيفة عساه يلقى فيها أثراً لمن شغلوها قبله، كما صادف في سجون سورية عام 967 ففي سجن الشرطة العسكرية، وهو أول اعتقال سياسي له شعر بصدمة كبيرة حين أدخل الزنزانة الخامسة، وأغلق عليه وعلى زملائه الأربعة ذلك الباب الحديدي الصفيق في ساعات الضحى من أواخر شهر نيسان. ما إن جلسوا على أرض الزنزانة التي لا تتسع لسجين آخر، ونظروا إلى الباب الذي يواجههم حتى استرعى انتباههم بيت من الشعر مكتوب بشكل واضح على الجدار وفوق الباب:

مشيناها خُطى  كُتبتْ  علينا

ومن كتبتْ عليه خُطى مشاها

إلى هذا اليوم لم أعرف صاحب هذه الأبيات. كم كان وقعه في نفسي جليلاً مؤثراً فهو على بساطته وبسبب بساطته يختصر تجربة السجن والرضى بالقضاء والقدر، كنا جمعين مدرسين، فأنا مدرس لغة عربية، وفاخر مدرس جامعي في كلية الآداب، ومحمد وخالد مدرس تربية إسلامية، وراضي مدرس فلسفة، كلنا أعجبنا بهذا البيت وتدارسناه وصار أحد المحفوظات القيمة في حياتنا داخل السجن وخارجه. من قال إن السجون لا تنفع؟! ولرجال التربية والتعليم؟!

وتذكر حسان جدران سجن المخابرات العسكرية في حلب المسمى (سجن جاسم)، فهو على الرغم من كونه سجناً أو قبواً لا تدخله الشمس أبداً، كانت جدرانه تحمل ركاماً من المشاهد العجيبة الغريبة، لعل أهمها حلقات يربط فيها السجناء من أيديهم وأرجلهم، أو يعقلون بها في السقف، أو يبطحون بها إلى الأرض، وعلى الجدران المتصلة بالباب الداخلي حتى نهاية (الصالون) الذي تطل عليه الغرف الداخلية ما تزال آثار المشبوحين من أيديهم وأرجلهم على شكل ظل قاتم، يعكس صور أولئك السجناء، كما يعكس ظل الإنسان شكله عند انحدار الشمس عن قبة السماء.

- تلك سجون سورية عام 967 فكيف هي الآن عام 980؟ أليس من منطق الحياة والتقدم أن تتقدم السجون أيضاً؟!

سمع حسان دقاً خفيفاً على جدار زنزانته من الناحية اليسرى فأجاب على الفور بدقة خفيفة. جاءته دقتان خفيفتان، فأجاب بدقتين خفيفتين. في هذه الأثناء مر الحارس في الرواق أمام الزنزانة فتوقف الدق من الناحيتين. لما غاب السجان عاد ساكن الزنزانة رقم (9) يدق دقات موسيقية، فأجاب عليها حسان، وهو يستمتع بهذا الحوار الإشاري.

- ما أعظم نعمة العقل والذاكرة ونعمة البصر ونعمة المطالعة، أما نعمة العقل فقد أتاحت لي نعمة تعلم القراءة والكتابة، ونعمة البصر أتاحت لي نعمة المطالعة، ونعمة المطالعة أتاحت قراءة كتاب (ظلام في النهار) للكاتب (آرثر ميللر) الذي ذكر فيه كيفية تخاطب السجناء المتقنين لإشارات مورس البرقية عبر الدق على الجدران التي تفصل بينهم. ونعمة الذاكرة أتاحت تذكر هذا الكتاب وما فيه من وقائع عجيبة.

حين وصلت الذاكرة بحسان إلى هذا السياق أخذه الضحك، وسره أن يضحك وهو في سجن انفرادي، فعمد إلى استرجاع النكتة التي حضرته من كتاب آرثر ميللر:

سمع الرفيق مولوتوف قرعات منتظمة على جدران زنزانته، ولما كان يعرف إشارات (مورس) البرقية فهم من جاره أن يرحب به:

- أهلا وسهلا!

فرد عليه:

- شكراً!!

- من أنت؟

- الرفيق موتولوف.

- أحد قادة الثورة؟

- نعم. من أنت؟ كيف حالك؟

- أنا فلان.

- أحد رجال القصر الإمبراطوري؟

- نعم. ويسرني أن يغدر بك رفاقك كما تأكل الهرة أبناءها.ها.ها.ها.

فتحت الكوة وأطل رأس حارس آخر.

- أنت سجين جديد؟

- نعم.

- من الشام؟

- نعم.

- اسمك؟

- حامد أبو الفضل؟

- أين تسكن؟

- في (الدارة). هل رأيتني سابقاً؟

- أظن!

- ابنك يذهب مع ابني إلى روضة الأطفال.

ابتسم ثم أغلق الكوة وانصرف إلى واجبه.

- هذه ليست كوة حديدية تطل على رواق الطويل الضيق الذي لا يرى نور الشمس، إنها نافذة تطل على (الدارة)، وهي تطل أيضاً على الدنيا كلها، بما فيها من سماء وأرض وأشجار وعصافير، ألا تطل على روضة الأطفال وعلى حذيفة بالذات؟! آه.. يا ولدي الحبيب كم أنا مشتاق إليك؟! هل أنت الآن نائم أم ساهر يقظان مع أمك وأختك. لقد تركتك ساعة المداهمة للبيت نائماً لا تدري أن أباك يؤخذ منك إلى حيث لا تدري، ولا وفي أي وقت يعود. ثم هل يعود؟! ثم أنت الآن –يا حذيفة- صلة الوصل بين السجين والسجان، بين العدم والوجود، فما أحلاك وما أغلاك أيها الملك! ترى هل يتصل هذا الحارس بأهلي ويخبرهم بحالي؟ أم يكتفي بمؤانستي والتخفيف عني؟ على كل حال، المهم أنه تحدث معي، نقلني –ولو بالوهم والخيال- إلى خارج هذه الجدران الصماء والعزلة المطبقة، لا ساعة، لا جريدة، لا راديو، لا كتاب، لا إنسان. لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. استغفرك اللهم وأتوب إليك. اللهم اصرف عني جلسة التحقيق.

حين جاء وقت العشاء وتوزيع الطعام فتح باب الزنزانة "10"، وأتيح لحسان أن يتفرس في ملامح الحارس الجديد ذي العينين الذكيتين المتألقتين بحيوية خاصة، تنطق بها حركات صاحبهما ونبرات صوته، وجده ممشوق القامة أسمر البشرة خفيف الحركة، يتنقل وكأنه يمشي على رؤوس أصابع قدميه، ولولا لباسه العسكري ورتبته رقيب لظن من يراه لأول وهلة أنه رجل رياضي، أو راقص في إحدى الفرق الاستعراضية. حتى قبعته العسكرية يضعها بشكل خاص لم يلحظ له حسان مثيلاً لدى الحراس الآخرين، إنه يباعد بين مقدمة الطاقية وبين جبينه فتميل إلى الخلف حتى تكاد تسقط، مع ذلك تظل متشبثة بشعر رأسه الخرنوبي نصف المجعد الذي لا هو بالمرجل ولا هو بالمهمل.

بعد الفراغ من تناول طعام العشاء أصدر الحارس ذو العينين الذكيتين أوامره للسجناء بالاستعداد لتنظيف الغرف. ولما جاء دور الزنزانة "10" طلب الحارس من حسان أن يحمل الفراش والبطانيات إلى خارج الغرفة وأن ينقل الصابون والماء من الصنبور إلى الغرفة بالدلو، وأن يستعمل مجرفة المطاط لدفع الماء يميناً وشمالاً. ولإخراجه أخيراً إلى الرواق عبر باب الزنزانة. لم تكن لدى حسان الخبرة الكافية في استعمال المجرفة المطاطية وخصوصاً في دفع الماء عبر الإطار الحديدي لباب الزنزانة السفلي، لأنه يرتفع عن مستوى الأرض عدة سنتمترات، فتقدم الحارس الرشيق، وأمسك بالمجرفة ليعطي حسان درساً في تجديف الماء، بل استمر يعمل حتى أخرج الماء من الزنزانة، وأعاد مسح الأرض وزوايا الجدران بقطعة قماش خشن على شكل شبك ملتفة على المجرفة المطاطية، وكرر العملية حتى تألقت أرض الغرفة، وتجددت حيوية التنفس فيها، ثم عاون حسان في نقل الفراش والبطانيات إلى مواضعها، وأتاح له ذلك الاطمئنان إلى أن جلسة التحقيق لن تكن في هذه الليلة كما يرجح.

- إذا كانت الحياة في هذا السجن هكذا، فليس هذا سجناً. ثم هل هذه المعاملة خاصة بي؟ (تساءل حسان)؟

بعد الفراغ من تنظيف الزنزانات وإغلاق الأبواب جميعاً نادى الحارس اثنين من نزلاء إحدى الغرف، وأمرهما بتنظيف الرواق ودورات المياه والممر الذي يصل هذا الجناح ببابه الخارجي. تعمد أن يكون السجينان من نزلاء غرفة واحدة، لأنه لا يجوز أن يتعرف نزلاء الغرف الأخرى على بعضهم، إلا ضمن تعليمات إدارة السجن وضباط التحقيق.

أخذ حسان يتسلى بحركة التنظيف للرواق. تارة يتنصت ليسمع كلام الحارس والسجينين، وتارة يدنو من كوة الباب –وهي مغلقة- ليتلصص من خلال الفرج الضئيلة بين إطار الكوة وإطار الغطاء الذي يغلقها. فيلحظ أحد السجينين حين يقترب من باب الزنزانة "10" وهو مكب على المجرفة، يجذف بقوة ورتابة، مشمراً عن ساقيه وساعديه، لا يكلم الحارس أو زميله الآخر إلا همساً أو بالإشارات.

لاحظ حسان أن السجين الذي يعمل في تنظيف الرواق حليق الرأس، فلم يستغرب لأن ذلك من ترتيبات السجون، فقد سبق له أن حلق شعر رأسه هو عام 967 ثم قيل له ولإخوانه: إن ذك خطأ بحقهم لأنهم معتقلون غير جنائيين.

ابتسم حسان لذكرى حلاقة شعر الرأس في سجن الشرطة العسكرية بحلب عام 967، فقد استدعي هو وإخوانه واحداً واحداً، لحلاقة الشعر على الدرجة صفر، وحين يعود أحدهم إلى الزنزانة يعجب إخوانه من شكله ويستغربونه، ثم يتبادلون النكت والضحكات، لأنهم لم يتعودوا على مثل هذه الحلاقة، ولا على أن يرى بعضهم بعضاً على هذه الشاكلة التي لا تشبهها إلا ملامح المجرمين المحترفين.

تذكر أيضاً أن الحلاق الذي حلق لهم قد همس بأذن بعضهم:

- أنا سجين مثلكم، مضى على اعتقالي ثلاث سنوات بلا محاكمة: أنا وسبعة من أبناء منطقتي جبل الأكراد. التهمة الموجهة إلينا أننا أعضاء في الحزب البارتي الكردي. من أنتم؟ وما قصتكم؟.

- لم يتذكر حسان جوابه للحلاق، لكنه تذكر أنه وإخوانه تواصوا آنذاك بالحذر من كل غريب خشية وجود المدسوسين والمخبرين المموهين.

تذكر حسان أيضاً طرفة أضحكته، كان قد قرأها في كتاب آرثر ميللر (ظلام في النهار)، وهي أن الرفيق موتولوف دعي في سجنه إلى غرفة حلاق السجن. وفيما كان الحلاق يقص شعره من خلفه وضع له قصاصة ورق مطوية تدحرجت من أعلى القميص إلى وسط ظهره، فأحس موتولوف بنشوة مفاجئة، وانتظر أن تكون تلك الرسالة من رفاق متعاطفين معه خارج السجن، يعلمونه شيئاً عن وضعه ووضعهم، وربما يرسمون له خطة للهرب أو للنجاة أو لتغيير الوضع القائم، وأن هذا الحلاق صديق لهم استعانوا به ليوصل إليه رسالتهم ضمن ظروف أمنية بالغة الخطورة والتعقيد. كان ينتظر الفراغ من الحلاقة والعودة إلى زنزانته كي يخلو بنفسه ليفض الرسالة، ويقرأ ما فيها من أسرار مفاجئة وممتعة. حين عاد المسكين إلى الزنزانة وجد الرسالة تقول:

"مت بلا ضجة."

لم يشعر حسان بالمرارة الشديدة التي شعر بها الرفيق مولوتوف، علل ذلك لنفسه أن موتولوف حزين لغدر رفاقه به، ولأنه لا يعتقد بحياة أخرى بعد الموت كما يعتقد هو، بل إنه الآن يضحك استجابة لذكرى عابرة، ويستمتع بتلك الذكرى استمتاعاً حقيقياً. لم لا؟! إنه مؤمن بالله وبالقضاء والقدر: خيره وشره من الله تعالى، وهو في الوقت نفسه يبذل أقصى جهد للعمل بكتاب الله وسنة رسوله وتطبيق شريعته على نفسه وعلى من يعوله، ويدعو الناس بكل وسيلة يستطيعها إلى ما يعتقده، حتى وصل به الأمر إلى الغربة والنفي والسجون واعتقال الأهل والزملاء والاضهاد لجيرانه وأهل بلده وشعبه ظلماً وعدواناً.

- لم الخوف من الموت. يا مرحبا بلقاء الله!

لقد سبق لحسان أن رحب بالموت ترحيباً أشد حين طال سجنه، واشتدت عليه الوطأة في سجن المخابرات العسكرية بحلب عام 1967، ولا سيما في الليالي التي تجري فيها عمليات التحقيق المصحوبة بالتعذيب الجسدي والنفسي في (الصالون) الذي يتصل بزنزانتهم مباشرة، أو في الغرفة المجاورة، التي كسيت جدرانها كلها من السقف إلى الأرض بأغطية لحف منجدة غليظة وكذلك الأرض والسقف، وذلك للحيلولة دون تسرب أصوات السجناء الذين يخضعون للجلد والضرب والتعذيب.. أما رائحة تلك الغرفة وألوان الأغطية القاتمة القذرة فحدث عنها ولا حرج.

في أقصى زاوية من سجن المخابرات العسكرية، أي في المكان المجاور لغرفة التعذيب من جهة ولدورة المياه من جهة، أخرى تقع غرفة مظلمة جداً، لا يذكر حسان أن بابها قد فتح يوماً ما. وكما يقال: هي غرفة تقع في الزاوية الميتة. كان فيها إنسان وصفه من رآه خلسة بأنه أشبه بإنسان الغابة لشدة طول شعر رأسه ووجهه وطول أظافره وشدة قذارته، قيل: إنه ضابط عسكري متهم بالاشتراك في تنظيم معارض للسلطة، وهو مصر على التكتم والإنكار برغم إخضاعه لكل أنواع التعذيب.

يروي آخرون ممن استطاعوا الاقتراب من كوة في باب تلك الغرفة أنهم لمسوا في ذلك الإنسان المحذوف من دفتر الوجود لطفاً وتجاوباً إنسانياً حقيقياً في لحظات عابرة من الزمن سرقوها من الحراس والمخبرين.

حين وصل حسان مع سياق الذكريات إلى هذا الحد انقبضت نفسه، فقد استيقظت لديه ذكرى قراءته لكتاب (الغرفة رقم 6) لمؤلفه أنطوان تشيخوف.

(لقد تركت تلك القصة في نفسي أثراً مأسوياً عميقاً، أرى أثره يتجدد كلما تذكرتها وخصوصاً في أيام السجن، ليس المؤلم فيها الحكم على ذلك المفكر العظيم بالسجن المؤبد في غرفة خاصة من مستشفى الأمراض العقلية وحسب، بل المؤلم حقاً، وباستمرار أن يحكم على الطبيب الذي تعاطف معه، وواظب على زيارته وإطالة الحوار معه حكماً، يقضي بتجريده من وظيفته طبيباً، وبإدخاله مستشفى الأمراض العقلية أيضاً.

(ترى هل كان تشيخوف يسجل واقعة في زمنه، أم يرصد ظاهرة متكررة في تاريخ الاجتماع البشري؟ أم كان يتنبأ بمصير الإنسان في المستقبل؟ أيا كان الهدف الحقيقي لرواية تشيخوف، فإن مما لا شك فيه أن يكون الأثر الأدبي ذا طاقة على الاشعاع الخالد، وعدم الانغلاق على حادثة عرضية بعينها.

(لم أكن أدرك عمق تجربة السجن حتى ابتليت به أول مرة في سورية، ولم أدرك عمق قيمة الحرية حتى حرمت منها في بلادي. لقد كان من نتيجة تجربة السجن ووعيي لقيمة الحرية أن راجعت كثيراً من حساباتي وتصوراتي الفكرية والأدبية والسياسية، وكان من ثمار ذلك كله، أن كتبت ديواناً كاملاً من الشعر الحديث، الذي اتهمت قبل ذلك بمحاربته. أدركت بعمق عظم تلك الهبة التي أنعم الله بها على البشر، ثم لم يكن من البشر إلا أن بادر بعضهم إلى حرمان الآخرين منها. فكانوا متجبرين متألهين على إخوانهم البشر من دون الله.

(إن الله سبحانه وتعالى خلق الناس وأعطاهم ما أعطاهم من عقل وحواس وقوى، وسخر لهم ما سخر من أرض وحيوانات وأشجار ونباتات ونواميس كونية، لا لشيء إلا ليقروا بألوهيته وبعبوديتهم له، ومع ذلك كم يلحد بالله من هؤلاء البشر؟ وكم يكفر بنعمه منهم؟ وكم يفسق –وهو القادر أن يقول للشيء كن فيكون- لم يعجل لهم العقوبة أو العذاب، بل أتاح لهم العيش والتلذذ وحتى التجبر في الأرض، لكن إلى متى، فهل يدركون؟!.

(سبحانك اللهم وبحمدك. لا إله إلا أنت. أستغفرك وأتوب إليك).

في الزنزانة رقم "10" صار بمقدور حسان أن يحس بنزلاء عدد من الزنزانات الأخرى، سواء بعبور نزلاء الغرف "11 و12 و13" أمام زنزانته أو بقربها من الباب الداخلي الذي يقع في منتصف الرواق، بشكل مواجه لدورات المياه والمغاسل وعلى مسافة ثلاث غرف من زنزانة حسان. ها هو الآن يسمع تلاوة القرآن لأحد الذين يؤدون صلاة العشاء، كما يسمع سعال آخرين في زنزانات متفرقة.

- (صنبور الماء لا يكف عن الضجيج. إن صوته في بعض السجون يستخدم للتعذيب وذلك بفعل التكرار وصرف السجين عن النوم أو الراحة. أما هنا فطلب النظافة هو السبب في هذا النشاز المستمر. على كل حال، انعكاسات الصوت خير من انعكاسات الروائح.

(إن هذا اليوم هو يوم الجمعة، يجب أن أبذل جهداً خاصاً لكيلا أضيع تسلسل أيام الأسبوع، لا حرصاً على حساب الزمن –وهو بيد الله- بل لأمور كثيرة ليس أقلها ملاحظة مواعيد التحقيق، والاستعداد لكل جولة بما يناسبها.. تذكر للماضي... تهيئة للأجوبة المتوقعة.. بيد أن ضباط التحقيق لا يعملون يوم الجمعة الذي هو يوم إجازة.

(نسيت اليوم تلاوة سورة الكهف بمناسبة يوم الجمعة، فلأستدرك.)

سرَّ حسان لاستظهاره سورة الكهف قبل اعتقاله هذه المرة، فأخذ يتلوها بإمعان وهدوء، مستمتعاً متفكراًَ، ومحاولاً السيطرة على هواجس التحقيق التي لا تهدأ.

هو يعلم أن السورة تتألف من أربع قصص، تلتقي في هدف أو موضوع واحد يستطيع أن يسميه (بين الإيمان والمادية) أو (بين القوة المصرفة لهذا الكون –هو الله- وبين الطبيعة أو الأسباب).

انسجاماً مع موسيقى الآيات الآسرة –لا سيما حركة الفتح في الفواصل- أخذ حسان يتلو آيات سورة الكهف بصوت مسموع، وهو يتمشى ذهاباً وإياباً في زنزانته. لما سمع قرعاً خفيفاً على بابها فهم أن المطلوب منه أن يخفض صوته ففعل، لم يتوقف عن التلاوة المترنمة، وعن تأمل المعاني المتدفقة التي يأخذ بعضها بحجز بعض. حين وصل إلى قصة موسى والعبد الصالح لم يملك نفسه من أن يرتفع صوته مرة ثانية:

)وإذا قال موسى لفتاه: لا أبرحُ حتى أبلغَ مجمعَ البحرينِ أو أمضيَ حُقبا. فلما بلغَ مجمعَ بينِهما نسيا حوتَهما، فاتخذَ سبيلَه في البحر سَرَباً...(.

سمع حسان قرعاً خفيفاً يتكرر على باب زنزانته، فهم منه الطلب إليه بتخفيض صوته، تضايق من هذا الأمر، فاستمر كأن شيئاً لم يكن:

)فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقَها. قال: أخرقتَها لِتُغرقَ أهلها، لقد جئتَ شيئاً إمرا).

فتح الحارس الخفيف كوة الباب، وقال:

- يا شيخ، يا شيخ. لا ترفع صوتك. ممنوع.

تذكر حسان لأول مرة في السجن أنه ذو لحية، وأن هذا سبب من أسباب تسميته شيخاً فلم يستنكر. تابع التلاوة بصوت خفيض.

منذ سنتين أي في صيف عام 978 كان حسان منكباً على دراسة كتاب (في ظلال القرآن) لاستنباط ما يتعلق بالبحث الذي سجله لرسالة الدكتوراه: (السورة في القرآن): مثل البحث عن وحدة السورة. شخصية السورة. بنيتها الفنية... فتصحيح العقيدة في هذه السورة (الكهف) يقرره بدؤها وختامها:

في البدء: )الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتابَ ولم يجعلْ له عِوَجاً.

قيماً لِينذرَ بأساً شديداً من لدنْهُ، ويبشرَ المؤمنين الذي يعملون الصالحاتِ أنَّ لهم أجراً حسناً.

ماكثينَ فيه أبداً.

ويُنذرَ الذين قالوا: اتخذَ اللهُ ولداً.

مالهم به من عِلمٍ ولا لآبائهم كبرتْ كلمةً تخرُج من أفواهِهم إن يقولوا إلا كذباً(

وفي الختام:

)قل: إنما أنا بشرٌ مثلُكم يُوحى إليَّ أنَما إلهكُم إلهٌ واحدٌ، فمن كانَ يرجوُ لقاءَ ربِّهِ، فليعملْ عملاً صالحاً ولا يُشركْ بِعبادةِ ربهِ أحداً(.

كان حسان في هذه اللحظات يعيش مع هذه المعاني، وكأنه يقرأ سطورها مطبوعة في صفحات ملموسة بين يديه، سره ذلك للتعويض عن حرمانه من الكتب والمطالعة، وهي هوايته المفضلة.

طوال هذه الجولة القرآنية كان حسان في شغل عن هواجس التحقيق التي توارت إلى خلف. انسحبت إلى الطبقات السفلية من بحار الوعي وظلماته، على الرغم من قناعته بأن جلسة التحقيق الأولى غير كافية، بل هي غير ناجحة، فقد كانت قصيرة عاصفة، تعكس الشك بأقواله منذ البداية، وانتهت بغير قناعة لدى المحقق.

تمدد على فراشه ينتهز فرصة هدوء الهواجس. يحاول الانتقال إلى ملكوت النوم العميق ذلك الفردوس الذي ضيعه منذ سنوات. اضطجع على جنبه الأيمن، ووضع رأسه على الوسادة، ومد ذراعه الأيمن تحت الوسادة، واستدعى مشهد قطيع الأغنام الذي بدأت غنماته تأوي إلى الحظيرة واحدة واحدة.

 الليلة الرابعة

مساء يوم السبت 7 حزيران 1980

-1-

بعد تناول العشاء بقليل نودي على حسان، وأدخل إلى غرفة تحقيق غير الغرفة السابقة. هذه الغرفة أوسع من تلك بنسبة مترين طولاً ومترين عرضاً في الأقل، وليس فيها غير منضدة حديدية وكرسيين، أحدهما بجوار المنضدة، وآخر في الناحية المقابلة من الغرفة. وهي غرفة نظيفة، منخفضة السقف، شديدة الإضاءة مثل الغرفة السابقة.

حين دخل حسان الغرفة لم يكن فيها أحد، فطلب إليه الجلوس والانتظار، ففعل. طال به الجلوس، وأخذت الهواجس تغزوه. صار يراجع أقواله في جلسة التحقيق السابقة استعداداً لإعادتها بغير تناقض ولا نقصان. ثم أخذ يتخيل شكل المحقق وموقفه، وتساءل: فيما إذا كان تغيير المكان يعني تغيير المحقق، وفيما إذا كان تغيير المحقق يعني تغيير اللهجة والمعاملة، وفيما إذا كان هذا التغيير وارداً، فهل يلجأ هو إلى تغيير لهجته أو بعض أقواله؟!

لم يدر حسان كم مضى من الوقت. وإن استطال المدة –حين دخل عليه رجلان متوسطا الطول، أحدهما كهل أبيض البشرة أشقر الشعر، قد بدأ الشيب يرسم مؤشراته على شعره اللماع. أنفه الدقيق وخداه يتألقان بحمرة أخاذة، ربما كانت من آثار الكحول. وهو بلباس صيفي: قميص أبيض مخطط وبنطال فضي اللون نظيف جداً. وحذاء رشيق كرزي اللون مصقول حديثاً.

الرجل الثاني: شاب حنطي اللون، أقرب إلى اللون الأسمر من الأبيض. شعره أسود يلبس معطفاً أسود اللون ذا خطوط لطيفة منقطة تخفف من قتامة اللون الأسود، وبنطاله ذو لون بني، ومع ذلك لا يضع ربطة على عنقه. منذ اللحظات الأولى تبين حسان أن الرجل الأنيق الأول هو المحقق، وأن الثاني هو المساعد أو الكاتب.

شرع الأول يتكلم، وهو نشيط يتحرك في أرجاء الغرفة، بينما جلس الثاني إلى المنضدة ممسكاً بالقلم مستعداً للكتابة.

حينما دخل الرجلان وقف حسان احتراماً لهما، فحياه الأشقر، وأشار إليه بيده اليمنى إشارة لطيفة طالباً إليه الجلوس. ثم قال:

- منذ البداية نحب أن نهنئك على هدوء أعصابك وتصرفاتك الطبيعية جداً. أنت واثق من نفسك. وهذا كله يبشر بخير، ويسهل مهمتنا ومهمتك في وقت واحد. نحب أن نوضح لك أننا لا نريد إيذاءكم أبداً، أبداً. كل ما نريده منكم، هو الإجابة على بعض الأسئلة، ثم يكون بإمكانكم خلال ساعات أن تخرجوا أحراراً، تختارون أي بلد أوروبي فتسافرون إليه. كل هذا متوقف على أجوبتكم ما رأيك؟

- جيد.

- هل اعتقلت قبل هذه المرة.

- لا.

- هذه أول كذبة –قال حسان في نفسه- وما أصعب الكذب على النفس!

- أنت متأكد من كلامك؟

- نعم.

- اسمك وكنيتك؟

- حامد أبو الفضل.

- متأكد؟

- طبعاً.

- زوجتك؟

- مهدية.

- عدد أولادك؟

- سبعة.

- صبيان؟

- خمسة.

- بنات؟

- بنتان.

- أين هم الآن؟

- في حلب.

- متأكد؟!

- جداً.

- من يسكن معك هنا في الدارة؟

بلع حسان ريقه، واسترخى قليلاً استعداداً للجواب، لأن هذا السؤال أسهل من الأسئلة السابقة التي جعلته يستوفز قليلاً في مقعده، بعد أن استرخى في بداية اللقاء، نتيجة عبارات الإطراء. إن حسان يمقت الإطراء، لكن مثل تلك العبارات في جو التحقيق والسجن لا بد أن يكون لها أثر ما. تابع حسان:

- أختي وأولادها الثلاثة.

- ما عملك؟

- مدرس لغة عربية.

- أين؟

- في حلب.

- منذ متى؟

- منذ عام 962.

- نعود إلى أسرتك. كم عددها؟

- ثمانية!

- قلت قبل قليل سبعة!؟ (قال الكاتب وهو على المنضدة).

- سبعة بدون الزوجة.

- أسماؤهم وأعمارهم. (قال المحقق).

لم يستطع حسان أن يبلع ريقه، ومع ذلك تابع وهو يدفع الكلمات دفعاً غير مفضوح:

- الأول بسام.

- الثاني؟

- بنت. اسمها فتحية.

- الثالث؟

- محمد.

تلكأ هنا ليتذكر الاسم الرابع قبل أن يسأل عنه.

- لم تذكر الأعمار.

- الأول عمره...

كاد يرتبك حسان من تذكر الأعمار لأنه ضعيف في الحساب، ولأن الأولاد الذين زعم أنهم أولاده في الحقيقة أبناء حميه الذين ادعى اسم أبيهم اسماً له، فتابع بعد مهلة حساب قائلاً:

- ثلاث وعشرين سنة.

- عمر البنت؟

- واحدة وعشرين.

- الثالث؟ الاسم والعمر؟

- محمد: تسع عشرة سنة.

- ألا تلاحظ أنك تتفطن لتذكر الأسماء والأعمار بصعوبة؟

- هل من السهل تذكر الأسماء والأعمار في الغربة وفي مثل هذا الجو؟

لم يشأ المحقق أن يرد على هذا التعريض، بل مد يده إلى جيب القميص الصيفي النظيف، استدار نحو حسان من آخر الغرفة، أخرج علبة السجائر، قال بلطف وهو يلوح بالسيجارة الطويلة:

- هل تدخن؟

- لا، وشكراً.

- دخنت سابقاً؟

- نعم، وتركت التدخين.

- ولم تعد إليه؟

- لم أعد إليه.

- أهنئك على هذه الإرادة.

- شكراً.

- اسم البنت الرابعة وعمرها؟

- ليس بنتاً إنه صبي. عبد الرحمن. عمره سبع عشرة سنة.

- هل هي مصادفة أن يكون الزمن بين كل ولد وآخر مقدار سنتين فقط!

- هذا هو الواقع.

- الولد الخامس وعمره؟

- عبد الله ست عشرة سنة.

- هاه بدأت تدقق! (قال المساعد).

- اسمح لي أن أقول لك: هذه الأجوبة غير مقنعة. دعنا من الأسرة. لماذا تركت عملك؟! قال المحقق.

دفعة واحدة أحس حسان بشعورين متدافعين. الأول شعور بالراحة للتحول عن أسئلة أجوبتها صعبة لكذبها ولصعوبة ترتيبها منطقياً. الشعور الثاني: هو غصة الفراق للعمل الذي قضى فيه زهرة شبابه، فأحبه وتفوق فيه، ثم اضطر إلى تركه بلا سبب من مرض أو عجز، بل تركه في أوج العطاء والتجاوب.

- تركت عملي نتيجة ضغوط الأوضاع المضطربة في البلد.

- وضح المقصود بالأوضاع المضطربة.

- أنا مدرس نزيه مستقيم في عملي. أرفض التزوير في العلامات والرشوة، كما أرفض السكوت على المخالفات والتجاوزات العلمية والمسلكية والتربوية، فعانيت في عملي من متاعب كثيرة.

- مثل ماذا؟

- النقل. التضييق. التحقيق والتفتيش.

- كل هذا لا يستدعي ترك العمل، ومغادرة البلاد.

- فعلاً ليس هذا وحده السبب.

- الأسباب الأخرى؟

- هناك أسباب أخرى تتعلق بالأوضاع العامة؟

كأنما كان حسان ينتظر هذه الفرصة ليعرف الناس على قضيته وقضية شعبه لا سيما أولئك الذين اعتقلوه. تابع

- في بلدنا حاكم فرد مستبد.

- وحزب حاكم واحد.

- نعم. وهو حكم أقلية طائفية. ومجموعات انتهازية، وأجهزة قمع رهيبة.

- كل هذا معروف، وليس ابن ساعة أو سنة في بلدكم.

- الجديد أن الأوضاع تطورت إلى اغتيالات ومصادمات مسلحة واعتقالات واسعة وملاحقات.

- بين من ومن؟!

- بين السلطة والشعب.

- بالتحديد. كل الشعب والسلطة؟!

- من حيث الاستقطاب معظم الشعب ضد أركان السلطة.

- ما دام كل الشعب أو معظم الشعب ضد السلطة أو ضد أركان السلطة، فلماذا لا يسقط النظام؟!

- هذا هو السؤال الذي يحيرني، وأنا لا أفهم في السياسة.

ضحك المحقق ضحكة قصيرة، وأردف قائلاً:

- هل نحن نتكلم في السياسة! نحن نسألك عن سبب تركك العمل.

- في مثل هذا الجو خشيت على نفسي، فتركت العمل، ثم غادرت البلاد.

- وما علاقتك أنت حتى تخشى على نفسك؟

- أنا من هذا الشعب المضطهد.

- لا نريد كلاماً عاماً. نريد أمثلة حسية ملموسة على هذه الاضطهاد النازل بالشعب.

- الأمثلة كثيرة!

- هات.

اقترب المحقق من حسان وفتح ذراعيه في الهواء يغريه بالكلام، وفي الوقت نفسه ألقى نظرة تفحص على ملامح حسان وحدق في عينيه قليلاً.

شعر حسان بارتياح كبير لهذا الطلب، ووعد نفسه بالاسترسال في هذه المسألة، خلافاً لكل ما أوصى به نفسه من تقليل الكلام واختصار الأجوبة، وتجنب المزالق، لأن الكلام القليل خطؤه قليل، وهو لا يعلم على أي درجة من السلم يدوس:

- في الحقيقة هناك أنواع من الاضطهاد. بعضها بحق المدنيين، وبعضها بحق العسكريين. بعضها بحق الرجال، وأخرى بحق النساء والأطفال.

في الجيش مثلاً وقعت حادثة معبرة في عام 1974 موجزها أن الطالب الضابط علي الزير من بانياس كان يؤدي الخدمة العسكرية في الجبهة السورية، وهو متدين حريص على أداء الشعائر الإسلامية، من صوم وصلاة، وبعد عن المنكرات كالخمر والقمار، فلم يسلم من النقد والتوبيخ بسبب هذا السلوك الإسلامي، كان التوبيخ ينصب عليه من الضباط والمسؤولين المباشرين وغير المباشرين، فيحرمونه من الإجازات أو يسخرون من لحيته، أو يتحرشون به في وقت أدائه للصلوات، لدرجة أن بعضهم صب عليه الخمر، وجرَّ بنطاله إلى الأرض حتى تظهر عورته. كان يقاوم ذلك بالصبر والمداراة حتى طفح به الكيل، ولم يتمالك أن حمل سلاحه، وقتل المعتدين عليه، فحوكم محاكمة ميدانية، ونفذ فيه حكم الإعدام.

- هذا واحد.

- وفي عام 1977 كان هناك تمركز للجيش السوري على الحدود العراقية السورية حيث جرت واقعة أخرى شبيهة بالواقعة السابقة. مفادها أن الضابط الملازم الأول أحمد حمير من حوران قد طفح به الكيل أيضاً من اضطهاد رؤسائه الذين كانوا سابقاً مرؤوسيه، وهو أجدر منهم بالترقية لكفاءته، وخدماته الجليلة، وهم عناصر طفيلية لم يشفع لهم في الترقي غير انتسابهم إلى طائفة معينة. ومع ذلك كان الملازم الحمير يداري، ويصبر حتى زاد الضغط عليه، فاضطر للدفاع عن نفسه ودينه وكرامته، فقتل المعتدين عليه، وحاول النجاة بنفسه، لكنه لوحق بطائرة هيلكوبتر، وقتل.

- غيره؟

لا شك أنك سمعتم بقتلهم اللواء محمد عمران في طرابلس لبنان عام 1972، وباغتيالهم الضابط دريد المفتي المسرح أيضاً في لبنان عام 1970، وباختطافهم عام 1970 الضابط المسرح خليل مصطفى بريز (ضابط استخبارات الجولان قبل هزيمة حزيران عام 967). خطفوه من بيروت، وهو الآن في أعماق سجن المزة.

- هذا مؤلف كتاب (سقوط الجولان)؟

- نعم. وهو مؤلف كتاب (ملفات الجولان). والسجون الآن ملأى بالمعتقلين والمعتقلات من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية.

- في كل دولة سجون!

- سجناء بلا مذكرات توقيف وبلا محاكمات طوال سنوات.

- هل هناك تعذيب؟!

- أي تعذيب؟ هناك كثيرون توفوا تحت التعذيب.

- مثلاً؟

- المحاميان مصطفى كمال سماني وطارق حيدري من حلب، ماتا تحت التعذيب في سجون المخابرات عام 967.

- غيرهم؟

- المدرس حسن عصفور من حماة توفي تحت التعذيب. والطالب غزوان علواني، طلبته عناصر المخابرات في بيته، بعد اشتراكه في مشاجرة طلابية في ثانوية التجارة دفاعاً عن حرمة الصيام في شهر رمضان، فلما لم يستسلم للمخابرات قتلوه على باب بيته وأمام أهله جميعاً عام 1975.

- قلت هناك اضطهاد للنساء؟

- أحداث خطف النساء والبنات كثيرة، مثل بعض طالبات الجامعة ومعهد التمريض التابع لجامعة دمشق.

- بالتحديد!

- في عام 976 وبالضبط يوم الوقفة الذي يسبق العيد كانت فتاة دمشقية شابة اسمها غفران أنيس خارجة من سوق الحميدية، بعد شرائها بعض أغراض العرس، لأنها مخطوبة وعلى وشك الزواج. وقفت على موقف الباص الذي يحملها إلى بيت أهلها، وإذا سيارة تاكسي تقف بجوارها، ويخطفها السائق بالقوة، ويهرب بها إلى حيث لا يعلم أحد. بعد البحث والتفتيش وجدت جثة مشوهة في ضواحي بلدة الزبداني خارج دمشق بعد الاعتداء عليها. والجاني من عناصر سرايا الدفاع أو أتباع مسؤول السرايا.

- أنت متأكد من هذه المعلومات؟

- وأنا متأكد من أنكم تعلمون بعض هذه المعلومات، وإن لم تكن بمثل هذه التفصيلات.

ابتسم المحقق، كما ابتسم مساعده الذي هز رأسه هزة موافقة وغبطة.

- ما قصة مصطفى عبود وأحمد الفيصل وخضر شيشكلي ومحمود شقفة؟

سرَّ حسان لصحة توقعة وسرعه تجاوب المحقق معه. تابع بحماسة:

- اثنان منهما من مدينة حلب. واثنان من مدينة حماة.

- تعرفهم؟

- اثنان منهما طبيبان والآخران من العلماء.

- قصتهم؟

- كلهم استشهدوا خلال السنوات الأخيرة. الدكتور خضر شيشكلي الحموي عمره ثمانون عاماً، وهو أحد زعماء (الكتلة الوطنية) وصاحب (بيت الأمة) أيام العمل ضد الاستعمار الفرنسي. خطفوه من بيته في شهر نيسان الماضي، حرقوه بصب الأسيد عليه في بيته، ثم نهبوا ما فيه من تحف أثرية.

أما الطبيب مصطفى عبود الحلبي فقد كسرت أضلاعه تحت التعذيب في سجن المخابرات بحلب، ومات من أثر التعذيب في صيف العام الماضي.

والشيخ أحمد الفيصل تعرض للنفخ بالماء والهواء، حتى توفي تحت التعذيب، ألقي به أمام باب أهله في حلب.

- إذن الشيخ محمود شقفة هو الذي أغتيل في مسجده وبين طلابه؟

- نعم.

- هل تعرف أحداً منهم معرفة شخصية مباشرة؟

- أعرف الشيخ أحمد الفيصل رحمه الله تعالى.

- صفه لنا.

اتجه المحقق نحو مساعده الكاتب يشير إليه للاهتمام بالحديث عن أحمد الفيصل. ثم اتجه نحو حسان مبتسماً يغريه بالحديث.

- الشيخ أحمد الفيصل من أهل مدينة الباب المجاورة لمدينة حلب، حيث ولد، درس حتى نال الشهادة الثانوية، وعمل في التعليم فترة غير قصيرة، لكن انسجاماً مع خطة السلطة بالسيطرة على توجيه التربية والتعليم وجهة الحزب الحاكم سرحته من التعليم، فانتقل الشيخ للعمل في منجرة والده يعمل ويأكل من كد يمينه وعرق جبينه، وهو يتابع تحصيل العلم الشرعي والثقافة العامة بنفسه... عمل إماماً في أحد مساجد حلب يجمع الأطفال من حوله، ويعلم الكبار حتى تم اعتقاله وموته تحت التعذيب في شهر رمضان عام 979.

- عمره، شكله؟

عمره خوالي خمس وثلاثين سنة. حنطي اللون ممتلئ الجسم، يميل إلى الطول، يلبس زي العلماء الريفيين، لا تفارق البسمة محياه. وبالمناسبة هو من عشيرة (الشهابي) التي ينتمي إليها اللواء حكمت الشهابي رئيس الأركان العامة.

توقف المحقق عن المسير، التفت إلى مساعده ينبهه إلى أهمية العبارات الأخيرة، فأجابه المساعد بإيماءة من رأسه وابتسامة قصيرة.

- هل أنت مسؤول عنه؟!

- لا. أنا لست مسؤولاً عن أحد غير نفسي.

- ألا تلاحظ أنك تتذكر المعلومات عن هؤلاء الأشخاص أكثر مما تذكرت عن أفراد أسرتك؟!

ثم نظر إلى حسان نظرة، ملؤها الدهشة والإحراج، رافقها بوقفة في وسط الغرفة بين مساعده وبين حسان، ثم أخرج سيجارة، وأخذ يشعلها ببطء من (ولاعة) ذهبية اللون لطيفة وبراقة.

لم يتلعثم حسان ولم يتأخر بالجواب على هذا السؤال:

- إذا كان هذا صحيحاً فالسبب أنك تساعدني في تذكر الأسماء والمعلومات وفي استكمالها. أليس كذلك؟!

لم يتمالكا المحقق ومساعده من أن ينطلقا بضحكة عالية، ترددت أصداؤها في أرجاء الغرفة الصغيرة المنخفضة السقف، لدرجة استرعت انتباه بعض الحراس العابرين أمام الباب، فنظروا نظرة عابرة من خلال النافذة المنخفضة، ثم تابعوا السير!

اشترك حسان في موجة الضحك، مظهراً رضاه عن ذلك.

في هذه اللحظة قرع باب الغرفة. استأذن الطارق بالدخول. ثم دخل الغرفة وهو يحمل كؤوس الشاي فوزعها على المحقق والمساعد وحسان، الذي لم يتردد من استلام كأسه، لكنه فكر قليلً قبل الشرب:

- أنا آكل من طعام السجن، وأشرب من مائه، فلم التردد في شرب الشاي؟

قال المحقق:

- هل تحب الشاي؟

- لا، ويمكنني الاستغناء عنها.

كان حسان صادقاً في رأيه بالشاي، وكان مسروراً للحديث عن مثل هذه الأمور، لكنه أوصى نفسه مرة أخرى بالحذر، وبالاستعداد لأسئلة مفاجئة.

من خلال الانشغال بشرب الشاي أتيح لحسان أن يتأمل الساقي الذي جاء بالكؤوس وهو نفسه الحارس الذي نقله إلى غرفة التحقيق، وهو غير الحارس الذي نقله في المرة الأولى، وإن كانا برتبة عسكرية واحدة. الأول قصير القامة، نحيل الجسم، دقيق الملامح، رشيق الحركات، واضح الصوت والنبرات، واثق من تصرفاته مع السجناء والرؤساء. أما الثاني فهو طويل ممتلئ الجسم بطيء الحركة، حنطي اللون، قليل الكلام، تنم تصرفاته وكلماته عن نفس فطرية و أصل ريفي. وهو على العموم شبيه بالشيخ أحمد الفيصل إلا أن الحارس بلباس عسكري والشيخ بلباس مدني، كما خطر في بال حسان ساعة دخوله الغرفة.

بعد انصراف الحارس بكؤوس الشاي الفارغة قال المحقق:

- نعود إلى السؤال الذي بقي بلا جواب.

- أي سؤال؟!

تحفز حسان استعداداً وإشفاقاً.

- لماذا تركت عملك؟!

- قلت لكم: تركت عملي نتيجة الأوضاع المضطربة في البلد.

- وما علاقتك بهذا الاضطراب؟

- مواطن غير آمن على نفسه نتيجة ما يرى ويسمع ما يحدث حوله.

- بصراحة كل هذا لا يكفي إذا لم تكن لك علاقة ما.

- تسمح لي أن أروي لك نكتة سورية.

- تفضل.

- كان (غوار الطوشة) يعمل موظفاً على الحدود السورية اللبنانية، ومر به المواطن (حسني البرظان) يريد الذهاب إلى لبنان، فقال له غوار: ليش بدك تغادر البلاد؟ أجابه حسني: أخاف أن يقصوا لي أذني. قال غوار: يقصون أذنك ليش؟ قال حسني: إنهم ينفذون قراراً بقص أذن لمن عنده ثلاث آذان. قال غوار: أنت ما عندك غير أذنين اثنين فما يهمك القرار! قال حسني المشكلة أنهم يقصون الأذن قبل عد الآذان!!

ضحك المحقق ومساعده ضحكة طويلة، وشاركهما حسان في الضحك، وهو يتأمل وقع النكتة على قناعة المحقق الذي قال بعد أن اختصر ضحكته:

- يعني أنك تصر على عدم تسهيل مهمتك ومهمتنا!

- بالعكس!

- على كل حال نكتفي اليوم بهذا اللقاء اللطيف.

قال المحقق هذه العبارات، وهو ينظر إلى حسان نظرات ذات مغزى، بينما مد المساعد يده إلى جانب المنضدة حيث يوجد زر كهربائي، ثم ضغط عليه قليلاً. بعد ذلك انفتح الباب، ودخل الحارس الذي جاء بكؤوس الشاي، فألقى التحية العسكرية، وتلقى المهمة بإعادة حسان إلى زنزانته.

الحارس يمشي أولاً، وحسان يتبعه. في بعض المنعطفات يقف الحارس، ويطلب من حسان أن يتوقف، يطلب منه أيضاً أن يتجه ناحية الجدار أو الزاوية مع عدم النظر إلى العابرين من سجناء وموظفين.

حين وصل حسان والحارس إلى المدخل الداخلي للزنزانات كانت هناك حركة لنقل أحد السجناء إلى التحقيق، فطلب إلى حسان الدخول إلى ردهة أمام (دورة المياه) حيث يدير ظهره، وينتظر دون تلصص، مع ذلك خمن حسان أن السجين المنقول إلى التحقيق هذه المرة هو ولده مجاهد. لم يكن لهذا التخمين أثره السيء، لأن حسان عاد بمشاعر يغلب عليها نوع من الراحة النفسية والمرح.

حالما دخل حسان زنزانته، وأغلق من خلفه الباب. أخذ يستعيد شريط التحقيق الذي حضره قبل قليل.

- على العموم كان الجو سهلا مرحاً، لكن النهاية ليست كذلك. وإذا كانت النهاية هي الهدف الأول من التحقيق، فما فائدة السهولة والمرح؟ الفائدة من السهولة والمرح أنني شرحت قضيتي وقضية بلدي، وصرفت النظر عن التحقيق في تركي العمل وخروجي من البلد. لكن إلى متى أستطيع المداورة والمناورة؟! ثم هل كان هذا الجو من اختراعي أنا أم كان وسيلة أرادوا منها الوصول إلى مثل المعلومات التي أعطيتهم إياها والمعلومات التي أعطيتهم إياها والمعلومات التي حجبتها عنهم؟!

إن اهتمامهم بشؤون بلدي وبالأوضاع العامة فيه مؤشر حسن، وهو مدخل مناسب لإزالة سوء الفهم.

أحمد الله تعالى أن وفقني في الإجابة على الأسئلة المتعلقة بالأوضاع العامة، وكان بودي الاسترسال أكثر فأكثر، ولو أرادوا لكتبت لهم مجلدات عن مئات المعتقلين والشهداء والمشردين والمنكوبين، لكن إشارة المحقق الذكية أحرجتني حين قال: أنت تتذكر المعلومات عن هؤلاء الأشخاص أكثر مما تذكرت عن أفراد أسرتك.

كان حسان يتمشى في زنزانته ذهاباً وإياباً محاولاً تقويم جلسة التحقيق، ولما فطن لصلاة العشاء بسط البطانية نحو القبلة، وشرع يصلي، وهو لا يكاد يستطيع استعباد الخواطر المتعلقة بالتحقيق الماضي، وبما يحمله المستقبل من تطورات.

بعد فراغ حسان من صلاته وتلاوته أدعيته وأوراده والاستعداد للنوم شرع يعيد ترتيب فراشه العسكري الاسفنجي الضيق، ثم تمدد عليه يريد الاستغراق في نوم عميق، وهو لا يحس بأدنى رغبة بالنوم، على الرغم من مضي فترة غير قصيرة على منتصف الليل، أدرك ذلك من انطفاء الأضواء المنعكسة على الجدار الخلفي الخارجي للزنزانة، وهي أضواء المكاتب الكائنة فوق مبنى الزنزانات، التي غالباً ما ينتهي عملها في منتصف الليل.

- ما أسباب هذا الأرق؟ أهي أصداء جلسة التحقيق، أم هواجس المستقبل، أم ضيق هذا الفراش، أم رائحته المؤلفة من عفونة التقادم ومطاط الاسفنج، أم الشوق إلى الأهل أو المطالعة والحرية، أم كل ذلك؟

مد حسان زراعه الأيسر وضرب بقبضته أسفل الجدار المجاور، فرد ساكن الزنزانة بضربة أخرى.

- شكراً.

عاد فدق دقتين على أسفل الجدار، فأجابه جاره بدقتين أخريين.

- إذن أنت بخير.

حينما تهيأ حسان للدق على الجدار مرة ثالثة شعر بخطوات الحارس تقترب من زنزانته، فتوقف عن المحاولة، وهو من طبعه ألا يثير المشكلات بلا سبب.

- لننتقل إلى موضوع آخر.

شعر أن اضطجاعه على الجانب الأيسر غير مريح، وهو لا يستحسن النوم، على هذا الجانب. تحول إلى الجانب الأيمن. بسط ذراعيه الأيمن تحت الوسادة. استدعى النوم لكن الذي استجاب لطلبه شيء آخر. إنها الذكريات.

- أهلاً وسهلاً. إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون!

إن جلسة التحقيق هذا اليوم صادفت قبولاً عميقاً في نفس حسان، فهي فضلاً عن إتاحتها المجال للحديث عن القضية التي ينافح عنها، أتاحت له المجال أيضاً لمد جسور الذكرى إلى إخوانه وأصدقائه الذين تفصل بينه وبينهم المسافات المكانية والزمنية، كما تحول بينهم الظروف الصعبة، فهم بين شهيد أو سجين أو متوار عن الأنظار أو شريد، أو منكوب.

- ليتهم سألوني عن صبري المدرس!

صبري هذا زميل من زملاء حسان العديدين، وهو صديقه وجاره أيضاً. عمره أكبر من عمر حسان بسنوات قليلة، لكن حجمه أضأل من حيث الطول والوزن. أبيض البشرة، شعره خرنوبي اللون ذو جعدة يسيرة. له شاربان خفيفان لطيفان. سريع الحركة في المشي وفي العمل، وسريع الغضب أيضاً إذا استغضب، وهو سريع الرضى والعفو، يعمل مدرساً لمادة التربية الإسلامية. اضطر بعد تخرجه من الجامعة أن يعمل في إحدى دول الخليج ليسدد ديونه وليجني بعض المال يشتري به مسكناً لأسرته التي ازداد عدد أفرادها باستمرار.

إنه يعيل أمه وأخوته من جهة، ويعيل أولاده السبعة من جهة ثانية.

- أستاذ صبري. أنا أتذكر أول لقاء تعرفت به عليك.

- ما هو؟!

- في صيف عام 968 زرتني وقت الأصيل في بيتي الكائن في حي المسبح البلدي، والشمس تودعنا بأشعتها الذهبية الناعمة.

- هل تعتبر ذلك الملحق الإضافي بيتاً يسكن؟!

- نحن نتحدث عن اللقاء لا عن مكان اللقاء.

- أنا أعرفك من قبل ذلك بزمن بعيد. من كتابتك في الصحف والمجلات.

- وأنا سمعت عنك قبل أن نلتقي. ولكن ما التقينا إلا تلك اللحظة.

- أرواحنا ملتقية من قبل.

- لا شك. لا شك.

- وها نحن أصبحنا جارين في حارة واحدة منذ عام 975.

- إنني سعيد جداً بمعرفتك وبجيرتك. وبتعليمك قيادة السيارة؟

- أما هذه فلم تتم بعد.

- يعني هل تريد أن اشتري لك سيارة أيضاً.

- فاقد الشيء لا يعطيه.

- إذا كان جارك بخير فأنت بخير.

- لا شك. أعني أنت ما عندك سيارة، فمن أين تشتري لي سيارة؟

- وهل صدقت أنني سأشتريها؟!

- أنت من الذين إذا قالوا فعلوا.

- إلا في شؤون المال يا ابن الحلال.

ضحك حسان حين وصل إلى هذا المقطع من الحوار، وحينما ضحك كان مغمض العينين، تحمله الأحلام بأجنحتها إلى سجن المخابرات العسكرية في ثكنة هنانو بحلب. إن حسان يعرف هذا السجن، لكنه يدخله هذه المرة بوساطة أحد طلابه الذي يشغل منصباً هاماً في المخابرات العسكرية. ها هو يدخل من الباب الخارجي للثكنة ثم ينتقل إلى الأوسط فالباب الداخلي الذي هو باب مموه في وسط الجدار لا يكاد يلحظه إلا من دخل فيه من قبل.

ها هو الآن يفتح باب الزنزانة الواقعة في آخر صف الزنزانات اليساري، إذا هي نفس الزنزانة التي سجن فيها صيف عام 967 هو وأربعة من زملائه المدرسين.

يتبع إن شاء الله

                

* أديب سوري يعيش في المنفى