ابن منظور.. صاحب اللسان

عبد الرزاق المطلبي

الريشة الذهبية:

في البيت الكبير انطلقت صرخة الوليد، وهلّلَ أهل البيت وكبروا، وعلى عادتهم فتح الوالد المكرم كتاب الله العزيز وقرأ فيه، ثم رفع وجهه المضاء بالرضا والسعادة، وقال:

- سيكون اسم الوليد الجديد من آل منظور (محمداً).

ثم ناولوه له، فرفعه إليه ينظر في وجهه طويلاً، وقبله في جبهته، وقال:

- اللهم إننا سميناه على اسم نبيك الكريم محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وتيمناً بما طالعت من آياتٍ في كتابك العزيز، فبارك اللهم في ابننا محمدٍ واجعله من أبناء الصلاح والفلاح، ليسير على خطى آل منظور الساعين في رضاك، اللهم أنت السميع المجيب يا الله. وكان هذا في عام 630هــــ.

ومنذ تلك اللحظة والصغير محمد محاط برعاية كل أهل البيت من آل منظور وسكنته من الجواري والخدم والأقرباء والأصدقاء، فهذا الطفل الضحوك هو الذي يجذب انتباه الناظر إليه بعينيه البراقتين المتحركتين سريعاً، وهو الذي يبدأ مع أي من القريبين منه فينظر إليه، ويضحك معه يناغيه ويضرب برجليه ويديه تجاهه إن كان في مهده أو في حضن أمه أو على ذراعيها أو ذراعين آخرين, وغدا مشهوراً بينهم، يتسابقون في أخذه بين أيديهم وملاعبته وقضاء وقت بهيج معه.

وعندما كبر وصار يزحف على يديه ورجليه، تعجبوا من رغبته في أن يسير إلى مجلس والده في غرفة الديوان الكبير، وانجذابه إلى أصوات الرجال المتحادثين في مناقشاتهم ومناظراتهم، فإذا قطعت أمه عليه الطريق أو أسرعت إليه جارية، فإنه يصيح ويصيح محتجاً ويضرب بيديه ورجليه.

دهشت الأم وهي ترى ابنها الصغير محمداً يصر في عناد عجيب على دخول غرفة الديوان في بيت آل منظور الكبير المعروف في كل مصر بحلقات الدرس والعلم والمناظرات منذ عهد جده نجيب الدين، بل منذ عهد جده السابع منظور الذي تسمت العائلة كلها بعدئذٍ به، كما على عهد أبيه مكرم، وعلى الرغم من أنها وضعت عليه رقابة منها ومن الصبيان والجواري والنساء في البيت، فالديوان هو مجلس الرجال الكبار حيث الأوراق والكتب والكراريس وريشات الكتابة والمصلى وأصداء الأحاديث الطويلة.

وإزاء إصراره ذات يوم خرج أبوه المكرم ورأى كيف يناورهم لبلوغ باب الغرفة، فأسرع إليه يحمله بين ذراعيه ويدخل به على الرجال الذين صاحوا مهللين وارتفعت أدعيتهم له وكلمات إعجابهم به.

وبعد وقت خرج به أبوه إلى أمه وهو يبتسم ويقول:

- يقول الشيوخ إن محمداً يستعجل طلب العلم، إنه يصفق ويضحك ويزعق سروراً وهو يمسك بالكتب أو يفتحها أو يضعها ويصعد عليها، تصوري إننا لم نستطع الكلام وهو موجود؟

ذات يومٍ، وقد صار محمدٌ صبياً في الرابعة من عمره افتقده أهل البيت وبحثوا عنه في كل مكان لكنهم لم يجدوه، وتعجبوا، فأين يمكن أن يكون؟؟

سريعاً اتجهت عيون الجميع إلى غرفة المجلس، حيث الكتب مصفوفة على رفوفها وأدوات الكتابة من قرطاسٍ وريشة كتابة ودواةٍ، والمسند الذي يضعون عليه كتاب القراءة، والمسند الذي عليه يكتبون، دخلوا وانفجروا ضاحكين، فقد رأوه قد وضع مجموعة كتبٍ ذات جلود سميكة واحداً فوق الآخر، وصعد فوقها كلها، ووصل إلى ريشة الكتابة المطروحة قرب الدواة فوق الرف.

أرادوا أن يسرعوا إليه ليوبخوه ويمنعوه من دخول الغرفة مرة ثانية، لكن أباه أشار بيده أن قفوا واسكتوا، وهمس:

- دعوه يفعل ما يريد، دعوني أنظر إليه.

الولد أنزل الريشة وأنزل الدواة ثم فتحها بطريقة حذرة وغمس طرف الريشة، الرقيق فيها، ثم فتح أول كتابٍ قربه وأراد الخربشة عليه بالحبر، فأسرع أبوه إليه لا ليمنعه، لكن ليضع رقعة أمامه ويقول:

- اكتب.. اكتب يا محمد.. ارتبك أول الأمر وتردد، لكنه ما لبث أن انطلق يخربش على تلك الرقعة فرحاً سعيداً، وفي اللحظة نفسها تمتم أبوه قائلاً:

(ربما سيكون لك شأن بالكتابة والكتب يا محمد).

صغيراً جداً تعلم محمد ابن منظور القرآن الكريم، وقد قرر معلمه المعروف في مصر كلها (مرتضى بن حاتمٍ) أن يشكوه إلى أبيه، فهو لا يترك له أن يعلمه وفق أصول تعلم القرآن الكريم، إنه يتعجل القراءة والكتابة، ويريد أن يستمر في تعلم كتاب الله قراءة لا حفظاً.

أبوه المكرم لما سمع انزعج، وهو دهش وغاضب، لأن محمداً لا يطيع معلمه في تعلمه، وأسرع إليه يسأله:

- محمد.. هل أنت تتعلم القرآن الكريم؟

قال محمد:

- بلى يا أبتي.. أنا أتعلم قراءة القرآن وكتابة آياته..

- وماذا حفظت من سوره الكريمة؟

نظر الصغير محمد إلى معلمه وقال:

- أنا أحفظ من جزء عمَّ...

فغضب أبوه وصاح:

- تحفظ سوراً من جزء عمَّ فقط! أليس كذلك؟

وأضاف معلمه:

- لكنه يريد أن يمضي في القراءة والكتابة، تصور إنه يجبرني على المضي في قراءة القرآن، وقد تجاوز كل سور جزء تبارك.

فخطا أبوه إليه، وأمسك بيده، وقال له:

- تعلَّمُ القرآن يعني حفظ آياته وسوره آيةً آيةً وسورةً سورةً وجزءاً جزءاً، فلا تنتقل من سورةٍ كريمةٍ إلى سورةٍ كريمةٍ أخرى إلا بعد حفظها تماماً، لكي تتمكن من ختم حفظ كتاب الله العزيز كله، هل فهمت يا ولد؟

وفي مجلس أبيه رأى ضيوفه من شيوخ العلم صاحبهم المكرم ساهماً يفكر، لكن لما سألوه عرفوا أنه مشغول الفكر بابنه محمدٍ، قال:

- مشكلة ابني محمدٍ ومشكلتي معه أنه لا يريد أن يمسك بعلمٍ واحدٍ فيتعلم مبادئه، بل يريد أن يقرأ قراءة ويطلع إطلاعاً على مبادئ العلوم كلها، إن الكتب أي كتب تسحره وتجذبه إليها.

هزّ معلمه (مرتضى بن حاتم) رأسه وقال:

- هذا صحيح.. محمد يريد أن يقرأ ويعرف ويستزيد ولا يريد أن يحفظ.. ولديه حب استطلاع وشوق لمعرفة كل شيء..

وقال معلمه الآخر ابن المعبر:

- ونحن نريد له أن يدرس كما يدرس غيره من الفتيان.

وقال شيخه عبد الرحمن بن الطفيل:

- أنا أخشى عليه من الضياع بين الكتب فلا يعود يفهم في أي علمٍ من علومها.

وقال معلمه يوسف المخيلي الإسكندراني:

- تصوروا، إنه يريد هذا كله وهو لم يتقن القراءة الصحيحة بعد.. ها.. ها ها..

وضجَّ الحاضرون بالضحك، في حينٍ كان أبوه المكرم ينظر إليهم حزيناً وعقله عند ابنه محمد، الذي كان يستمع إلى أصواتهم منزعجاً، ثم ركض مهرولاً إلى حيث يجلس وحده زعلان في ركنٍ منعزلٍ في البيت.

***

منذ ذلك اليوم ابتدأ الاهتمام بالدراسة والحفظ على أيدي شيوخه، غير أن أصداء أحاديث أصدقاء أبيه المكرم بن منظور ترن في رأسه، ويستعيد ما كان يسمعه، وتذكر صوت الشيخ شرف الدين أحمد بن يوسف التيفاشي يذكر لوالده كتابه (فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب) الذي قضى عمره في وضعه وتصنيفه.

وسارع الولد محمد يسأل شيخه يوسف بن المخيلي الإسكندراني عنه، ويسأله عن معاني كلمات عنوان الكتاب وعن كلماتٍ وأفكارٍ سمعها في مجلس أبيه مراتٍ عديدة، لكنه لم يفهمها، ولم يرد أن يسأل أباه عنها.. فأجابه ابن المخيلي:

- ستفهم هذا كله عندما تكبر!!

ولم يقتنع، وأخذ يلحُ على شيخه المخيلي ليريه الكتاب، فضحك معلمه وقال له:

- لا يفيدك أن تراه الآن.

ولم يقتنع أكثر، وبقي شديد الشوق للوقوف على الكتاب. فهو يشعر أن عليه أن يعرفه ويعرف هذه الأشياء التي يتحدثون بها ويتحدثون عنها في حضرة أبيه، ولما زاد إلحاحه على معلمه، قال له:

- ستجده في مكتبة أبيك.

وكان محمد يفكر أن كل تلك الأشياء والكلمات والأفكار لا بد أن تكون موجودة في الكتب، إنهم جميعاً يفتحون كتاباً أو يذكرون كتباً عند أحاديثهم، الكتب إذن، الكتب هي التي تحوي كل شيءٍ وفيها الجواب عن أي شيء!

ذات يوم، كان أبوه مقبلاً على غرفة الديوان التي فيها كتبه وأشياء علومه، ورأى الباب مفتوحاً، فتعجب، إذ لا أحد ممن في البيت يدخل هذه الغرفة من دون إذن منه أو علمٍ، حتى حين يعتنون بها، فدخل بحذرٍ وهدوءٍ، آه، تنفس بهدوء، فقد رأى ابنه محمداً، ولم يعرف ماذا يقول له، بل بقي ساكتاً كأنه لا يقدر على كسر حالة الفرح والسرور التي رأى نورها يشرق في وجه الولد.

كان محمد يقف مسحوراً بصفوف الكتب، ينتقل بكفه من كتابٍ إلى كتابٍ، يمسح على جلده، أو يفتحه ينظر طويلاً في صفوف الأسطر، ويقرب الصفحة أكثر لينظر في الكتابة، في حبرها، في إلتواءات حروفها، في وضوحها الذي يحمله على قراءة كلماتٍ، في غموضها وتشابك حروفها الذي يتركه طائراً لا يعرف ما المكتوب في الورقة أمامه، لكنه كان يحرص على إعادة كل كتاب إلى موضعه وترتيب كل الكتب، ويستمر يفتح ويقرأ، وحين يجلس مستمراً في قراءة أحد الكتب متهجياً كلماته بصوت عال، يتركه وينسحب متراجعاً بهدوء وحذر كبيرين! رآه أبوه ذات يوم يفتح كتاب (زهر الآداب وثمر الألباب) فكاد ينفجر ضاحكاً وهو يلتفت إلى أحد أصدقائه من الفضلاء والأدباء، وصاح أحدهم:

- عجيب إنه يريد قراءة كتاب أبي إسحاق إبراهيم الحصري القيرواني، وبالتأكيد إنه لا يفهمه.

وأراد آخر أن يمد يده ويأخذه منه لكن أباه تركه قائلاً:

- دعوه، إنه يقرأ ولا يفهم اليوم، أو يقرأ الكثير ويفهم القليل، لكنه سيفهم الكثير غداً حتى لو قرأ القليل!

ومع هذا فإن أباه يتعجب حتى يفتقده لأيامٍ، وقد اعتاد حضوره مجلسهم وأسئلته الكثيرة ونظراته إلى الشيوخ والعلماء وتقليبه الكتب، وقراءته أمامهم لبعضها، لقد أفتقده وقد صار صبياً كبيراً فلم يكن موجوداً، وأخذ يرقبه، ورآه ذات يومٍ، وهو يمسك الريشة وينسخ كتاباً، فتقرب منه على أطراف أصابعه، ورآه ينسخ كتاب: (فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب) لصديقه شرف الدين بن يوسف التيغاشي، وكتاب: (الحيوان) للجاحظ منسلم عليه أبوه..

بوغت الصبي وأطبق الكتاب ووضع الريشة في مكانها وأخذ ينظر إلى ابيه مبتسماً ومعتذراً، رفع أبوه الوريقات التي كتب عليها إلى قرب عينيه وقرأ.. لقد كان ابنه ينسخ الكتاب حسب.

سأله: هل فهمت ما نسخت؟

قال: فهمت بعضه، وعصى على فهمي أكثره.

وحين روى ما حدث لجلاسه انطلقوا يضحكون لهذا الأمر، ثم تحدثوا كل برأيه، قال واحد:

- ربما سيكون ناسخاً فقط.. ينسخ الكتب ويبيعها.

وقال آخر:

- أنا أعتقد أنه يبغي أن يحسن خطه.

وقال ثالثٌ متندراً ضاحكاً:

- عصت عليه الكلمات فلم يفهمها وهو يقرؤها، فأخذ ينسخها لعله يفهم ما لم يفهمه بالقراءة ها.. ها.. ها..!!

لكن الأب أشار بيده، وقال:

- لا خوف على محمدٍ مما يفعل، سيتحسن خطه وسيفهم ما يقرؤه ويكتبه، فأنا متأكد أنه فهم الكثير من الكتب، من المعاني العامة إلى السطر والفقرة والصفحة..

***

كبر الولد محمد، وصار فتىً يافعاً، غير أنه ظل على انقطاعه عن أقرانه ومجالس دروسهم في الجوامع وحلقات الدرس عند الشيوخ، كان أبوه يرنو إليه وهو يحبس نفسه في غرفة مكتبة البيت العامرة، وينظر إليه وهو يجلس في مكانه الخاص في طرف مجلس أبيه يسمع ويحفظ، وأحياناً يدوّن أسماء كتب وأسماء مؤلفيها، ولا يدري أبوه ماذا يفعل أكثر من هذا.

في أحد الأيام كان أبوه يسير في سوق الوراقين في مصر القديمة، يزور هذا الوراق ويسلم على ذاك، يقلب هذا الكتاب ويتأمل في جلد ذاك، وفجأة أخذ جلال الدين المكرم بن منظورٍ يتمتم: (يا إلهي .. ما هذا؟ من هذا؟) وبقي يقلب أوراق كتابٍ منسوخٍ بين يديه بعجب وحيرة، وتنبه الرجال الذين كانوا معه إلى عجبه وحيرته وسألوه:

- ماذا يا ابن منظورٍ؟ أجاب ببطءٍ وهو يعرض الكتاب أمام أعينهم:

- هل ترون هذ الكتاب؟

- إنه كتاب (صفوة الصفوة لابن الجوزي).

قال ابن منظور:

- ليس هذا ما أقصد.. بل أقصد من قام بنسخه.

وسألوه:

- من؟ هل تعرفه؟

قال:

- انظروا.. إنه ابن منظورٍ.. لكن من؟ ومِن كثير دهشتهم راحوا جميعاً يتبادلون النظر الحائر بينهم وبين اسم الناسخ المثبت على الكتاب.

عاد ابن منظورٍ للشيخ الوراق وسأله:

- هل تعرف ناسخ هذا الكتاب؟

قال الوراق وهو يبتسم:

- إنه شاب لطيف، جم الأدب، قليل الكلام، ذو معرفةٍ وإطلاع، اسمه ابن منظورٍ يا ابن منظور! كنت أود أنا أن أسألك عنه ألا تعرفه؟

تمتم ابن منظورٍ:

- ربما سأعرفه.. حسناً.. كم تريد ثمناً لهذا الكتاب؟

قال الوراق: - ما يدفعه الشيخ جلال الدين المكرم بن منظورٍ في مثل هذا الكتاب المنسوخ بهذا الخط الجميل!

ودفع له وأخذ الكتاب وغادر...

في البيت أسرع المكرم بن منظورٍ إلى حيث يختلي ابنه محمد جمال الدين، ورآه وهو ينسخ بريشته كتاباً بين يديه هو (يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر) للثعالبي، فابتسم ووضع الكتاب أمام عينيه، وقال:

- هل نسخت أنت هذا؟

قال محمد بن منظورٍ:

- نعم.. هل أعجبك نسخي يا أبتِ؟ قال المكرم:

- نعم .. إنه نسخ حسنٌ جميل، لكن ما حاجتك لهذا العمل الذي أراك تضيع وقتك والكثير من عمرك به، في حين تستطيع أن تدرس وتأخذ مكانتك بين أدباء ومتفقهي ونحويي وعلماء الزمن شأن كل رجال هذا البيت.

رفع جمال الدين محمدٌ نظره إلى أبيه، وقال:

- لكني لا أريد أن أعرف بعلمٍ واحدٍ، إنما أريد أن أحيط بكل العلوم.

وسأله أبوه:

- وماذا يفيدك أن تنسخ كتب غيرك، وأنت لست بحاجةٍ لنقودٍ؟!

قال محمد:

- إنّ نسخ كتابٍ مرةً واحدةً يا أبي يعادل دراسته مائة مرة، فأنا بنسخي للكتب أُسجلها بدقائقها في ذاكرتي وأحفظ ما فيها حفظ فهمٍ واستيعاب لاحفظ ترديدٍ عن غيبٍ، ثم إنني بنسخ كتب للوراق أستطيع الاطلاع على كتبٍ كثيرة، وربما قمت بنسخها لنفسي..

قال أبوه:

- أنا لا أرى هذا معك، فمكتبة البيت عامرة بالكتب، لكن هداك الله وسدد خطاك إلى ما فيه خيرك وخير المسلمين.

وخرج وقد نسي الكتاب المنسوخ قرب ابنه محمدٍ!

كان الفتى محمد بن منظورٍ مستغرقاً في نسخ قصائد كتاب ديوان (الحماسة) لواضعه الشاعر الكبير أبي تمامٍ حين سمع صرخةً فزعةً، فانقبض قلبه لكنه استمر في نسخه مع شيء من القلق والخوف على أبيه الذي كان يعلم أنه مريض وأن حالته تسوء يوماً وراء يومٍ، عرف هذا من رقدة أبيه ومن حالته الضعيفة التي يراه فيها، وكأن شيئاً فيه كان يذهب خيطاً وراء خيطٍ، ومن القلق الكثير في عيون أهله وأصدقاء أبيه وكلماتهم الخائفة المشفقة.

لكن لما تتابعت الصرخات عرف أن ما خاف منه وقع، وأن ما يتحدث به الكبار قد حدث لأبيه فأسرع يخرج من غرفة عمله مضطرباً خائفاً، ثم شعر بشيء ينخلع في داخله وبروحه تنعصر، وصعد شيء إلى بلعومه وخنقه، وصعدت الدموع إلى عينيه عندما رأى الكبار يلوذون بوجوههم وبأعينهم إلى الأرض أو إلى الجدران، وبعضهم يمسح دموعاً قبل أن تنزل، وقبل أن يراه الآخرون.

إذن لقد مات أبوه... مات جلال الدين مكرم بن منظور أبوه، وترك هذا البيت الكبير بأنفاره الكثيرة ليكون هو مسؤولاً عنهم كلهم.. لشد ما كان الموت متعجلاً وكأنه يتسابق معه، حتى إنه سبقه قبل أن يبلغ الفتى محمد مبلغ الرجولة الكاملة، هو الفتى ابن الخامسة عشرة من عمره الآن!!

وقف ذاهلاً والجميع يتحركون ويعملون ويبكون استعداداً لجنازة الوجيه جلال الدين مكرمٍ بن نجيبٍ بن منظورٍ، وفجأة رأى نفسه ينفجر باكياً مندمجاً ودعوات الرجال والنساء ليأخذ مكان أبيه، إن فراغه كبير كبير، ليس في مكانه في مجلسه وعند أصدقائه وعند أمير المؤمنين، لكن في قلبه وروحه هو، إنه ابنه محمد جمال الدين، مثل قارب يطفو في موجٍ كان الناس يحركونه، وكان ذاهلاً تماماً عن هذا كله.

دهشت أمه بعد فترة من وفاة أبيه عندما رأته يعود إلى قضاء كل وقته في غرفة المكتبة بين الكتب، ولم يسأل عن أحوالهم وعن تدبير معيشتهم، حتى الضيعة الكبيرة التي كان أبوه يتابع أمورها بنفسه، غفل أو تغافل ولدها محمد عنها.

وفي صباح ذات يوم دخلت الغرفة عليه، وجلست تنظر إليه وهو يغمس الريشة في الحبر ويكتب، ولما رأى هو مكوثها قربه يطول رفع رأسه وقال لها:

- هل لك حاجة عندي يا أماه؟

قالت له:

- لست وحدي، كل أهل البيت لهم حاجة عندك.

ولم يفهم، وبقي ينظر إليها، ينتظر باقي كلامها، قالت:

- ألم تسأل نفسك يا ولدي كيف كنا نعيش وممّ وكيف سنعيش الآن؟

أجاب:

- لدينا الضيعة وما تركه أبي لنا.

فهزت رأسها وقالت:

- هذا كله لا يكفي إن لم يرعه أحد ويهتم به كما كان يفعل أبوك. الضيعة ستهمل وتندثر ويتركها من يعمل فيها إذا لم يتفقدها صاحبها، وصاحبها الآن هو أنت يا ولدي.

نظر إليها متعجباً محتاراً، فهو لم يفكر بهذا كله، بل لم يجر له على بالٍ، وسأل مستغرباً:

- أنا يا أمي؟!

أجابت:

- نعم أنت، ومن غيرك وأنت ابن المكرم جلال الدين ابن منظور؟

قال:

- أليس عليها وكيل يهتم بها ويرعى شؤونها؟

قالت:

- نعم.. ولكنّ الوكيل بلا عينٍ عليه من مالكها قد يستغلها لنفسه أو يهملها.

هل تستطيع أن تعطيها وتعطي شؤون البيت من وقتك كما تعطي لهذه الكتب وهذه الريشة؟

قال:

- وقتي كله لا يكفي لما أريد أن أعمله يا أمي، والضيعة تريد وقتاً كثيراً وأنا لا أقدر على هذا يا أمي.

نهضت أمه سريعاً وهي تقول في نفسها:

(أنا التي ستدير الأمور وتتابع شؤون الضيعة، ولكن باسمك يا محمد)!

فرحت أمه واحتارت حين عرفت أنه أرسل يدعو شيوخ العلم من أصدقاء أبيه وبعض طلاب العلم من فتيان وعلماء يبرزون الآن، إذن ستعود الحياة و الحركة لهذا البيت الذي لن يكون حياً إلا بالشيوخ والعلماء وعلمهم، ومن دون أن يدري عملت على تحريك البيت كله بحيويةٍ ونشاط لكي لا يلمس القادمون فرقاً بين ما كان في عهد أبيه وما هو قادم الآن! وكانت تنظر من وراء نافذةٍ إليه، وهو يأخذ مكان أبيه في صدر مجلس والده.

وبعد أن جرت الأحاديث بين الجميع، وانتقلوا من موضوع إلى موضوع تناول الشاب جمال الدين محمد كتاباً وأظهره أمام عيون الجميع، وقال:

- هذا الكتاب هو (الأغاني) لأبي فرجٍ الأصبهاني.

الجميع لم يهتموا كثيراً وهم ينظرون إلى الكتاب وينظرون إلى أجزائه الباقية، لكنه قال:

- هذا الكتاب هو كل كتاب الأغاني!!

فتنبه الشيوخ والعلماء والأدباء والشعراء ونظروا إليه غير مصدقين، ابتسم بعضهم متصوراً أنه لا يعرف كتاب أبي الفرج الأصبهاني، وأعاد هو:

- هذا هو كتاب الأغاني.. تفضلوا اطلعوا عليه.

قال أديب وهو يضحك:

- لا أعتقد أنك تستطيع أن تمسك بكتاب أبي الفرج بيديك الاثنتين فكيف بك وأنت ترفع أجزاءه الواحد والعشرين جزءاً مجلداً.

وتناول أحد الشيوخ الكتاب من يد ابن منظور وهتف:

- (مختار الأغاني في الأخبار والتهاني) هذا عمل ممتاز، هذا عمل يساوي عمل أبي الفرج في تأليفه!

ثم وجه عينيه إلى الحاضرين وقال:

- لقد لخص ابن منظور كتاب أبي الفرج تلخيصاً كافياً.. أنا قرأته واطلعت عليه قبل أن نأتي إلى هنا! لقد اختار محمد منه وأهمل بعضه، وأسماه مختار الأغاني في الأخبار والتهاني ولولا حفظه لما في الأصل واحتفاظه به لقلت أنه من وضعه وتأليفه.

وبسرعةٍ أخذ الجالسون يتداولون الكتاب ويطلقون عبارات الثناء والإعجاب، قال أحد الشيوخ:

- لقد رتبته أنت يا محمد على حروف الهجاء، في حينٍ لم يراع مؤلفه أبو الفرج فيه هذا، بل كان قد رتبه على حسب الأصوات.

قال جمال الدين محمد بن منظورٍ: - وأنا أعكف الآن على تلخيص كتاب (زهر الآداب وثمر الألباب) (لأبي إسحاق إبراهيم الحصري القيرواني). فهتف كبير الشيوخ:

- بارك الله فيك يا محمد وبارك في عملك الذي فيه خير لكثير من القراء وطالبي المعرفة والعلم.

انقطع ابن منظور عن الأهل والأصدقاء والشيوخ والناس إلا عن مجلس العلم والأدب الذي دأب على الاستمرار فيه بعد أبيه.

وتنبه بعض الشيوخ إلى أن جمال الدين بن منظور يتابع أمراً في ذهنه كلما التقوا به في المجلس، وكأنه معهم وبينهم وفي مكانٍ آخر في آنٍ واحدٍ.

وفي إحدى المرات، قال له شيخ مبتسماً:

- إنك تُخفي عنا أمراً يا ابن منظور!

فضحك ابن منظور وقال:

- لا أخفي إلا الخير لي ولكم وللجميع.

قال الشيخ:

- هذا صحيح.. أنت ورجال هذا البيت كلهم لا تصنعون إلا الخير حقاً، ولكن لديك شيئاً يا ابن منظور! هل تستطيع أن تخبرنا به؟

ضحك ابن منظور وقال:

- أنا أعمل مكتبة في كتاب.

دُهش الحاضرون وصاحوا:

- مكتبة في كتابٍ واحد؟ كيف تعملها يا ابن منظور؟

قال:

- سيبقى هذا العمل سراً حتى أفرغ منه كاملاً، وعندئذٍ أصحبكم إلى مكتبتي لتروا تلك المكتبة الكبيرة الموضوعة في كتابٍ واحد. وتعجبوا أكثر، لكنهم لا يرونه الآن شيئاً خارجاً عن قدرة ابن منظور، الذي عمل الأعاجيب واختصر الكثير في الكتب..

على الرغم من تعبه ومن ضعف جسده، كان ابن منظورٍ يعمل ساعات طويلة ففي أحد الأيام كان جمال الدين بن منظورٍ منخرطاً في عزلته داخل غرفة كتبه، دخل عليه خادمه وقال:

- هناك رجلان من رجال أمير المؤمنين في الباب يا سيدي.

فاعتدل في جلسته وأطبق كتاباً كان بين يديه وقال:

- ماذا يريدان؟

- الأمير يطلبك إليه.

ودُهش ابن منظور، فماذا يريد منه أمير المؤمنين لكن ما كان له أن يسأل أكثر، ومن لحظته طلب منهما أن ينتظراه ريثما يرتدي ملابسه ثم يممَّ معهم إلى حاكم مصر.

تعجب ابن منظور حين رأى وجه القوم تنظر إليه بين حائرٍ ومدهوشٍ ومستغربٍ ومستنكرٍ ومتشفٍ وحسودٍ ومتوعدٍ، وتعجب أكثر عندما تنبه لعدم الرضا في ملامح وجه أمير المؤمنين، فعرف على صغر سنه وقلة اختلاطه بمجالس الحاكم أن في الأمر شيئاً يملأ نفسه شكاً وارتياباً، ويدفعه إلى التحسب والحذر والتفكير وافتراض القضية، وقد تخيل أن المسألة تتعلق بأحوال بيته أو بضيعتهم أو بحقوق أبيه لكن أمير المؤمنين أشار له في هذه الأثناء بالجلوس، ونظر في عيني ابن منظور طويلاً، ثمَّ أشار لرجلٍ أن يتكلم.

قال الرجل:

- ابن منظور يخرب كتب علماء الأمة وأديانها وفضلائها.

وقال ثانٍ:

- وهو يسطو عليها فينسخ منها وينسبه لنفسه.

قال الأول:

- ويدّعي أنه يقوم باختصارها وتيسيرها لمن لا يهمه الاطلاع على تفصيلها، لكنه يهدم ما بناه واضعوها الأفاضل ويخرب كتب الأمة وجهد علمائها.

قال أمير المؤمنين ساخراً:

- كل هذا فعله ابن منظور ونحن نظنه سائراً على سيرة والده رحمه الله!

قال الرجل الأول:

- نعم، فعله هذا الشاب، الذي بدل أن يقتفي خطى أبيه ويضع كتباً ويعين العلماء والأدباء والشعراء، فإنه يعكف الآن على تخريب كل ما وضعوه.

وقال الثاني:

- ويدّعي أنه يصنع لساناً للعرب، وأمير المؤمنين أطال الله عمره وأبقاه، يعلم أن العرب أفصح لساناً من قبل أن يولد هذا الشاب الهدام، فلسانهم لا لسان غيرهم هو الذي اختاره الله سبحانه وتعالى لساناً مبيناً في كتابه الكريم: القرآن العظيم.

قال أمير المؤمنين سائلاً الحاضرين:

- هل سمع أحد منكم بهذا الأمر؟

فأجابه قسمٌ منهم:

- لا...

وأجاب قسم آخر:

- نعم.. وهو يعمل كتباً مفيدةً عن التي يختصرها، تفيد جماعة ممن يطلبون اللباب ولا يضيعون وقتهم في تتبع التكرار والأسهاب والأطناب.

وقال قسمٌ غيرهم:

- ليس هذا يا أمير المؤمنين أبداً، إنه حقاً يخرب تلك الكتب ويشوهها ويفوت عن الناس الكثير مما يحذفه أو يعيد صناعته منها، كل هذا لكي يغطي باسمه على أسماء مؤلفيها وواضعيها الأفاضل.

تعجب أمير المؤمنين وأخذ يفكر طويلاً فيما سمعه الآن من شيوخ مجلسه وعلمائه.

لكن ابن منظور قال:

- أرجو أن يأذن لي أمير المؤمنين أن أبين أن مختصرات الكتب التي عملتها والموجودة نسخ منها لديكم ليست هكذا، فأرجو أن تطلب من علمائنا الأجلاء الاطلاع عليها، وأرجو أن تطلعوا عليها أنتم لتحكموا بأنفسكم.

بينما كان الشاب ابن منظورٍ يركب بغلته سائراً في شوارع مصر القديمة إذا باثنين يعترضان طريقه فيمسك أحدهما بعنان بغلته ويمسك الآخر بذراعه ويجذبه ليوقعه عنها وهما يهتفان ساخرين ضاحكين، صاح الأول:

- أيها اللص الذي لا يشابهه لص آخر في الدنيا.. ها.. ها.. ها...

وضحك الثاني وقال:

- ها.. ها.. ها.. اللص يسرق في الليل ويخفي ما يسرقه عن العيون، وأنت تسرق في النهار وتتحدث للناس عما سرقت وتظهره للعيون، يا لها من طريقةٍ عجيبةٍ في اللصوصية!

- .. تصور.. إنه يدعي أنه ألف كتاباً سماه لسان العرب..

وأكمل الثاني:

- ويقول عنه إنه مكتبة في كتاب، وإنه يقع في عشرين مجلداً...

وقال الأول:

- لكنه سرقه من كتبٍ خمسةٍ مجموع مجلداتها حوالي (40) مجلداً.

وفجأة التفت الأول إلى ابن منظور، وقال:

- لا أظنك رأيت كتاب (التهذيب) للأزهري ولا (الصحاح) للجوهري.

وأضاف الثاني:

- ولم تعرف أن لابن سيده كتاباً اسمه (المُحكم) وليس لابن بري كتاب اسمه (الحواشي) على صحاح الجوهري.

وقال الأول:

- أما ابن الأثير فلم تعرف أن له كتاباً اسمه: (النهاية في غريب الحديث).

أخذ الثاني يضحك وهو يجذب عنان البغلة ويركلها بقدمه ويحاول الأول أن يسقطه عن ظهر بغلته وهما يصيحان:

- نسخت منها كلها، وخلطته بما تحفظ مما قرأت هنا وهناك.

والتفت إلى أُناسٍ تجمهروا حولهم وصاح:

- هذا اللص سطا على كتب غيره، فسرق من هذا الكتاب وسرق من ذاك، وخلط ما سرقه بما كان قد قرأه في كتبٍ كثيرةٍ مما نسخها أو قطعها وسلّ منها وخرج من هذا كله بكتاب يسميه (لسان العرب) أرأيتم لصاً آخر مثله؟؟ قال ابن منظور:

- حسبي الله ونعم الوكيل إنا لله وإنا إليه راجعون، حسناً أتركاني أيها الجاهلان.

لكنّ أحدهما جذبه بقوةٍ ودفعه الآخر حتى أسقطاه من على ظهر بغلته فصاح بهما.

- لقد ضقت ذرعاً برعونتكما وجهلكما! من أنتما؟ وماذا تريدان؟ قالا معاً:

- حسناً، ستعرف قريباً ما نريد.. وانطلقا يهرولان وكأنهما يتربصان، وهما يصيحان!

- لا تنس، سترانا وستعرف ماذا نريد أيها اللص.

والتفتا إلى الناس وصاحا:

- دونكم لص الكتب هذا.

وبسرعةٍ فاجأته والتف الناس حوله وأخذوا يصحيون ويصفقون:

( اللص.. اللص.. اللص.. اللص..)

ولم ينج منهم إلا بعد أن أدركه مصادفةً أحد الشيوخ من أصدقاء أبيه، الذي منعهم عنه مهدداً بجند الحاكم، وأخذ بيده بعيداً عنهم. كان ابن منظور يتهيأ لإرسال المجلدات العشرين من كتاب (لسان العرب) إلى أمير المؤمنين، لكن حدث ما لم يكن قد حسب حسابه، فقد اقتحم لصوص دار آل منظورٍ، ولم يعبثوا ولم يأخذوا إلا مخطوطات هذا الكتاب: (لسان العرب): وارتبك، وأخذ يضرب كفاً بكف وهو يذرع الغرفة رواحاً ومجيئاً ويصيح بما يشبه النواح: - يا ويلي.. يا ويلي.. ضاع جهد عمري كله، والمصيبة أني وعدت أنني سأسلم كامل أجزاء الكتاب لأمير المؤمنين، فماذا أصنع الآن؟!

وذات مساءٍ فوجئ الحاضرون في دار ابن منظورٍ بمجيء أمير المؤمنين بنفسه وبحاشيته معه، وكان كثيراً ما يفعلها مع أبيه، وما أن استقر به المقام حتى أخذ يد ابن منظورٍ يهنئه ويقول:

- لقد عملت ما لم يعمله غيرك ممن سبقوك، ولن يعمله ممن سيجيئون بعدك، هذا الكتاب هو لسان حقيقي للعرب إنه من أكبر أمهات كتب اللغة وبحر للمعرفة جمعت فيه ورتبت ونظمت ما تفرق في كتب العرب، فيه ما يريد القراء الاطلاع عليه، فهو حافل بأقوال اللغويين والنحاة وشراح الدواوين الشعرية، فبارك الله فيك يا ابن منظورٍ وبارك في عملك وكل جهدك!

بهت ابن منظور وسأل متلعثماً:

- وهل اطلعتم فعلاً يا سيدي على كتابي (لسان العرب)؟ قال أمير المؤمنين:

- نعم، ووجدته معجزةً في التأليف، إنه عظيم وفريد في التصريف والترتيب والتصنيف والتعريف! لقد دبر اثنان من حسادك سرقته وإيصاله إليّ لكي أقتص منك لكنني اقتصصت منهما وجئت بنفسي لأهنئك وأهديك ما يساوي جهدك فيه وعملك.

بعد أن تداول شيوخ العلم وطلابه كتاب (لسان العرب) صار الجميع يحرصون على جمع كل كتب ابن منظور.

فذات يوم دهش ابن منظور وهو يرى طالباً صغيراً من طلاب العلم في زمانه يطرق عليه الباب، حتى إذا أدخله ابتدأه بالتوسل والرجاء أن يزوده بما ينقصه من كتبه أو يرشده إلى الوراق الذي يجدها عنده، وأخرج قائمة وراح يقرأ على ابن منظورٍ ويقول:

- لقد اختصرت أكثر من خمس مئة كتابٍ في مدة (40) سنةً يا سيدي.

لدي منها:

1- الأغاني لأبي فرج الأصبهاني الذي سميتموه (مختار الأغاني في الأخبار والتهاني).

2- زهر الآداب وثمر الألباب: لأبي إسحاق بن علي الحصري.

3- يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر: للثعالبي.

4- (نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة) و(جامع التواريخ): لأبي علي المحسن بن علي التنوخي.

5- تاريخ مدينة دمشق: لابن عساكر أبي القاسم علي بن أبي محمد. 6- تاريخ بغداد: للسمعاني.

7- صفوة الصفوة: لابن الجوزي.

8- مفردات ابن البيطار وهو كتاب في الطب.

9- فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب الذي سميتموه: (سرور النفس بمدارك الحواس الخمس)، ولدي جزؤه الأول الذي سميتموه: (نثار الأزهار في الليل والنهار وأطايب أوقات الأصايل والأسحار وسائر ما يشتمل عليه من كواكب الفلك الدوار). 10- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، لابن بسام وسميتم أنتم مختصره (لطائف الذخيرة).

11- الحيوان: للجاحظ.

12- لسان العرب: الذي وضعتموه أنتم.

بعد كثير من السنين، وقد تقدم العمر كثيراً بجمال الدين بن منظور، بقي على ما نشأ عليه، وأحبه من حياةٍ بين الكتب والورق والحبر، وعلى الرغم من سنه الكبيرة، إلا أنه كان يرفض أن يسمع صوت زوجة أو ابن أو صديق أو قريب في أن يبتعد عن الكتب، ابنه قطب الدين كان يتقرب منه ويرجوه متوسلاً أن يرعى نفسه ولا يحملها ما لا طاقة لها به فيكف عن القراءة والتلخيص والكتابة، لكنه ظل يصر إصرار الرجل العنيد، ثابتاً ثبات العالم المفيد.

اقترب منه ابنه قطب الدين ذات صباح وسلّم عليه، وجلس بين يديه، ينظر مشفقاً إلى شيخوخة أبيه الذي كان يقرأ كتبه بعنادٍ عجيب للضعف المستمر بعينيه، كان الوالد الكبير يقرب الصفحة المفتوحة للكتاب من عينيه حتى ليكاد يمسهما مساً وهما أقرب إلى ضياع البصر وانطفاء النور وتغير اللون، قال له بصوتٍ خفيضٍ:

- أرجوك يا والدي، دعني أقرأ أنا لك أو يقرأ لك غيري ولا تجهد عينيك ونفسك هكذا، وإن أردت أن تملي عليّ أو على غيري شيئاً فنحن حاضرون جاهزون للكتابة بكل رضا وأتم سرور.

فلم يبعد الشيخ كتابه من عينيه، بل حركه في هذه اللحظة مقترباً بسطور حواشيه من عينه اليمنى، ولسانه يتحرك بطيئاً وبلا صوت داخل فمه، ثم قال:

- دعني يا قطب الدين، خلني مرتاحاً وسعيداً مع كتبي ونفسي يا ولدي واذهب أنت لشأنك، إن سعادتي كبيرة فأنا وبما تبقى من نور عيني وقوة جسدي لا أحتاج أحداًغيري، اذهب عني يا ابني.. اذهب..

قال قطب الدين:

- لكننا لا نعرف الراحة وأنت تريد أن تذهب بما تبقى من بصرك في قراءة وكتابة لست بحاجة لها الآن.

وضع محمد ابن منظورٍ الكتاب في مكانه، وتوجه إلى ابنه وقال:

- اسمع يا بني، لقد جالست الأمراء والحكام، وناظرت العلماء والأدباء وسمعت من الشعراء وأسمعتهم، وخدمت بديوان الإنشاء، ووليت القضاء، لكني ما عرفت السعادة والمتعة يوماً إلا وأنا أقرأ وأضع حاشيةً هنا وحاشيةً هناك، أو أكتب ملخصاً، أو دارساً، أو واضعاً مما أُصيب من علمٍ ومعرفةٍ، وتلذُّ لي حياتي بها، وأحب أن أستزيد من السنين بعمري، فلا تحرموني مما أحب وأرغب.

وأمام إصرار أبيه وعناده، نهض قطب الدين، وفي نفسه لوعة وفي صدره حرقة، فيا لله أي شيخٍ عالمٍ جلدٍ صابرٍ أبوه محمد جمال الدين بن منظور!!

وذات يومٍ سقط الشيخ في الهوةِ فجأة، وانغلق عليه ليلٌ دائمٌ فقد انطفأ آخر خيطٍ من نورٍ في عينيه، وحلّ ظلام العمى طول العمر الباقي، فقد كفَّ بصره، ولم تعد يداه ترتفعان بالكتاب إلى عينيه، ولم تعد أصابعه تقبض على ريشة الكتابة، وما عادت رائحة الحبر تفتح نفسه وعقله بشهيتها للحياة وتفيض منهما أفكاراً على السطور والورق.

وخشي الأهل على الشيخ النهاية القريبة فكيف سيطيق حياته من دون كتاب أو ريشة كتابة ورائحة حبر؟

غير أنّ الكتب التي كانت تريه العالم وتفتح له كل أبواب الحياة عوضته عن الظلام حوله، وهاهم الأهل والأصدقاء يقرؤون عليه أو يستمعون إليه، وقد بقي كما كان شيخاً مهيباً وقوراً بغزير علمه وأدبه ورقيق شعره حفظاً وروايةً ونظماً، يتصدر مجلس العلم والأدب في الدار الكبيرة دار الآباء والأجداد من آل منظورٍ، وابنه الذي يروي عنه ويأخذ من علمه ويتحدث بمعرفته الواسعة وعلومه الكثيرة، ابنه قطب الدين يأخذ مكانه بين علماء وأدباء زمانه خطوةً خطوة، حتى توفي الأب، واضع لسان العرب جمال الدين أبو الفضل محمد بن الشيخ جلال الدين المكرم بن منظورٍ، في الثالث عشر من المحرم سنة 711هـــ عن عمر بلغ واحداً وثمانين عاماً.

رحم الله ابن منظورٍ واضح الموسوعة الفريدة، التي هي حقاً مكتبة في كتاب:

- (لسانُ العربِ)...

وسوم: العدد 724