مذكرات إرهابي- الحلقة الأولى

أدباء الشام

هذه الرواية تستند إلى شخصيات و أحداث حقيقية ألبست ثوبا روائيا خياليا ..

[الــــبـــــــــدايـــــــــــــــة] : 

قد يظن القاريء من العنوان أنني فتى غر في العشرينيات أو في الثلاثينيات من العمر و أن لحيتي سوداء طويلة و مشعثة و أنني أعتجر عمامة و ألبس ثوبا "باكستانيا" مغبرا و في يدي مدفع رشاش روسي الصنع و أتمتم بالتسابيح قبل الشروع في فعل أي شيء أريد فعله ، و فقير شبه معدم يقاتل بحثا عن فرصة لعيش كريم ، و لكن هذا ليس صحيحا بتاتا ، فأنا رجل في أواسط العقد التاسع من العمر و لم أطلق لحيتي أبدا و لن أفعل ، و أنا أنيق جدا و وسيم بدرجة معقولة تكفيني لإقامة علاقات غرامية مع سيدات جميلات (أظن هذا) ، و لا زلت قادرا على الركض و المشي و القفز أحيانا و لست متدينا و أنا ثري جدا.

و قد يتساءل البعض عن السبب الذي يدفعني إلى عنونة كتابي بهذا العنوان و ربما عن السبب الذي يدفعني لكتابته؟ و لن أبخل بالجواب عليهم : أنا عنونت كتابي بهذا العنوان لأنني لم أعد بحاجة للكذب منذ مدة طويلة ، هذا الوصف "إرهابي" هو ما أستطيع أن أصف به بطل هذه الكتاب و هو شخصية رافقتني مدة نصف قرن و صنعت لي كل حياتي و لا أكاد أذكر حدثا مر في حياتي إلا و كان هذا الشخص طرفا فيه ، و سميت الكتاب "مذكرات" لأنه يتضمن ذكريات حياتي المديدة ، و أما عن سبب كتابتي للكتاب نفسه ؛ فلأنني أصبحت أحب كثيرا أن يعرفني الكثيرون ، ربما لأنني أشعر بأن رحلتي على الأرض قد أوشكت على النهاية.

لن أطيل عليكم مقدمة التعريف بنفسي فأنتم ستتعرفون علي جيدا في هذا الكتاب الذي سأبدأ به فورا لأعود معكم إلى بداية الوعي عندما بَدَأَت حياتي المليئة بالمتع و القصص الشيقة فتعالوا إلى عالمي المزدحم بالألغاز الكبيرة جدا ، و لنبدأ بزيارته من دار أبي و مرتع الطفولة الجميلة.

[بـــيت الـــــــــــعزّ]

كانت دارنا متوسطة الضخامة و لكنها كانت تشبه كثيرا القصور ، و بالرغم من أننا لسنا من أسرة أرستقراطية عربية إلا أن والدي القاضي المعروف كان قادرا الإنفاق كما يشاء و استطاع بسهولة و في مطلع شبابه أن يقتني دارا محاطة بسور عال من الحجارة الرملية يحيط بدوره بحديقة خضراء صغيرة تضم منزلنا ذي الشرفات الواسعة المطلة على الجهات الأربع ، و لم تكن دارنا تبعد سوى مسافة قصيرة عن ساحل البحر المتوسط الجميل ، و لقد أثث أبي قصره الصغير بفخامة و عراقة ، و كان ذواقا في اقتناء المفروشات الخشبية المغطاة بـ "الصدف" و في اختيار السجاد الأفغاني الممتاز الذي كان يغطي كل أرض المنزل .

كان والدي قادرا دوما على أن يمتلك عربة "أتوموبيل" من النوع الفخم و الواسع و أن يوظف عنده سائقا ضخما وسيما و نشيطا و خادمة لم تتجاوز العشرين كانت تقيم عندنا بصفة دائمة ، فإذا تزوجت استأجر غيرها قبل أن تغادر الأولى المنزل.

كان والدي رجلا ضخما قليل شعر الرأس كث الحاجبين أبيض اللون و له شاربان مستقيمان أسودان كشاربي "زورو" المقنع و كان يرتدي دوما نظارات صغيرة بإطار معدني ، و طبعا كان أنيقا جدا ، كثير التدخين و يحب شرب النبيذ الفرنسي الأحمر مع الإستماع للموسيقى الغربية على "جرامافونه" الخاص ، و كان رجلا هادئا دوما و قليل الكلام و لم يكن متدينا على الإطلاق ، و لكنني لم أسمع يوما يشتم الدين أو المتدينين أو يستهزئ بالمقدسات الدينية.

أما والدتي فلقد كانت على عكس أبي في كل شيء تقريبا ، فهي ضئيلة الحجم و كثيرة الكلام و كثيرة الإنفعال ، و ذات تصرفات طائشة و شبه أميّة ، و كانت متدينة على طريقتها الخاصة ، فلقد كانت حريصة جدا على ارتداء "ملاءة الزم" و تغطية وجهها و عدم السماح لرجل غريب برؤيتها ، و مع ذلك لم تكن تصلي ، و لكنها كانت تداوم على التمتمة بتسابيح تكررها و تضبط عددها بمسبحة ، و تصوم رمضان و كثيرة التبرع بالصدقات و كان البخور لا يفارقها لا في ليل و لا نهار و لعله كان سبب موتها بمرض رئوي خطير عندما كنت في العشرينيات من العمر ، كان أبي يتضايق كثيرا عندما كان يكتشف "الحجب" في سترته و في مخدته و في سيارته ، فلقد كان يعلم أن هذه "الحجب" (تمائم) باب واسع للنفقات استفاد منه كثيرا الدراويش و الدرويشات القاطنين في حينا، و مع هذا لم يمانع في زيارة هؤلاء لوالدتي و لم يعترض أبدا على ما كانت تنفقه عليهم لسر عرفته لاحقا و سأحدثكم عنه في موضع قادم من الكتاب ، ذهبت والدتي إلى مكة للحج و عادت لتصبح متدينة أكثر فصارت تصلي دوما و تستمع إلى القرآن في الراديو و تواظب على حضور مجالس الصوفية التي كانت تقيمها إحدى قريباتها و هي زوجة شيخ معروف في مدينتنا.

كانت والدتي امرأة جميلة بما يكفي لإرضاء والدي و هي من أسرة غنية و لقد ورثت عن والدها التاجر الثري أملاكا لا بأس بها تكفي لإقناع أبي بنسيان تصرفاتها المزعجة ، بالإضافة إلى أنها لم تكن امرأة غيورة أبدا رغم أنها أحبت أبي بشدة.

كنت الإبن الثاني لهذه الأسرة الصغيرة و لم يكن لدي سوى أخ و أخت كلاهما أكبر مني سنا ، و أذكر فرحي بعرسيهما عندما كنت طفلا قد راهق الحلم ، و دموعي الحارة التي سكبتها أنا و أمي يوم ودعنا أخي الطبيب الذي سافر مع زوجته إلى "أوربا" لدارسة الجراحة برفقة أختي و زوجها الطبيب أيضا ، بعد عام واحد من زواج الجميع و من انتهاء الحرب العالمية.

ليس في طفولتي ما يختلف عن المعتاد ، سوى أنني لم أكن أرتاد المدرسة ، و كان الأستاذ "إلياس" هو الذي يتولى تدريسي يوميا في أيام دوام المدارس و يتقاضى من والدي أجرة شهرية ، و مع أن هذا النوع من التدريس لم يكن معتادا و لا مقننا إلا أنني كنت أتسلم من أستاذي في نهاية كل عام دراسي شهادة موثقة بالدرجات العلمية لكافة المواد المقررة و عليها خاتم المدرسة الرسمية الوحيدة في مدينتنا كبرى مدن الساحل في بلادي.

و الواقع أنني لم أكن أدرس شيئا من مقررات الدراسة العامة ، لا أنا و لا أختي التي كانت أيضا تتعلم بنفس الطريقة على يد السيدة "ماري" ، نعم لقد تعلمت علوم اللغة العربية ، و لكنني تعلمت جميع المواد الأخرى العلمية و الأدبية بلغة الدولة الأوربية التي كان جيشها يحكم بلادنا في تلك الآونة. 

ركز أستاذي كثيرا على تدريسي لمادتي "التاريخ" و "الفلسفة" و كان شخصا صارما و لديه صلاحيات مطلقة في معاقبتي على التقصير في دراستي ، و مع هذا لم يكن يبدي ملاحظات عن سلوكي الشخصي ، و لم يكن يمكث عندنا أكثر من ثلاث ساعات في أيام دوامه الأسبوعية الخمسة ، فلقد كانت عطلتي الأسبوعية يومان أمضيهما مع أصدقائي أبناء أخوالي على شاطئ البحر أو في بستان أبي برعاية الحارس الشرطي الذي كان يحرس بيتنا.

أعود إلى الأستاذ "إلياس" الذي كان عبقريا في الحساب و الفلسفة و المنطق ، و رافقني في دراستي تسعة أعوام ، تعلمت خلالها تاريخ جميع الأمم تقريبا بشكل مختصر و ألممت بمعظم الفلسفات الدينية الموجودة و كل هذا كان بعبارات سهلة و مبسطة و من كتب لم أجد مثلها في الأسواق المحلية و لا في مكتبات أوربة خلال دراستي هناك ، كانت دراستي عن كل ديانة تبحث في ثلاثة مواضيع أساسية مشتركة عند جميع الديانات و هي : أولا الشعب أو القبيلة التي نشأت فيها تلك الديانة و ثانيا كيف استطاع أتباع تلك الديانة أن يؤسسوا مملكتهم الخاصة بهم ، و ثالثا ما هي القوانين التي فرضتها تلك الديانة و كيفية عمل رجال الدين في إقناع الناس بالخضوع لهذه القوانين برضا تام.

في نهاية كل بحث عن كل ديانة كنت أطلع عليها كان الأستاذ "إلياس" يكرر على مسامعي متلازمة متكررة عن عبثية أفكار الديانات و تأثيرها السلبي على إنطلاق العقل و اليد في ما نجهله من العالم حولنا و أنها لم توجد إلا لبناء الخوف في قلوب الناس ، الخوف الذي يدفعهم لإطاعة القوانين التي يتعلمونها من رجال الدين ، الخوف الذي يجعلهم يرهبون من عصيانها حين يأمنون عيون الرقباء ، فيستريح الحكام من أكثر عناء ملاحقة المخالفين لقوانينهم و أوامرهم ، و كثيرا ما كرر على مسامعي أن رجال الدين هم من أخر اكتشاف أمريكا و أستراليا و القطب الجنوبي إلى ما قبل بضعة قرون لأنهم رفضوا الإعتراف بكروية الأرض ، و ما أكثر ما سمعته يقول : إن قوانين الأديان هي قيود الأغبياء التي يربطهم إليها الأذكياء ليسخروهم لخدمتهم فهي "نير الحراثة" الذي يوضع حول عنق الثور الغبي و يربطه بالمحراث ، فيجر الثور المحراث خوفا من السوط ، و يحرث به الأرض للإنسان الذكي ، ثم يأكل الذكي ثمرة تعب الغبي ، و يلقي إليه رديء الطعام كجائزة له على خدماته و إخلاصه ، و الواقع أن الذكي يطعم الغبي فقط حتى يستمر في استخدامه ، و الذبح سيكون حتما مصير الغبي إن قرر التمرد و إلقاء النير و الإقلاع عن جر المحراث في يوم من الأيام.

لقد كانت نظرية الأستاذ "الياس" أن الأغنياء و الأقوياء المتسلطون من البشر هم الذين اخترعوا الديانات و شاركهم "رجال الدين" في هذا المشروع رغبة في التشارك معهم في ثمراته الكثيرة ، من المال و السلطة و الجاه.

و ما أكثر ما ردد على مسامعي نظريته عن اتفاق الأثرياء من قريش مع نبي الإسلام لاقتباس فكرة دين جديد من جيرانهم اليهود و استعمالها لتوحيد ديانات العرب المختلفة ، ثم لتأسيس مملكة "قريش" تقليدا لممالك الرومان و الفرس ، و كان يستدل على هذا بأن معظم أصحاب نبي الإسلام كانوا من أثرياء "قريش" و كانوا يزورون كثيرا هاتين المملكتين ، فغاروا على "قريش" التي كانت قبيلة النبلاء عند العرب و لم تكن لديها مملكة فاخترع لهم أذكياؤهم دين الإسلام .

و كان يبرهن على هذا بأن نبي الإسلام حصر حق الحكم (الخلافة) في سادة قبيلة "قريش" من بعده و أبقى السلطة بيده و في أيدي من أيده منه سادة "قريش" في فترة حياته في المدينة "يثرب".

لم أكن بالفتى الذي يخشى الإنطلاق ، و استطاع ذهني أن يوسع نظرية أستاذي "الياس" لتشمل كل القوانين و الشرائع سواء المشتقة من الأديان أم المصنوعة مباشرة بيد الإنسان ، فلو طبقنا عليها جميعا نظريته هذه لوجدنا أنها كلها تخدم هدفا واحدا هو : [منع الفقير من قتل الغني و سلب ماله ، هذا المال الذي سرقه الغني من جهد الفقير بخدعة إسمها "التجارة"].

هذه النبذة عما تعلمتُه من الأستاذ "إلياس" قد تجعل القارئ يفترض بداهة أن الرجل كان ملحدا ، و لكنه في الواقع لم يكن كذلك، فلقد كان دائم الحرص على ارتداء رموزه الدينية ، و يحتفظ بأيقونة لـ "العذراء المقدسة" في حقيبته و هذا ما أثار استغرابي دوما ، و لكنني فهمت لاحقا سبب هذا التناقض ؛ لقد كان الرجل كان مجرد موظف يؤدي عمله و لم يهمه أبدا إن يكون ما يُلقنه لتلميذه مخالفا لمعتقداته الشخصية كمدرس.

هذه الحقيقة رأيتها واضحة في العام التاسع من تتلمذي على الأستاذ "الياس" فلقد كان يظن أنني أنصت لمقولاته دون تفكير عميق بمضمونها، و لقد تفاجأ حد الصدمة ذات يوم بحوار قصير دار بيننا في ظهيرة أحد الأيام ، قلت له : سمعت أن مشاكلك مع زوجتك قد أنهكتك و أن الكنيسة قد توافق على طلب الطلاق الذي تقدمت به ضدك و قد تجبرك المحكمة على دفع مبالغ كبيرة لها. قال : نعم لقد أتعبتني جدا و هي لا تهتم إلا للمال الذي تريد أخذه مني لتنفقه على أخيها الصغير لعنة الرّب عليها و عليه. قلت له : لماذا لا تدبر قتلها ؟ و ستنجو من القصة فوالدي صديقك و هو قادر على أن يخرجك منها كالشعرة من العجين. خرس ! و نظر إلي مبهوتا تماما ، ثم صاح بي : ماذا !؟؟ إخرس !. ثم سكت حتى انتهت الحصة ، و بعدها انتظر في غرفة الضيوف حتى عاد والدي فأخبره بهذا الحوار الذي دار بيننا و هو يرتجف غضبا و يكرر إشارة الصليب على جبهته و صدره بينما كان شارباه الكثان يتراقصان تحت أنفه كجناحي طائر يقلع بسرعة ، و مع هذا لم يبد والدي الكثير من الإنزعاج لكلامه و كان يتبسم في وجهه و يربت على كتفه ليهدأ من روعه و يقول له كلمات سمعت منها : لا تلم نفسك هذا صغير و مندفع . و بعدما انصرف "الياس" دعاني أبي إلى مكتبه ، و قال لي و هو يخفي ابتسامة خلف قسماته التي حاول أن يكسوها أكبر قدر من الجدية : لا تلق بالا لفزع "الياس" هذا فهو غبي أكثر من حمار أعمى ، أنت قلت له ما يجب عليه فعله و لكنه جبان و تافه سلم ثمرة حياته و مستقبل أولاده لعجوز مجنونة و قساوسة محتالين. 

لم أتفاجأ بكلام أبي و شعرت يومها أنه سيخبرني بشيء كبير و خطير في وقت قريب ، و لكنه لم يفعل أبدا.

لم تنقض فترة طويلة على هذا الحوار حتى انقطع الأستاذ "الياس" عن تدريسي ، و أرسل إلي شهادة إنهائي للدراسة الإعدادية و زارني مودعا ثم سافر إلى "أمريكا" ليلحق بابنه الوحيد ، و لقد علمت لاحقا أن زوجته ماتت في حادث سيارة و ورثها هو قبل أن يصدر حكم الكنيسة بطلاقها منه ، ثم علمت لاحقا أنه اتبع نصيحة تلميذه الذكي !.

حل محل "الياس" أربعة من المدرسين ، كل منهم كان يدرسني مجموعة من المواد العلمية البحتة و بلغة الدولة الأوربية التي كانت تحكم بلادنا ، و لم تكن تربطني بأي منهم علاقة وطيدة كتلك التي ربطتني بـ "الياس" و لم تكن لهم صلاحيات واسعة في إجباري على الدراسة ، و لم أكن أصلا بحاجة لذلك فلقد صرت مولعا بالكتب و العلم حد الهوس.

[الأقـــــارب عــــــقارب]

لم يكن لدي أقارب أعرفهم من جهة والدي على الإطلاق ، و كنت أسأل أمي عنهم فتقول : جدّ أبيك كان يعمل قاضيا في "استانبول" و أسرته كلهم هناك إلا أن أباك وحده عاد من "استانبول" ليعيش في بلده الأصلي بعد "السفربرلك" و لم يرافقه من أقاربه أحد ، و كانت لأسرته دار مهجورة فسكن فيها و توسط له أصدقاؤه فعمل في العدلية مدة ثم تعين قاضيا لأنه درس الحقوق في "استانبول" و في "أوربة".

هذه القصة التي روتها أمي لي كانت قد سمعتها من أبيها و من أبي بعد عقد قرانها على أبي ، و لم أتأكد يوما من صحتها و لم أبحث مطلقا عن أقاربي الأتراك ، و كنت يوما سألت أبي : لماذا لا تبحث عن أقاربنا ؟ فقال لي : الأقارب عقارب.

و مع هذا كان أبي حريصا جدا على أن تكون علاقاتي مع أخوالي و أولادهم متينة جدا و أجبرني عندما بلغت الثامنة عشر على خطبة ابنة خالي الشبه أمية و التي و كانت تصغرني بأعوام قليلة ، ثم زوجني منها و أنا في التاسعة عشر ، و كان قد زوج أخي الطبيب من شقيقتها الكبرى ، و كان زوج أختي الطبيب أيضا ابن خالي الكبير التاجر الثري و الوجيه المعروف .

كانت تربطني صداقات كثيرة مع أقارب والدتي المقربون و البعيدون ، و السبب هو أن أخوالي الخمسة كانوا جميعا تجارا و كانوا حريصين على الترابط في أسرتهم و كانت والدتي و هي أختهم الوحيدة تحرضهم دوما على ترتيب زيارات و ولائم كبيرة لكل أقاربهم خاصة في أيام المواسم الدينية كرمضان و الأضحى ، و كان هؤلاء الأقارب حريصون على التقرب منا بسبب مكانة والدي و منصبه و نفوذه الواسع ، و لكن هذه الصداقات لم تكن يوما عميقة مع أحد و لقد أمضيت حياتي كلها و لم يكن لي صديق واحد مقرب مني يعرف عني ما يعرفه الأخلاء عن بعضهم ، و لعل السبب هو أنني لم أدرس في مدرسة وقت طفولتي و في فترة مراهقتي.

[إلى أوربــــــة مــــؤقتا] 

بعد اختفاء الأستاذ "الياس" من حياتي بثلاثة أعوام ، و تحديدا في خريف عام 1949 انقطع المدرسون عن زيارتي و سلمني والدي في مكتبه نسخة من "شهادة إنهاء الدراسة الثانوية" بمعدل مرتفع جدا رغم أنني لم أقدم أي إمتحان ، و أخبرني أن علي أن ألحق بأخي الأكبر في "أوربة" بعد إتمام زواجي من ابنة خالي "سليمة" و سترافقني زوجتي ، و أخبرني بأن جميع الترتيبات صارت جاهزة.

وقع الخبر علي كالصدمة ، و لكنني لم أجرؤ سوى على قول : حاضر كما تريد.

و عندما خرجت من غرفة المكتب وجدت والدتي في الصالة الأرضية للبيت منهمكة مع خياطتها في الإتفاق على أوصاف فستانها و فساتين عروسي "سليمة" و فساتين أختي ! نعم فلقد كانت قد عادت لتوها من "أوربة" مع زوجها الذي أنهى دراسته هناك و عاد ليجد بانتظاره مشفى صغيرا في وسط المدينة ، هذا المشفى كان استثمارا مشتركا لأبي و خالي ، و كان يفترض أن يعود أخي مع صهري ليدير معه المشفى الجديد ، إلا أنه بقي في "أوربة" ليستقبلني و يرتب أموري هناك ، و لعل هذا ما جعل والدتي لا تتضايق نهائيا من فكرة سفري و ابتعادي عنها لسنوات عدة.

يتبع ..

وسوم: العدد 733