تونس : دقّت ساعة الانتقال من الحالة الثورية إلى الحالة السياسية

منجي المازني

شكّل قرار مجلس شورى النهضة الداعي إلى ضرورة تشريك حزب  قلب تونس في الحكومة الجاري تشكيلها، والاستعداد في خلاف ذلك للذهاب لانتخابات سابقة لأوانها ، مفاجأة للرأي العام التونسي وللمهتمّين بالشأن السياسي. ولكن لا يخفى على أحد أنّ حركة النهضة كانت ولازالت تمثّل العمود الفقري للثورة وللانتقال الديمقراطي بصفة عامّة. وهنا لا بدّ من التساؤل عن حقيقة التغيّر الحاصل في الموقف النهضاوي بنسبة 180 درجة مئوية بالتمام والكمال ؟ وما الذي غيّر موقف النهضة من حركة محاربة ومعارضة شرسة للفساد وشبهات الفساد إلى حركة مدافعة قوية على ضرورة تشريك حزب قلب تونس أكبر حزب تحوم حوله شبهات الفساد ؟

الواضح بداية أنّ حركة النّهضة أرادت بهكذا موقف أن تبعث برسالة قوية اللهجة إلى جميع القوى السياسية التي تحالفت من أجل إسقاط حكومة الحبيب الجمني تثبت أنّها قادرة هي أيضا على إسقاط حكومة إلياس الفخفاخ أي حكومة الرئيس. بل وأنّها قادرة على قلب الطّاولة على الجميع ودفعهم إلى الشرب من نفس الكأس الذي شربت منه هي بنفس الطريقة وبواسطة نفس الحزب. وهكذا تبرهن للجميع أنّها قادرة هي أيضا على كشف ألاعيب الأحزاب التي تدّعي الطهورية والإصلاح والصفاء والنقاء الروحي والأخلاقي. وهي بهذا كما لو أنّها تقول لهم  : يا من تدّعون الإصلاح ومحاربة الفساد سنسقط عنكم ورقة التوت أمام الشعب. وسنثبت أنّكم غير جادّين وغير صادقين وأنّكم ستقبلون بالعمل سويّا مع حزب قلب تونس الذي كنتم تتهمونه بالفساد وتتهمون حركة النهضة بالتطبيع معه ومع الفساد.

ثانيا : كانت حركة النهضة في البداية وفيّة لمبادئها ولناخبيها عندما صرّحت بأنّها لن تتحالف مع قلب تونس الذي تحوم حوله شبهات الفساد. وكان ذلك على لسان رئيسها الشيخ راشد الغنّوشي. ولكنّ الأحزاب المحسوبة على الثورة خذلتها وغالت في ابتزازها لأنّها كانت متأكّدة أنّ  حركة النّهضة لن تشكّل حكومة سياسية مع قلب تونس. ونتيجة لذلك اضطرّت حركة النهضة لتشكيل حكومة كفاءات وطنية غير متحزّبة. ورغم ذلك تمّ إسقاطها في جلسة نيل الثقة تحت قبّة البرلمان. ولم تتحصّل حكومة الحبيب الجملي إلاّ على 72 صوتا من مجمل 217. وهي تقريبا نفس الأصوات التي صوّتت لمشروع صندوق الزّكاة(حركة النهضة+ ائتلاف الكرامة). ومن هنا بدأ المنعرج الحاسم : منعرج تغيير المعادلة من معادلة التحالف على أسس مبادئ وقيم الثورة إلى معادلة التحالف على أسس التوازنات والاصطفافات الحزبية والسياسية الخالصة. فكيف يمكن بناء تحالفات ومشاريع على قاعدة الثورة بين أحزاب أغلبها معاد للثورة ويغلب عليها الفساد المالي والإيديولوجي ؟ ذلك أنّ من يريد تغليب المنطق الثوري على أحزاب لا تؤمن به فكأنّما يحرث في البحر. وبالتّالي فمن هنا فصاعدا سنشهد تحالفات مبنية على قاعدة الوزن الانتخابي والتحالف الحزبي والبرلماني. وعليه فلا يمكن استكمال بناء بقية المؤسسات الدستورية وتمرير المشاريع وخاصّة المشاريع الاجتماعية إلاّ من خلال التحالفات والتموقعات السياسية بصرف النّظر عن منطق الثورة. 

على أنّ الذي أوصلنا إلى هذه النوعية من التحالفات يمكن اختصاره في أمرين إثنين :

أولا : انتهاج حركة النهضة منذ اندلاع الثورة منطق وأسلوب المرونة في التعاطي والتعامل مع مكوّنات المنظومة القديمة. فهي لم تدع إلى اتخاذ إجراءات إقصائية تجاهها. فقانون تحصين الثورة الذي حاولت حركة النهضة تمريره في المجلس التأسيسي واصطدم بجدار الثورة المضادة وبالاغتيالات السياسية جعلها تستدرك هذا الأمر ولا تصادق على تمريره في المرة الثانية. وهو ما جعلها تحوز على قدر من الثقة من عديد مكوّنات المنظومة القديمة. كما أهّلها لتكوين تحالفات سياسية مع عديد الفعاليات والحساسيات السياسية على أساس البرامج والتموقع السياسي لا على أساس المنطق والحس الثوري.

ثانيا : ضعف الوازع الثوري لدى أحزاب ومنظّمات ومكوّنات المجتمع المدني. فنسبة الأحزاب الثورية في المشهد السياسي والبرلماني لا تزيد عن الثلث (75 مقعد من مجموع 217). وكذلك الشأن بالنسبة للناخبين. وهو ما دفع  أحزاب ومنظّمات المنظومة القديمة لاتخاذ إجراءات وتحالفات سياسية محضة لإسقاط حكومة الحبيب الجمني تحت قبّة البرلمان عوضا عن اللجوء للشارع مثلما هو الشأن في 2013 عندما أقدمت المنظومة القديمة على ارتكاب اغتيالات سياسية والتهديد باحتجاجات واعتصامات كادت لولا لطف الله أن تقودنا إلى حرب أهلية مدمّرة. والحرب الأهلية مثلها مثل حرب البسوس يمكن أن تمتدّ وتستمرّ لعشرات السنين وتفتح الباب للتدخّل الخارجي وللمؤتمرات الدولية ولكلّ أنواع الكوارث الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ولكل أنواع الدمار الشامل.

ويستخلص ممّا سبق أنّ البراقماتية السياسية تستوجب فصل مسار الحكم في زمن الانتقال الديمقراطي عن مسار التنمية. لأنّ التحالفات السياسية المحضة التي ستهيّأ لاستقرار سياسي فيما بعد لن تكون بالضرورة على أساس محاربة الفساد.

وسوم: العدد 862