المشهد العراقي وأزمة اختيار رئيس الحكومة

د. ناجي خليفة الدهان

إن الأزمة السياسية الحاصلة في العراق حول اختيار رئيس الوزراء في ظلّ تسلّط إيران والأحزاب الموالية لها على المشهد السياسي، في محاولة لتدوير السياسيين الذين شاركوا في العملية السياسية منذ غزو العراق عام 2003 وحتى الآن لا تزال متفاقمة.

لقد طُرح اسم الكاظمي لرئاسة الحكومة إبان استقالة عادل عبد المهدي الذي اضطر لتقديمها مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها البلاد منذ أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، وعاد رئيس جهاز المخابرات العراقي مصطفى الكاظمي مجددا إلى الساحة السياسية لرئاسة الحكومة الجديدة بعد تقديم رئيس الوزراء المكلف عدنان الزرفي اعتذاره عن عدم تشكيلها.

فقررت بعض القوى الشيعية ترشيح الكاظمي في محاولة لمنع حصول الزرفي على التأييد المطلوب، ويبدو أنها نجحت في استمالة الكرد والسنة وهو ما أربك المشهد ورفع من حظوظ الكاظمي، فهذه الخطوة جاءت لترمي الكرة في ملعب رئيس الجمهورية، وهو ما يزيد من تعقيد المشهد السياسي في العراق.

وما يثير التساؤل هو لغز التمسّك بهذه الشخصية من بين مجموعة أسماء طرحت لتشكيل الحكومة رغم وجود شخصيات أخرى لا تقل عنه خبرة وكفاءة!

ويأتي ترشيح الكاظمي بعد خلافات كبيرة داخل البيت السياسي الشيعي حول الشخصية المرشحة لتولي رئاسة الحكومة ، فيا ترى ما هو السر في تغيّر المواقف؟

وكيف تمارس إيران نفوذها؟

منذ غزو القوات الأمريكية العراق، اتّبع النظام الإيراني ثلاثة سبل لمدّ نفوذه على السياسات العراقية:

تعزيز نفوذه الديني والترويج لولاية الفقيه. التموضع على أنها المحكّم الرئيس في النزاعات السياسية العراقية. تساعد إيران حلفاءها على اختلافهم على اكتساب المزيد من القّوة من خلال العملية السياسية العراقية، ثم تعمل على نشوب الخصومة فيما بينهم لتأتي منقذاً وتفضّ النزاعات بينهم غالباً ما تكون هي المسبب فيه. دعم الأنشطة العنيفة بين الميليشيات الشيعية الموالية بمثابة وسيلة للضغط على الجهات الفاعلة السياسيّة العراقية.

إن ما عقّد المشهد في عملية اختيار رئيس الوزراء الجديد وجعلها صعبة جداً، هو دخول إيران على الخط ومحاولتها فرض وجهة نظرها". وإن طهران لا تؤيد وصول رئيس وزراء من خارج القوى الرئيسية السياسية الموالية لها والتي تناوبت على رئاسة الحكومة خلال السنوات الماضية"، وقد مارست إيرانية ضغوط  كبيرة ومبكرة في هذا الشأن نحو عدد من قوى سياسية عراقية".

كثفت القيادة الإيرانية زيارتها إلى العراق لأحكام السيطرة على الحكومة، حيث أجرى شمخاني في شهر مارس الماضي زيارة إلى العراق، وعقده سلسلة لقاءات مع قيادات بارزة في العراق، تركز على ملف تشكيل الحكومة، وبعده قام مسؤول الملف العراقي في حزب الله، محمد كوثراني في حراك واسع للوساطة، وتوحيد وجهات النظر بين القوى السياسية العراقية المسؤولة عن تسمية رئيس جديد للحكومة، حاول كوثراني تقريب  وجهات النظر وحلّ الخلافات بين القوى السياسية الموالية لإيران ، وذلك قبيل ساعات قليلة على انتهاء مهلة حدّدها الرئيس العراقي برهم صالح للقوى السياسية من أجل تسمية مرشحها للحكومة، جرت الاجتماعات في منزل زعيم منظمة بدر هادي العامري ومنزل زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم استضافا سلسلة من الاجتماعات، لبحث مصير الزرفي وإمكانية استبداله، وأفضت هذه الاجتماعات إلى التوافق على ترشيح رئيس جهاز المخابرات مصطفى الكاظمي لمنصب رئيس الوزراء، الذي تمّ استبعاده منذ البداية بعد توجيه التهم الخطيرة إليه، كما التقى كوثراني بالسفير الإيراني في العراق إيريز مسجدي وشخصيات من الحرس الثوري الإيراني من قوة القدس مكلفين بملف اختيار رئيس الوزراء من الدائرة الخاصة لقائد فيلق القدس".

وكان للحضور العسكري التابع لإيران (المليشيات التابعة لإيران، والحرس الثوري الإيراني) أثر كبير على المشهد السياسي في العراق، فالإيرانيون يرغبون بحسم الملف سريعًا خوفًا من تطوّر ثورة الشباب العراق واتساع حدّة الانقسام السياسي بين حلفائهم"، مؤكداً أن "الإيرانيين يرغبون بدور أكبر للمالكي (رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي)، كما أنهم يسعون إلى أي اتفاق حيال الأزمة حتى لو كان إبقاء عادل عبد المهدي إلى حين إجراء الانتخابات.

لماذا ترشّح الكاظمي؟

الكاظمي غير متقاطع مع إيران وسبق أن التقى الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، في زيارته الأخيرة للعراق مطلع الشهر الماضي، وزار إيران آخر مرة مطلع عام 2019 والتقى بمسؤولين فيها، كما تربطه علاقة مع مسؤولين أميركيين، وحاول في وقت سابق أداء دور وساطة بين السعوديين والإيرانيين.

فرئيس جهاز المخابرات مصطفى الكاظمي الذي أعيد طرح ترشيحه مرّة أخرى لم يكن ضمن دائرة المرشحين الشيعة الضيقة التي ضمت بين مرشحيها الزرفي، لأن الكاظمي تم استبعاده منذ البداية بعد توجيه التهم الخطيرة له، ومن أبرز المواقف المعلنة لرفض ترشيح الكاظمي، ما صدر عن المسؤول الأمني في ميليشيا كتائب حزب الله العراقي أبو علي العسكري في مارس الماضي من العام الماضي واتهامه للكاظمي بمساعدة الولايات المتحدة لتنفيذ عملية مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.

واستمرّ تصعيد القوى السياسية ضدّ الكاظمي، إلا أنه تلاشى بعد لقاء الأخير بشمخاني في زيارته الأخيرة للعراق، مطلع الشهر الماضي، ولقاءات محمد كوثراني الأخيرة وبرز مجدداً اسمه مرشحاً توافقياً بدلاً من الزرفي، وأعلنت خمس كتل شيعية اتفقت على تسمية رئيس جهاز المخابرات مصطفى الكاظمي كمرشح لرئاسة مجلس الوزراء بديلاً عن عدنان الزرفي، الكتل: هي الفتح، ودولة القانون، والحكمة، والنهج الوطني "الفضيلة"، والسند الوطني.

أما تحالف القوى العراقية الذي يضم العديد من النواب السنة ورئاسة إقليم كردستان العراق أعلن تأييدهما لما وصفاه بتوافق الكتل السياسية الشيعية على ترشيح رئيس جهاز المخابرات العراقي مصطفى الكاظمي لرئاسة الوزراء بديلا عن المكلف عدنان الزرفي، أنه جاء بناء على اتفاق ـ صفقة جرى بين جميع الشركاء السياسيين، بما فيها القوى السنّية والكردية التي ضمنت أنها ستحصل على ما تسميه استحقاقها الانتخابي من مناصب في حكومة الكاظمي الجديدة. فالاتفاق على الكاظمي هو اتفاق على نقطة مشتركة وسطية بين مختلف القوى السياسية وكذلك بين الأميركيين والإيرانيين.

فبعد فشل إيران في التصعيد العسكري والضغط على الولايات المتحدة للخروج من العراق، حين حاولت تكبيد القوات الأمريكية أكبر قدر من الخسائر لإجبارها على الانسحاب ولكن المحاولات كلها لم غيير شيئا ولم تجبرها على الانسحاب، وتمكن الأمريكان من استيعاب الموقف، وإعادة التموضع  في مواقع أكثر أمانا لقواتها، فضلا عن تعزيز الحماية ضدّ سلاح الجو مما أفشل كل مخططات ايران، وخسرت إيران المعركة العسكرية  كما أثبتت فشلها السياسي، من خلال تصاعد وتيرة الكرة لها في محيطها الإقليمي والدولي وخاصة في العراق وبالتحديد في مناطق الجنوب العراقي ووسطه.

فلماذا أعيد ترشيح مصطفى الكاظم رغم اتهامه؟

جرى تنسيق من خلال بعض القنوات الدبلوماسية بين القوى السياسية العراقية مع واشنطن في إعطاء وعود  لإيران بأن مجيئ الكاظمي سوف يعيد عقد المحادثات مع الولايات المتحدة حول انسحاب قواتها من العراق، فقد وجدت إيران في ذلك مخرج لها لسببين

الأول: إن إيران لا يسمح لها بالتفاوض مع أمريكا حسب أوامر خامنئي.

الثاني: إن إيران خسرت المعركة العسكرية، فهذه فرصة لها كي تفوز بالمعركة السياسية عن طريق طرف ثالث.

وتم إقناع ايران بأن مجيئ الكاظمي سوف يحققّ الهدف الإيراني في إخراج القوات الأمريكية من خلال المباحثات والتفاوض بعد فشلهم في إخراجه من خلال العمليات العسكرية باستخدام (المليشيات)، فما لم يحصلوا عليه بالسلاح سيحصلون عليه عن طريق حكومة الكاظمي، فوافقت إيران وأمرت أتباعها (شمخاني، ومحمد كوثراني) بالموافقة، فانقلب الموقف إلى تأييد ترشيح الكاظمي، لأنها تمثل فرصة ذهبية لإيران للتخلص من التواجد الأمريكي، وبعدها سوف تنفرد في العراق، وتقضي على ثورة الشباب العراقي الذي أصبحت تؤرقها بشكل كبير، وستعيث في العراق فسادا، وتحرّك العناصر المتطرفة لإرباك المشهد من جديد،  وإثارة الحروب الطائفية وإعادة سيناريوا الحرب الأهلية، وبذلك تستطيع  القضاء على ثورة الشباب، وسوف تتخلى عن حلفائها لأنها لم تعد بحاجة إليهم.

ثورة الشباب والمستقبل

لقد كشفت الانتفاضة الجارية حقائق عن الشعب العراقي غابت لفترة طويلة، وبالتحديد منذ بداية الاحتلال، حيث حاول المحتلون ومن أتى معهم أن يرسموا صورة مغايرة عن هذا الشعب الكبير. فعلى سبيل المثال تم تصوير العراقيين بأنهم راضون ومؤيدون للسياسات الطائفية، بل والتقسيمات الطائفية، وأن الشباب العراقي أصبح سطحيًا ووقع ضحية للمخدرات التي تأتي من الخارج، وفي الغالب الأعم من ايران، وأن العراقيين متمسكون بالوجوه الطائفية العرقية الفاسدة التي جاءت مع الاحتلال إلى غير ذلك من المفاهيم الخاطئة التي حاولت أجهزة إعلامية كثيرة أن تروّج لها كل حسب أجنداته، وهذا ما جعل الأحزاب السياسية المشاركة في العملية السياسية تستمر في غيها ودون اعتبار لمشاعر الغالبية العظمى من العراقيين. ولعل أكثر ما أوضحته الانتفاضة العراقية اليوم هو حجم الرفض:

أولا: لهيمنة الأحزاب والشخصيات الفاشلة والفاسدة.

ثانيا: الرفض للنفوذ الإيراني في البلاد .

ثالثً: المحاصصة المقيتة.

والأهم أن هذا الرفض انفجر في المحافظات الجنوبية التي تسكنها غالبية شيعية كانت تؤيد إيران، وكانت الأحزاب الطائفية التي تسير في فلك إيران تدعي بأن هذه المناطق تشكل بيئتها الداعمة. لكن أهلنا في جنوب العراق يدركون جيدا بأن إيران وأتباعها يحاولون أن يفرضوا وصايتهم عليهم وعلى العراق لأسباب مذهبية.

إن المتظاهرين سحقوا هذه الأقاويل والأباطيل بإصرارهم على رفع علم العراق فقط والتحدث كعراقيين وليس كمكونات. ومن يريد أن ينفذ أجندات خارجية في العراق، إقليمية كانت أم دولية، عليه أن يفعل ذلك خارج العراق، لأن الوعي العراقي الشعبي الجديد لن يسمح ببقائهم.

والسؤال الذي يبقى مفتوحا هل حكومة مصطفى الكاظمي  قادرة على معاجلة كل الملفات المعقدة في ظل تدهور وضع الاقتصاد العراقي، وانتشار فيروس كورونا، فضلاً عن مطالبات الحراك الشعبي بعد انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وأهمها محاسبة قتلة المتظاهرين، وملاحقة الفاسدين وإنهاء التأثير الخارجي على السياسية العراقية، وإبعاد البلاد عن الصراع الأميركي – الإيراني؟!!

عاشت ثورة الشباب وحفظ الله العراق وشعبه من كل سوء

وسوم: العدد 874