ذكريات يهودي حلبي

ادوار هلال

من أجمل ما قرأت اليوم:

منذ مدة كنت في زيارة لمدينة ميلانو الإيطالية. دعاني صديق حلبي مقيم هناك لشرب القهوة في مقهى يقع في Galleria Vittorio Emanuele. بعد دقائق اتسعت حلقة الحلبية وأحسست نفسي وكأني في مقهى البرازيل بشارع بارون. كل واحد يسألني سؤال عن حلب.

كالعادة انتقل الحديث الى الأكلات الحلبية ومقارنتها مع أطباق ميلانو.

الطاولة المجاورة كان يحتلها رجل كبير السن بصحبته سيدة. يرتشف من فنجان قهوته، ويستمع الى لهجتنا الحلبية، يكلم السيدة بصوت خافت ويبتسم. كان أحدنا يصف صحن الحمص الحلبي. قاطعنا الرجل قائلا بلهجة حلبية ظننتها  في البداية مصطنعة: ''شط ريقي يا اخوان'' (سال لعابي). أنا اسمي فؤاد كندي. كان عندي محل لبيع أدوات الرياضة في شارع فرنسا بحلب  على القرنة، مدخل السنترال ، ببستان الكلاب وكان في الشارع امامي مطعم بشور.

أنا حلبي يهودي.

ساد صمت ونحن نستمع الى هذا الختيار. التفت الي وقال يظهر انك جايه ( تازا ) من حلب. بربك خبرني شو صار بشارع اسكندرون؟ قلت هو بألف خير تطور واصبح سوق تجاري غني . شرب آخر ما تبقى من قهوته ،و على وجهه مسحة من الحزن وقال : آه على حلب وأيام حلب . اشعلتم في صدري نار تحرقني . كنت اسكن في شارع اسكندرون امام نادي عسكري . انا وبطريقي الى محلي صباحا اجلس بعض الوقت مع أصحابي في قهوة البِلوّر . ابو عدنان وأبو حكمت وغيرهم . اشتري لحمتي من مكان معين واذهب لعند المستت . قاطعته . مستت كان جنب محلك . لا كان في باب الفرج جنب كراج عزيزة . بعدين انتقل . كنت اعمل عنده عِش البلبل . عجينة مورقة ، القيمة متبلة بأطيب دبس رمان وكان يخبزه بالفرن جنبو . ما أصل البيت الا ويكون نصفه اصبح في بطني . كانت كلماته تتغلف حيناً بالفرح وحيناً بالحزن . كان عندنا جارة ، ام عبدو ، الله يكلا . مسلمة . انتو اسلام وإلا مسيحية ؟ أجبته كوكتيل . كانت يوم السبت تدخل لعند زوجتي وتقوم بكل ما يلزمها حتى الطبخة . منين بدك تلاقي هيك ناس ؟ كنا مثل عائلة واحدة . هجرونا وجابونا لبلاد غريبة لا مناكل طعامها ولا منشرب مشزوبها . الله يسامح اللي اقتلعنا من مجتمعنا الحلبي .

كنت أقف في شارع اسكندرون ،ومثل الاولاد ، انتظر ، مساءً ، قدوم الرشاشة . سألته ما هي الرشاشة ؟ وأخ ما بتعرفها ؟ سيارة الإطفائية تجي كل ليلة ترش الشوارع والأرصفة . يا الله كم كانت ريحة تراب حلب منعشة بعد الرش . لا تزال بأنفي حتى اليوم . كنتو عمال تحكو على الحمٓص . بتعرفوا ان الحمـص اكلة يهودية . كنت اروح من الجميلية حتى التلل . كان في واحد حمصاني اسمه الأحمر . كنت آخذ معي الطحينة والليمون الأصفر . هو كان يستعمل ملح الليمون . يضع هالحمص المسلوق في طنجرة نحاس ويخفق ويخفق بمدق خشبي حتى يصير متل المرهم . يسكبه في الصحن ويزسم عليه زهرة بالكمون والفليفلة الحمرا .

هنا بفطروني كرواسان . في حلب كنت أفطر شعيبيات بقشطة وبنارين والفول مع النعناع الأخضر.

قلت في نفسي لو تركنا له المجال لاستعاد كل ذكرياته عن شوارع حلب وأهل حلب وحمص حلب و لقضينا النهار بطوله نستمع لذكرياته . لم يكن منتظرا مغادرتنا لذا ونحن نودعه كان كمن فقد فجأة شخص عزيز . لولا سيطرته على نفسه لانهمرت الدموع من عينيه . اعتقد حزن من قطعنا عليه حبل ذكرياته الدفينة في داخله عن حلب .

آخر ما سمعت منه : بوسوا عني كل حجرة من حجار حلب .

هل هذا الانسان يهودي حلبي أم حلبي يهودي ؟

ما هو الوطن ؟ هل هو حيث ولدنا وترعرعنا وعملنا وحيث جذورنا ثم هزمنا ورحلنا ؟ ام هو تلك الارض التي استقبلتنا وأمنت لنا الاستقرار والامان والعيش الكريم ؟

سؤال طرحته على نفسي: أنت لا تسكن في وطن، الوطن يسكن داخلك ويسري في أدق شريان من شرايين جسدك، وفي النتيجة، مهما بعدت فأنت مربوط الى جذورك.