علّقوا المشانقَ لأعضاءِ الوفدِ اللبناني...في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع العدو

عبد الله قمح

إلى أيّ حد يُفترض أن نكون ساذجين كي نصدّق أن ما يقدم عليه أركان الدولة، في شقيها العميق والسطحي، لرفع "خط الـ٨٦٠ كلم٢" وجعله سقفاً للتفاوض على ترسيم الحدود مع العدو الإسرائيلي مقابل إسقاط خط الـ١٤٣٠ كلم٢، يأتي لمصلحة لبنان؟

في الواقع، لم يكن المستوى السياسي اللبناني، في كافة محطاته، عند مستوى تناول قضايا وطنية من هذا النوع. سابقاً، أحيل ملف ترسيم الحدود اللبنانية الجنوبية براً إلى أركان الدولة، كان ذلك خلال فتوّة الدولة وفي ذروة انبعاث روح الاستقلال في نفوس الامة، كانت النتيجة ان قضمت القرى السبع وضاعت مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وتلة العديسة وما يقارب نصف كروم الشراقي في ميس الجبل وهلم جرّ... لغايته ما توحد اللبنانيون حول مسألة لبنانية تلك المناطق من عدمها.

لاحقاً، خلال مفاوضات تحديد الخط الأزرق بعيد التحرير عام ٢٠٠٠ جرى السكوت عن طمس معالم كيلومترات لبنانية شاسعة بحجة الترسيم، وقد سقطت لاحقاً "بعامل الزمن" وأخذت معها نصف قرية الغجر عام ٢٠٠٦ وما زال الجرح مفتوحاً حتى اليوم، فما هي المصلحة المستمرة اذاً من إيكال المستوى السياسي صلاحية البت بقضايا كبرى من هذا النوع؟

إنها الخلافات، او على نحوٍ أدق، اختلاف الرؤى حول طبيعة الحق اللبناني الذي يكاد يضيع "دهساً" بين وجهات النظر المتباينة، بين ما هو تقني وسياسي، أو في الواقع، بين أرتال السياسة ومصالحها العائمة على سطح البلد، والآن أتى الدور على ملف حقوق لبنان البحرية، كي يتم الإجهاز عليه تحت العناوين ذاتها، عناوين براقة تخفي بين طياتها مصالح سياسية وشخصية ذاتية و متنافرة.

إنه لأمر جلل مثلاً، أن نشاهد كل المستويات الاسرائيلية تتوحد خلف وفدها المولج أعمال التفاوض مع لبنان دفعة واحدة. تكاد لا تسمع في تل أبيب من يعترض على ما يطرحه المستوى العسكري مثلاً من أفكار حيال الترسيم، بينما على الضفة اللبنانية الوضع على نقيض ذلك تماماً، نرى التباين يحكم، لا بل أن المصالح السياسية شديدة البعد عن المسارات الوطنية تصبح هي المقررة، بينما أصحاب "الكار" الذين يفترض أنهم أنساب العلم، يجري طمس معالم رؤياهم، تحت ذريعة الخوف من نتيجة تقديراتهم.

عملياً، من يجب أن يخاف من طرح الـ١٤٣٠ كلم٢، اي استرداد ما ينحو عن ٢٢٩٠ كلم٢ من المياه اللبنانية، هو الجانب الاسرائيلي وليس المستوى السياسي اللبناني، الذي وعلى ما تدل جميع الوقائع مجتمعة أنه أضحى أسير الوعود المعطاة إلى الجانب الاميركي بذريعة "إتفاق الإطار".

في الواقع، لم ينص "اتفاق الإطار" على مساحة الحدود اللبنانية، لا بل وفي حالة التدقيق يتبين أن الجانب العسكري اللبناني أودعَ المستوى السياسي عام ٢٠١٢، اي قبل ٨ أعوام من الوصول إلى إتفاق الاطار أو أي من مشتقاته التفاوضية، بيانات رؤية ترسيمية أعدها فريق لبناني مختص ممثل اليوم ضمن فريق التفاوض، وقد ثبّت رؤيته من خلال تقرير أعده المكتب الهيدروغرافي البريطاني عام ٢٠١١ الذي طلب حضوره بناء على طلب لبناني و لقاء "عمولة"، وذلك قبل صدور المرسوم رقم ٦٤٣٣/٢٠١١ الذي حدد حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة وأودعها لدى الأمم المتحدة مع علمه المسبق بما خطه المكتب البريطاني في حينه، وقد بينت الدراسة اللبنانية التي اتمّتها قيادة الجيش ثم المراجعة البريطانية حق لبنان بمساحة ٢٢٩٠ كلم٢ من منطلق علمي بحت، وقد بنيَ ذلك على سلسلة اتفاقات مشابهة وقعت بين دول دخلت بنزاعات على حقوقها المائية، رغم ذلك، جرى التكتم على الدراسة التي اودعت غياهب الادراج بعد ان سلّمت للمستوى السياسي، ثم لاحقاً جرى الاجهاز عليها من تفس الجهات عبر تخطيها باتفاق الإطار، والآن عدم منح الإذن باعتمادها سياسياً كمرسوم مفترض إيداعه الأمم المتحدة، تحت ذريعة أنها تهدد مسار التفاوض وحقوق لبنان المستقبلية، في تناغم واضح مع الدعاية الاسرائيلية التي ابدت التشاؤم ذاته منها!

المشكلة الحالية لا تكمن فقط بالتشكيك في خلفيات أعضاء الوفد الوطنية ودوافعهم المستندة علمياً على الحسابات وحق الشعب اللبناني بمياه تخفي تحتها مئات أطنان الدولارات " الفريش "، بل في توافر نوايا سياسية لطمس معالم حقوق لبنان والاستعاضة عنها بخط "مسخ" يتيح للاسرائيليين التنقيب في حقول لبنانية صرفة هي ملك للشعب اللبناني، لقاء وعود "حجرية" بإتاحة الفرصة لنا بالتنقيب بما تيسّر من حقول، علمياً تُعد عرضةً لمخاطر السلب الاسرائيلي في حال مباشرة التنقيب من تلك الجهة.

اللافت أكثر، ان جزءاً من المستوى السياسي الذي وعلى فرضٍ، يعد راعياً لحقوق لبنان ومدافعاً عنها بوجه المطامع الاسرائيلية، ما زال يزاول مهنة الصمت. حتى الآن، لم يجد أعضاء الوفد ولو داعماً واحداً على كامل المسطح السياسي الذي بات عرضةً للاسر أو الخداع رغم أن طروحاتهم القائلة بحق لبنان بـ٢٢٩٠ كلم٢، لا تقل أهمية عن حق استرداد مزارع شبعا وتلال العديسة وكفرشوبا او القرى السبع أو نصف قرية الغجر او الجزء المسلوب من كروم الشراقي، وتراهم يشاهدون تخلي المستوى السياسي اللبناني عن حق لبناني مجاناً لمصلحة إرضاء الفريق الأميركي. الذي يجدر سؤاله أكثر من غيره عن سر صمته، هو الفريق المتبني لوجهة نظر المقاومة، وجهة النظر ذاتها التي ينطلق منها أعضاء الوفد في تعاطيهم مع مسألة الترسيم، النقطة ذاتها التي لا تقل اهمية عن كل الكيلومترات المسلوبة من التراب اللبناني.

يجدر إذاً نصب المشانق لاعضاء الوفد اللبناني، تحديداً المدنيين منهم الذين ما ساوموا على حق لبناني بل ما برحوا منهجية المحاولة لتأمين مرسوم يعطي لبنان حقه ولو لم يعترف احد به، قبل حزيران المقبل تاريخ انتهاء الحلم اللبناني بمياهه وما تحت تحتها من ثروات ...!

وسوم: العدد 912