قيمنا… نبع السعادة وركن النجاة

د . سندس اللامي

dfdff1126.jpg         

حين يتأمل الإنسان معاني السعادة، يدرك أنها ليست لحظة فرح عابرة، ولا متاعاً مادياً زائلاً، بل هي حالة من الاتزان النفسي والسلام الداخلي، تنبع من أعماق النفس حين تستقر على قيم راسخة ومبادئ سامية. فالقيم الأخلاقية والروحية هي الجسر الذي يعبر بنا فوق أمواج الحياة المتقلبة، وهي البوصلة التي توجه خطواتنا وسط تيه العالم المادي.

لقد علّمنا التراث الإسلامي العظيم، والقرآن الكريم والسنة النبوية، أن السعادة الحقة تنبع من الإيمان، ومن الثقة بحكمة الله تعالى في كل ما يجري لنا. قال تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير" [الحديد: 22]. فحين نوقن بأن كل أمر بقدر، تهدأ نفوسنا وتطمئن قلوبنا، وتستكين أرواحنا إلى أن وراء كل محنة حكمة، ووراء كل ألم درساً.

ومن بين القيم التي تُكسِب الإنسان طمأنينة وراحة: الصبر، والرضا، والتوكل، والصدق، والعدل، والإحسان، والبرّ، والتواضع. كل واحدة منها نور يهدي، وسلاح يحمي، وسفينة تنقلنا إلى برّ السكينة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".

السعادة بالقيم لا تظهر فقط في التعامل مع النفس، بل في كل تفاصيل الحياة، وأهمها الأسرة، التي تُعد البيئة الأولى التي تُزرع فيها القيم وتُسقى حتى تنبت وتثمر. وما أحوجنا في زمن التكنولوجيا السريعة، والإعلام المشتت، إلى غرس قيم الرحمة والبرّ والحوار في قلوب أبنائنا، بدل أن نتركهم ضحية تيارات لا ترحم، وصداقات قد تجرهم إلى مهاوي الضياع.

استوقفتني ذات يوم قصة قرأتها عرضاً، كانت حافلة بالدروس التي لا تُنسى، وتحمل في طياتها مرارة الواقع حين تُهمل القيم ويُهمَل العمل بها. كان بطل القصة أباً غاب عن أسرته من أجل العمل في بلد بعيد، تاركاً وراءه زوجة وثلاثة أبناء. أرسل إليهم رسائل دورية مليئة بالنصح، والمشاعر، وحتى المال، إلا أن أبناءه، بدلاً من فتح الرسائل وقراءة محتواها، كانوا يكتفون بتقديسها وتقبيلها، ويضعونها في صندوق قطيفة، وكأن القيمة في المظهر لا في المضمون.

ومرت السنوات، وعاد الأب ليجد أسرته قد تفرّقت وتمزقت: زوجة ماتت لأنهم لم يفتحوا الرسالة التي احتوت مالاً يكفي لعلاجها، وابن انحرف لأنه لم يقرأ وصية أبيه بالبعد عن رفقاء السوء، وابنة تزوجت بمن حذّرها والدها منه فذاقت مرارة التعاسة. لقد كانت النتيجة مؤلمة؛ لأنهم لم يفتحوا الرسائل، لم يقرؤوها، لم يعملوا بها.

وما أكثر الرسائل التي تصلنا في حياتنا اليومية: في آيات الكتاب العزيز، في وصايا الوالدين، في مواقف الحياة، في تجارب الآخرين. ولكن، كم منّا يفتح الرسائل؟ كم منّا يقرأ ويعمل؟!

يحكي أحدهم قائلاً: كنت أحتفظ بمصحف ورثته من والدي داخل علبة قطيفة، في مكان بارز من غرفتي، أنظر إليه أحياناً بعين التقدير، وأغفل عن قراءته، حتى أدركت أنني أكرر مأساة أولئك الأبناء الذين لم يقرؤوا رسائل أبيهم. عندها قمت، واغتسلت، وفتحت المصحف، واستشعرت كم كنت محروماً من نور الله وهدايته.

إن القيم ليست أناشيد نرددها، ولا عبارات نعلقها على الجدران، بل هي منهج حياة، تُمارس في كل لحظة. هي الصبر في مواجهة الألم، والعفو في ساعة الغضب، والصدق حين يَسهل الكذب، والرحمة في زمن القسوة.

نحن في حاجة ماسة إلى استعادة الوعي بقيمنا الإسلامية والإنسانية، وتربية الأبناء عليها تربية عملية لا نظرية. وللمربين والمربيات، دورهم العظيم في نقل هذه القيم، لا بالكلمات فقط، بل بالسلوك، بالمواقف، بالقدوة.

وختاماً، فإن سعادتي الشخصية – كأم، وكقيادية في العمل المجتمعي – لا أستمدها من مناصب ولا إنجازات، بل من تلك القيم التي أعيش بها، وأحاول أن أزرعها فيمن حولي. فالسعادة الحقيقية، هي في أن تعيش لأجل الآخرين، أن تعطي، أن تهدي، أن تؤمن بأن القيم طريقك إلى الله، وإلى قلب كل إنسان طيّب يبحث عن المعنى.

وسوم: العدد 1126