الثورةُ السوريةُ، وسياسةُ سَدِّ الذَّرائع

محمد عبد الرازق

محمد عبد الرازق

يكادُ حديثُ المجالس أن يكون خالصًا عن ترك الشعب السوري لقدره، و الدولُ الفاعلة في الملف السوري لا تفتأ  تبحث عن الذرائع، و الحُجَج التي تُبرر بها مواقفها الباردة تجاهه، و من واجب القائمين على أمر الحراك الثوري بشقيه: المدني، و العسكري أن يسعوا لتفويت الفرصة عليهم، و يعملوا بسياسة سدِّ الذرائع؛ حتى لا يبقى لهم في القوس ثَمَّةَ منزع يرموا به الثورة بأنها ليستْ على مستوى الحدث، و بأنّ مساندتها مغامرة سياسية غير مضمونة النتائج.

و من تلك الذرائع التي يتكئون عليها:

الذريعة الأولى: تشتُتُ المعارضة، و انقسامُها، و هنا يجب أن نميِّز بين الوحدة والإجماع، فممَّا لا شك فيه أن ملايين الأشخاص الذين يخاطرون بحياتهم من أجل محاربة نظام الأسد لا يفكرون جميعهم بالطريقة نفسها حول القضايا المتداولة، كما أنهم أيضا ليسوا جميعهم أعضاء في حزب واحد.

  ففي مجتمع يئن تحت وطأة حكم حزب واحد منذ ستة عقود، لا يكون التوحد الظاهري في كثير من الأحيان إلاَّ مجرد واجهة، وبمجرد انهيار تلك الواجهة، سيظهر أن المجتمع منقسم إلى عدد لا نهائي من الأقسام. ففي أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، ظهر ما لا يقل عن 120 حزبًا سياسيًا من مختلف الاتجاهات من تحت أنقاض الشيوعية. وفي العراق، ظهر ما يزيد عن 200 حزب سياسي في مرحلة ما بعد صدام حسين.

  وعلى أي حال، فإن ما يتمناه المرء لسورية هو نظام تعددي يكون للناس فيه القدرة على التفكير والاعتقاد والتصرف بشكل مختلف في إطار حر ومقبول في ظل حكم القانون؛ فسورية عبارة عن فسيفساء من المجتمعات العرقية والدينية التي ينبغي أن يكون لها صوت مسموع سواء في المعارضة أو في سورية المستقبل.

إنَّ المعارضة السورية متحدة بشأن القضايا الرئيسية؛ فالأحزاب والجماعات المشاركة في الثورة السورية جميعها تطالب بتنحي بشار الأسد عن الحكم؛ ممَّا يمهد الطريق لتشكيل حكومة انتقالية في البلاد. وهم يصرون على ضرورة استبدال نظام الأسد بنظام آخر تعددي، يتمّ فيه اختيار الحكومات عن طريق انتخابات حرة ونزيهة.

  غير أنَّ الذي ينبغي أن يوضع على الطاولة أمام تلك الدول أنَّ المعارضة السورية قد حرصتْ على أن تكون موحدة ما أمكنها الأمر؛ فبادرت إلى الانضواء تحت مظلة (المجلس الوطني السوري)، الذي تمَّ الاعتراف به رسميًّا من قبل (30 ) دولة على أنه الممثل الشرعي للشعب السوري، و هاهو اليوم يعلن إطﻼق ﻣﺸوع اﻟﻤﺠﺎﻟ اﻟﻤنية ﻹدارة اﻟﻤﻨﺎط اﻟﻤﺤرة ﻓﻲ هذه اﻟﻔﺘة، ثم في اﻟﻤﻨﺎط الأخرى ﻛﺎﻓﺔ بعد ﺳﻘط اﻟﻨﺎم. على أن تتطلع كتائب الجيش الحر بالأمور العسكرية، و الأمنية، في حين توكل الأمور المدنية، و الخدمية للمجلس الوطني، و لشخصيات عامة ذات خبرة و دراية في المجتمع السوري؛ مستفيدين في ذلك من التجربة العراقية التي لا ينبغي أن تمرّ فيها سورية بعد سقوط النظام.

   و ما من يوم إلاَّ و يأتي خبرٌ عن توحّد الكتائب المسلحة تحت لواء المجالس العسكرية، و الثورية في المحافظات السورية الأربعة عشر.

الذريعة الثانية: عدم وجود إقامة (مناطق محررة)، على غرار ( بنغازي ) في ليبيا. يقول المتحدث الرسمي باسم أوباما: (أين بنغازي السورية) حتى نتدخل عسكريًّا في سورية لحماية السوريين من هجمات الأسد؟

   إن في هذه المقارنة مغالطة واضحة؛ فليبيا دولة شاسعة المساحة وسكانها يعيشون في مناطق متفرقة، ومن دون الغطاء الجوي الذي وفره حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، ما كان من المرجح أن تستمر مدينة بنغازي في صمودها أمام القوات الجوية والفرق المدرعة التابعة للعقيد معمر القذافي.

  و على الرغم من ذلك، تمكنت كتائب الجيش الحر من فرض ( مناطق محررة) في خمس محافظات على الأقل ( الحسكة، دير الزور، حلب، إدلب، درعا ). و يمكن لها أن تستوعب خمسة ملايين مواطن سوري، فضلا على 250 ألف سوري فروا إلى الدول المجاورة. و بهذا يمكن للمعارضة إقامة مدن مصغرة كثيرة على شاكلة بنغازي، و الأمر يزداد واقعية بعد سيطرة الجيش الحر على أجزاء كبيرة من مدينة حلب، أكبر المدن السورية من حيث عدد السكان، و بذلك يمكن للدول أن تخلي مسؤوليتها من أزمة النزوح التي أرقت جنبها، و لم تعد قادرة على حلّها من دون مساعدات دولية هزيلة.

الذريعة الثالثة: عدم وجود ضمانات من وصول السلاح إلى جماعات متطرفة،ولا سيما الوافدة من خارج سورية، و هو الأمر الذي أجهد الصحفيون الغربيون أنفسهم في تتبع أشخاصه، و تصويرهم في ساحات القتال في حلب، و باب الهوى الجديد. و لم يألُ النظام جهدًا في الحديث عنه منذ وقت مبكر.

إنَّ ما تشهده سورية من جرائم وحشية ليستدعي كثيرًا من أصحاب العواطف الإنسانية؛ بلها القومية، و الدينية كي يهبوا لنجدة إخوانهم السوريين، و هو ما كان من الأوربيين أيام الثورة الأسبانية حيث هبَّ آلاف الشُّبّان المسيحيين للتخلص من فرانكو، و ما كان من أمريكا عندما أرادت أن تثأر لهزيمتها في فيتنام من الاتحاد السوفييتي في أفغانستان فاستعانت بالمجاهدين المسلمين من شتى بقاع الأرض.

 و هو ما كان من نظام الأسد؛ فلقد غصت أزقة المدن السورية بأزلام حلفائه من: إيران، و لبنان، و العراق. و حتى الحوثييون لم يتعافى السوريون من أذاهم. 

و مع ذلك فإنَّ أقصى ما وطأ أرض سورية من هؤلاء لا يتجاوز بضع عشرات، و معظمهم جاء لأغراض إنسانية بحتة، ثمَّ وجدوا من الفظاعات ما حملهم على المشاركة في نصرة إخوانهم السوريين، و هم لا يمثلون عبئًا على الكتائب الوطنية المقاتلة في الميدان، و قد قلَّ عددهم بعد مقتل قائدهم السوري (العبسي ) في منطقة باب الهوى.

  و أمَّا ما تنقله وكالات الأنباء من رايات لهم ما تزال ترفع في بعض المناطق؛ فالأمر لا يعدو شعورًا بالإحباط من تقاعس الدول الصديقة للشعب السوري تجاه الوحشية المفرطة للنظام؛ فوجدوا في رفع هذه الشعارات لجوءًا إلى الله، و إخلاصًا للشكوى له، من غير أن يضمنوها أيّة دلالات عقائدية يتخوف منها الغرب. و إذا فَهِمَ الغربُ منها غير ذلك؛ فهذا يدلّ على قصور عنده في فهم نفسيّات الشعوب عند الأزمات.

 

  إنّ دول الاتحاد الأوروبي، و أمريكا ليسوا جادّين في إمداد الشعب السوري بالأسلحة التي تخفف من محنته، و هو ما يصرحون به في كل المناسبات، فلقد أعلنها وزير الخارجية البريطاني (وليم هيغ )، و أعلنتها صراحة الوزيرة ( كلينتون )، و هاهي فرنسا أقرب الأصدقاء للشعب السوري يعلن وزير دفاعها ( جان ايف لو دريان ) في مؤتمر صحفي ببيروت: ليست لدينا أيَّة نية اليوم، أو غدًا، في تقديم أسلحة إلى المعارضة السورية.

  و حتى الحبر الأعظم و هو في طريق زيارته التي يقوم به إلى لبنان يعلن معارضته تسليح الشعب السوري؛ بحجة الحفاظ على السلم و المحبة بين الشعوب. 

الذريعة الرابعة: الخوف من أن يؤدي سقوط الأسد إلى صعود الإسلاميين المتشددين.

لقدظلت هذه الكذبة القديمة تستخدم على مدار عقود طويلة، فقد استخدمها كثير من الطغاة العرب في تبرير تشبثهم في السلطة لفترات طويلة. وهو ما كان من ( مبارك، و بن علي، والقذافي). و نظام الأسد ليس مبتدعًا في ذلك؛ فهو على آثارهم سائرٌ.

  و كان الغرب يبارك لهم هذه الهرطقات الدعائية، و يمدهم بكلّ أنواع الدعاية التي تعينهم في التسويق لها. و قد وصلت الحال ببعض الخبراء الغربيين ما جعله يقولها بلا مواربة: لا ينبغي للعرب أن يحصلوا على الحرية، لأنهم إذا حصلوا عليها سيقومون مباشرة باختيار المجاهدين الإسلاميين، وإعلان الجهاد على العالم الخارجي.

  والحقيقة أنه عندما تجرى انتخابات تعددية نظيفة بصورة شفافة؛ فإنه ينبغي يترك للسوريين حرية اختيار الأشخاص الذين يقتنعون بتمثيلهم، وليس من يفضلهم الآخرون لهم.

  إنَّ قدر هذه الثورة أن تنتصر؛ فلقد قالها التاريخ مرارًا: إنَّ إرادة الشعوب أقوى من إرادة الجلاّد؛ و ما على الآخرين سوى أن يباركوا هذا الانتصار. و يكفي السوريين من دون الشعوب الأخرى أن ثورتهم هي ( الثورة اليتيمة )، و سيثبتون لكلّ من يتقاعس اليوم عن نصرتهم أنهم حصلوا على حريتهم بالحفر على جدران السجون بأظافرهم، و بالتضحية بفِلْذات أكبادهم، و بحصاد أعمارهم من العمران، و المال.