متى ستتخذ الطائفة قرارها بالانفضاض عن الأسد

محمد عبد الرازق

متى ستتخذ الطائفة

قرارها بالانفضاض عن الأسد

محمد عبد الرازق

لقد بات من المعلوم حجم التدخل الطائفي في أعمدة الحكم في سورية ( أبًا، و ابنًا )؛ فالأسد (الأب) على الرغم من سطوته التي عرف بها لم يكن مستأثرًا بالحكم وحده. فقد كان عليه مشاركة واسترضاء القادة العلويين للفرق المدرعة. ولم يأمن شرورهم إلا عندما أنشأ الأجهزة الأمنية المخيفة؛ التي سلطها على المدنيين والعسكريين؛ فحيد بذلك النُّخب العسكرية.

 وعندما خطط للتوريث، و لا سيما لابنه غير المؤهل ( بشار ) سرح قادة النُّخب الأمنية الكبار، وترك له، ولماهر التوسع في تشكيل نُخب أمنية أكثر شبابًا، وموالاة. وكلهم من أبناء العمومة، والخؤولة، والأقارب.

هذه النخبة العائلية المافيوية التي تمسك بمفاصل الأمور، تدير عمليًا ( الأزمة ) التي تمر بها سورية اليوم، بوحشية  تعيد إلى الأذهان ما كان من المجازر التي قامت بها الخمير الحمر، في كمبوديا. مهددةً في ذلك النسيج الاجتماعي الذي تفتخر به سورية على مدى عقود طويلة من الزمن.

لقد كان مبررًا للرئيس الطبيب أن يلجأ إلى بعض الحلول ( الجراحية )؛ لو أن الأمر بقي أزمة عابرة. أما، و أنه يتحول إلى ثورة عامة؛ فإن الأمور تقتضي منه وقفة تأمّل و تفكير. فالوضع الحالي غير ما كان في الثمانينات.

صحيح أن الثورة قد بدأت في إطار ضيق ( في الحريقة، و درعا )؛ غير أنها قد عمَّت سورية أجمع، بقراها، و بلداتها، و مدنها، و قد مالت إلى العنف كردة فعل طبيعية جراء ما أقدم عليه النظام من الزج بفائض القوة لديه ( أمنيًّا، و عسكريًّا )، و الوضع آخذ في التطور مع استمرار سقوط مدن، ومواقع، وأحياء جديدة في قبضة الجيش السوري الحر؛ الذي بات يتمتع بدعم شعبي متزايد، فضلاً على انضمام أعداد متزايدة إليه من الجنود المنشقين عن الجيش النظامي بسلاحهم وعتادهم وذخيرتهم.

إن خطورة المشهد اليوم على النظام، تكمن في أن ( المعارك الكبرى ) وصلت إلى أهم مدينتين: (دمشق العاصمة)، و(حلب الشريان الاقتصادي للبلاد)، فطوال الفترة الماضية من الثورة كانت مناطق أخرى غير دمشق وحلب، هي التي تشهد المواجهات المسلحة، وكانت هاتان المدينتان المذكورتان لا تعرفان سوى المظاهرات والاحتجاجات، بيدَ أن الوضع الآن قد تبدّل.

فالنظام بات يشعر بفداحة الأزمة، وخطورة تطورها؛ ولا سيما بعد التفجير الكبير الذي أصاب أعضاء مؤثرين في النظام، في ( الثامن عشر من تموز ) خلال اجتماع ما يعرف باسم خلية إدارة الأزمة. و هو الحدث الذي أصاب النظام بزلزال لم يستفِق من تبعاته حتى الآن؛ فاضطر إلى الزجّ برصيده الاحتياطي من القوات، والعتاد، وسحب قواته من حدود الجولان، واستدعى أعضاء الفرقة الرابعة المهمة في النظام، التي يقودها شخصيًّا ماهر الأسد، وكذلك تم الاستعانة بقوات الحرس الجمهوري؛ للمساهمة في القضاء على الثورة داخل دمشق.

لقد جُنّ جنونه، وهو يتلقى اللطمات والصدمات من الجيش الحر في كل موقع ممكن في سورية، وبدا واضحًا أنه غير قادر على ملاحقة نجاحاته؛ وخسر بالتالي مواقع حدودية مهمة جدًا، وكذلك فقد أحياء بأكملها في المدينتين الكبيرتين.

 ومع فداحة المشهد، وتدهور الأوضاع؛ ازدادت حدة الحديث عن تنحي الأسد، وتأمين الخروج الآمن له، و لعائلته. فمرة يتمّ التسريب لهذه الفكرة عن طريق سفير روسيا (أهم حلفائه) في باريس، ومرة عن طريق مؤتمرات الجامعة العربية التي رعتها الدوحة.

لقد أفلس الأسد تمامًا، و لا أدلَّ على ذلك من انفضاض حلفاء أساسيين عنه، لا أظنَّ أنه كان يظن أن يصحو ذات صباح و قد انكشف ظهره السُّني العسكري من جهة عائلة طلاس،  أو الديني من جهة علماء دمشق، و حلب، أو الاقتصادي من جهة انفضاض تجار حلب، و دمشق عنه، أو السياسي، و الدبلوماسي من جهة انفراط عقد من كان يطمئن إلى ولائهم من أعضاء مجلس الشعب ( محمد حبش)، و السفراء الذين صنعهم على عيني فاروق الشرع.

لقد أفلس تمامًا، ولم يعد بجعبته شيء سوى أن يطلق حِممَ ترسانته الهائلة من الغازات السامة، و هو الأمر الذي سيقضي على مجرد التفكير بمنحه حقّ الحياة بعد ذلك، و لا ندري بما تتفتق عنه نصائح المقدسي في هذا الصدد.

لقد باءت كلُّ حملاته للحسم إلى الفشل، وأصبح مشكوكًا في قدرته على السيطرة على كامل البلد. فـ ( المناطق العازلة ) بدأت ترتسم، وهي في طريقها لأن تكون ( مناطق آمنة )، ثم إنّه دخل مرحلة تدمير العاصمة دمشق التي كان يباهي بهدوئها، و( ولائها ) له، وبالحياة الطبيعية التي تعمّها. و لم يسبق تاريخيًّا لأيّ حاكم أنه استطاع البقاء بعد انقلاب العاصمة عليه.

لقد قصف العاصمة ( دمشق ) دونما حساب للعواقب الوخيمة؛ التي ستبقى سُبَّة في جبينه مدى الدهر. إنه بفعلته هذه قد تجاوز الخطوط الحُمر في التعدي على حرمتها، و هو الأمر الذي تحاشاه أبوه في الثمانينات.

 لقد أصبحت مقار النظام فيها في قلب المعركة، وتحت خط النار، وقريبًا تحت مرمى الصواريخ، ولم يعد كبار المسؤولين فيها قادرين على أخذ قسط هنيء من الراحة.

اتصلت بصديق لي من الطائفة، يقيم في حي موالٍ للنظام في أطراف العاصمة، جمعتني به صداقة أيام الطلب الجامعي؛ أطمئنّ على أخباره في هذه الأيام. فكان ردّه:

( إن الضباط، و السياسيين المواليين للنظام بدأوا يرحّلون عائلاتهم. هؤلاء الذين كانوا طوال الشهور الماضية يتحدّون الداخل والخارج بأن لديهم شعبية واسعة، هاهم اليوم لا يسألون عن أحد. العلويون يقصدون مناطق الساحل، و بعضهم استقل الطائرة إلى موسكو، و هناك من وصل إلى طهران ، السُّنة وبعض المسيحيين، و الدروز ينزحون إلى لبنان. فهم لا يستطيعون المغادرة إلى موسكو أو طهران، ولا رغبة لهم في ذلك. أحياء العلويين في العاصمة صارت مهجورة. الأحياء الأخرى ينزح أهلها في كل اتجاه. لم تعد هناك مناطق آمنة. القتال يمتد من حي إلى حي. خلال بضعة أيام تبدّلت الحال. لم نعد نستطيع مغادرة بيوتنا، لم يعد النظام يعني لنا شيئًا. و لا أحد هنا ليحمينا؛ طالما أن العائلة والطائفة اللتين تسيطران على السلطة قد أصبحتا مهتمتين بمصيرهما أكثر من حرصهما على الشعب والدولة والجيش، القتال مرشح لأن يطول، و ليس هناك من يملك منهم القدرة لوضع حدٍّ لما يجري. الوضع هنا أشبه ما يكون بحفلة مجانيين ).

هذه هي عينة من المشهد الذي تعيشه سورية اليوم؛ و بالتالي فإنَّا نتوجه بالقول إلى المجلس المِلّي في الطائفة، و إلى الضباط العسكريين المهنيين فيها، و إلى شريحة المثقفين، و إلى أرباب الشهادات الأكاديمية، لا بل إلى كل فرد منها:

إلى متى سترهنون مصيركم، و مصير الطائفة عمومًا مع مصير هذا النظام، الذي بات العالم أجمع (حليفًا، و مناوئًا ) يستشعر نهايته المأساوية، في زمن أقلّ ممَّا مضى من عمر هذه الثورة.