عودة الشهداء

طه أبو حسين

عودة الشهداء

طه أبو حسين

هناك وفي منطقة رأس الجورة حيث المدخل الرئيس لمدينة الخليل ، كانت تقف جماهير المحافظة متلهفة لاستقبال جثامين الشهداء المحررين من مقابر الأرقام الإسرائيلية .

في السنين الأخيرة ، افتقدت شوارع المدينة التحرك الجماهيري الكبير في المسيرات والمظاهرات وتشييع جثامين الشهداء ، لكن بالأمس انكسرت تلك القاعدة ، وامتلأت الشوارع بالأهالي صغارا وكبارا ، نساء ورجالا ، لاستقبال جثامين شهداء المحافظة الذين كان لهم بصمة واضحة في تاريخ النضال الفلسطيني ، فهم الأشرف منّا جميعا ، وهم من قدّموا حياتهم وأرواحهم فداء للوطن والحرية .

كانت هناك المشاعر متخبطة متداخلة ما بين الفرح تارة والحزن تارة أخرى ، دموع فرح كانت ممزوجة بالألم والوجع .

في منتصف الطريق على مدخل المدينة ، كان هناك شاب يقدر عمره بـ 28 سنة ، قمحاوي البشرة ، طويل القامة ، متخبط الحركة ، عيونه دامعة حيرانة ، وأقدامه كما كان يبدو عليها لا تكاد تقوى على حملّه ، بقي في ذهاب وإياب في مساحة لا تتجاوز عشرة أمتار ثم أخذ بنفسه حيث عامود الكهرباء واتكأ عليه وراح يبكي ، في حينها كنت أقوم بواجبي الوطني والمهني بتغطية هذا العرس الفلسطيني الممزوج بالألم تغطية مباشرة على أثير احدى الإذاعات المحلية ، وأخذت بنفسي بعد عدة دقائق حيث نهض من جديد وسألته : هل لك قريب من هؤلاء الشهداء المحررين ...؟! فقال لي : " كصلة قرابة معهودة لا ، ولكن هؤلاء جميعا إخوتي وأبناء جلدتي ، لذا حق علينا أن نأتي لاستقبالهم حتى نزفّهم حيث الحور العين مجددا " . ثم تنهد قليلا وأخذ يقول ": أتيت وزوجي وطفلتي الصغيرة اليوم لنستقبل الشهداء " .

اكتفى بذلك ، فالدمع عاد يدق مدامعه من جديد ، وراح من جديد حيث عامود الكهرباء ، ليواري دمعته عين الناس .

لأسباب لم أعرفها تغيّر مسار الجثامين ، وأظن السبب خوفا من أن تعترض الجماهير تلك المركبات التي تقل الجثامين وتعرقل تنفيذ البرنامج المخطط له مسبقا ، من استقبال وصلاة وتشييع ، فالجماهير كانت جدا متلهفة لرؤية أبنائها ، فبدلا من أن تدخل من منطقة رأس الجورة دخلت من مكان آخر وتوجهت إلى مقر المحافظة بالخليل لإقامة المراسيم الخاصة في استقبال الشهداء .

لذا توجهت تلك الجماهير من منطقة رأس الجورة إلى مفرق الحرس ، وخلال تلك المسافة ، التقيت بفتاة صغيرة لا تتجاوز من عمرها عشر سنوات ، أذكر أنّ اسمها ترتيل ، كانت تصرخ وتصرخ ، والتكبيرات لا تفارق لسانها ، هي شقراء محمرة الوجنتين والعينين تحمل العلم الفلسطيني، فعلى ما يبدو كانت تبكي قبل رؤيتي لها ، فسألتها عن سبب حضورها ، فقالت بكلمات بسيطة :" جيت عشين استقبل الشهداء ، وعمو كمان " هكذا قالت تلك الفتاة الصغيرة ، وانتظرت منها أن تحكي لنا شيئا آخر ، وفعلا فعلت ذلك لكن بأسلوب مختلف ، حيث تحشرجت أنفاسها وبدأت دموعها تتساقط وذهبت عني باكية . وتلك طفلة لم تكن وحيدة في ما ظهر عليها ، فكثير من الأطفال كانت صورتهم كذلك . 

في منطقة الحرس ، اجتمعت تلك الجماهير بعدما انفضت من دوار رأس الجورة إليه ، وبدأت التكبيرات تعلو وتعلو في الوقت الذي كانت جثامين الشهداء في مقر المحافظة بالخليل ، حيث أقيمت لهم المراسيم الخاصة بهم وبمكانتهم . ويبدو أن الجثامين لم تذهب جميعها إلى المحافظة ، فظهرت سيارة تقل بعض الجثامين هناك في منطقة الحرس ، وأخذت الجماهير بتكبيراتها تهز المكان هزا ، وتزلزل الاحتلال لرباطها .

كما العطشى في الصحراء حينما يشاهدون ماء يتسابقون إليها كي يرووا ظمئهم ، وهذا ما حدث بتعطش أبناء محافظة الخليل لأبنائهم الشهداء ، فراحوا متسابقين حيث تلك المركبة التي أحاطوها واعتلوها للتقرب من تلك التوابيت التي تحمل جثامين الشهداء الأبرار .

هناك من أكثر المظاهر التي لفتت انتباهي ، العلم الفلسطيني الذي عانق سماء الحرية في خليل الرحمن ، ومن حوله الرايات الفلسطينية لتقول بصمتها الهدّار " الوحدة الوحدة " ، فالشهداء كان لهم دور واضح في تعانق تلك الرايات الفلسطينية في سماء مدينة الخليل والتي افتقدت ذلك المشهد منذ زمن طويل رغم بعض المحاولات السابقة التي كانت تحاول توحيد الصف الفلسطيني ، لكن بالأمس ومع عودة الشهداء كان الموقف أقوى والرسالة أوضح بالتأكيد على الوحدة الوطنية .

أيضا ... رددت شعارات افتقدها الشارع الفلسطيني ، عبارات التأكيد على المقاومة الفلسطينية ، والتأكيد على الكفاح المسلح ، وتحديدا كان هناك عبارات تنادي بالعمليات الفدائية اقتداء بالشهداء المحررين الذين احتجزتهم سلطات الاحتلال طيلة الفترة الماضية لأنهم وجّهوا للاحتلال ضربات قاسية كانت تضرب النخاع الصهيوني بقوتها وأثرها ونتاج ثمارها .

بالأمس رأيت حاجة كبيرة بالسن في منطقة ابن رشد بالخليل ، أخذت بنفسها جانبا ، وألصقت رأسها بالجدار ، وراحت تبكي وتبكي ، استمر ذلك ما يقارب عشر دقائق وهي تبكي بعيدا بعض الشيء عن الناس ، ثم استعادت قوتها ومسحت دمعها ورجعت حيث كانت ، بين بضعة نساء أخريات كأنهن بناتها ، وكانت إحداهن تبكي ، فأخذت تهدئ من روعها وتضمها إلى صدرها حتى هدئت .

تلك الحاجة أذهلتني بحيائها في ذرف دموعها وقوتها في حنانها ، وبسماتها التي ملئت المكان رغم دموعها المستورة .

بعد وصولي مدرسة ابن رشد بدقائق قليلة ، وصلت جثامين الشهداء بالسيارات العسكرية كنوع من التقدير بحق هؤلاء ، لأن جميعهم قادة عسكرين في أجنحة المقاومة الفلسطينية ، لذا ارتقى المنظمون أن تنقل الجثامين من مقر المحافظة إلى مدرسة ابن رشد بالمركبات العسكرية ، حيث تم استقبال تلك الجثامين بالزغاريد والتكبير ، الهتافات التي تؤكد على استمرارية السير في درب المقاومة ، الشعارات التي تؤكد على عدم ذهاب دمائهم هدرا .

كان هناك بعض الكلمات لبعض المسئولين في مدرسة ابن رشد ، لكن ما هو أجمل من تلك الكلمات وما أنساني وأخذني من الإنصات للمسئولين هو ذلك المشهد الجماهيري الذي يضع في زاوية الحيرة ، ما بين البكاء والفرح ، فلا تدري ما تفعل سوى تلك الدلالات التي ظهرت على محياي ، والتي لا معنى لها سوى الذهول والبهتان مما أرى ، فوقفت عاجزا عن التعبير بما يختلج في داخلي ، لم أفرح ، لم أبكي ، لم أبستم ، لم أعبس ، لم أفعل شيء سوى أنني تصلبت في مكاني .

الفرح والحزن ، الدمعة والبسمة ، الصراخ والسكون ، كل تلك المعاني تزاحمت لتخرج معبرة عن مختلجي ، إلا أن تزاحمها منعها جميعا من الخروج سوى تلك الدمعات الصامتة التي أغرقتني في بحر الحيرة والآلام وتخبط المشاعر في الوجدان .

حالما أنزلوهم من المركبات العسكرية في ساحة ابن رشد ، بدأت الأمهات والآباء ، الأخوة والأخوات وكل المحبين بالتهاوي حيث تلك الجثامين ، في حينها كما لو أنها أطلقت صفارة البكاء ، فأخذت أعداد كبيرة ما بين رجل وامرأة بالبكاء على هؤلاء الشهداء ، بكاء الفرح والحزن في آن ، فرح باسترداد جثامين أبنائهم ومواراتها تحت ثرى خليل الرحمن ، وحزن لتجديد وداع الشهداء .

حقا ... في ذلك المكان كلّ شيء يصعب وصفه ، فقد أقبل المحبون على حمل تلك التوابيت على أكتافهم كما يحمل العرسان على الأكتاف ليلة زفافهم ، وبدؤوا يلفّون بهم في ساحة ابن رشد تزامنا مع التكبيرات والزغاريد وكل معاني الإباء والكبرياء .... نعم حملوا تلك التوابيت على أكتافهم ليسيروا بهم بيننا " الجماهير " لنرى من الحضور ما نراه في الفرح والترح في آن .

بعد كل ذلك توجهنا حيث مقبرة الشهداء في حارة الشيخ ، وحالما وصلنا ذلك المكان ، بدأ المشيعون يدخلون شهيدا شهيدا إلى المقبرة ، ليتم لحد هؤلاء الأبطال تحت الثرى الذي قدّموا أرواحهم لأجله .

وأثناء وقوفي هناك " مقبرة الشهداء" ، كانت العائلات تودع فلذات أكبادها ، والكثير منهم يبكي بصمت ، فرغم كثرة الحاضرين إلا أن الصمت كان يخيّم على بعض النقاط في ذلك المكان ، حيث في كل نقطة من تلك النقاط كان يتواجد بضع أشخاص ما بين رجل وامرأة يبكون ولا مؤنس لهم سوى اطمئنان قلوبهم على أبنائهم بأنهم باتوا بينهم برفاتهم وأرواحهم .

نعم في ذلك المكان كلّ شيء مختلف ، وكلّ شيء يصعب وصفه ، فأبجديات اللغة تقف عاجزة عما كان عليه الحال ، والمشاعر متخبطة ، والدموع صامتة ، والقلوب محترقة ، والعيون حائرة ، والأقدام ضعيفة على حمل أجسادها قوية على حمل رفات شهدائها .

تم لحد الشهداء في المقابر ، وأغلقت أبوابها ، فطويت صفحات الألم المختصة بسلب الاحتلال لرفات الشهداء ، وبقيت صفحات الألم والحزن لفراقهم ، وآثرت صفحات الفخر والكرامة هي الأخرى إلا أن تبقى هي رائدة المشاعر والحال والوصف والوجدان ، لتفرض نفسها قائلة بقوله تعالى :(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).