هل ما زال الأمل قائماً باشتلاع الطغمة على يد أصحاب القرار
هل ما زال الأمل قائماً باشتلاع الطغمة
على يد أصحاب القرار؟
عقاب يحيى
حين انفجرت الثورة السورية المفاجئة، وواجهتها الطغمة بالعنف القاتل، وقد فتحت أهوال الجحيم رنت كثير الأنظار والتحليلات صوب الجيش السوري،سليل الوطنية، وصاحب التاريخ في الانقلابات العسكرية التي إذا ما ذكرت اقترنت به.. ثم نام طويلاً في أسرة الخضوع والتكييف والتطييف ..
وفي تعدد السيناريوهات المحتملة لنهاية نظام الإجرام كان " العمل الجراحي" يرد أولاً، ليس لضرورته، وما يحقنه من دماء، ويوفره من تضحيات وخسائر ودمار وحسب، بل لأنه من المفروض أن يكون في مقدمة تفكير أصحاب القرار في المؤسسة العسكرية، حرصاُ على وطن تعرّضه الطغمة لكل الاحتمالات الخطيرة المفتوحة، وتأميناً حتى لمصالح ومستقبل هؤلاء . انتظر الكثير أشهراً، وراهن الكثير زمنا(وما زال البعض يراهن)، وتحدث كثير عن " قصة علي حبيب " وترجيح قتله، كغازي كنعان، ومحمد عمران وغيرهم.. لأنه كان يفكر بوسيلة تريح البلد من هذا الشر : العائلة المالكة.. وامتدّ الانتظار على حبل الزمان ولم يحدث المتوقع، أو المأمول والطبيعي، فتعددت التفسيرات الطائفية، والأحكام القطعية عن طبيعة الجيش وما جرى فيه وله، وموقعه كأداة من بقية أدوات النظام، غطس ويغطس في قتل الشعب ودكّ المدن، وقبول استخدام تاريخه، وهيبته، ورمزيته سيفاً صدئاً لقطع رؤوس الشباب والحرية والأماني .. الأمر الذي يدعو إلى التوقف عند بعض النقاط الجوهرية، علها تساعدنا في وعي وفهم ما يجري :
1 ـ إن تعبير الجيش العربي السوري، أو المؤسسة الوطنية، التاريخية، درع الوطن ورأس حربته ضد العدوان الخارجي ولأجل تحرير المحتل من الأرض السورية والعربية، بات فضفاضاً، وغير دقيق، لأن معنى المؤسسة تخلخل وتبدّل وسحق، واستبدل بوقائع متلاحقة عمل الطاغية الأب على ترسيخ أسسها عقود حكمه الآثم، وواصلها الوريث عبر المرتكزات التي ورثها والأقرب للمافيا العائلية والفئوية، مع تغييرات تناسب موقعه، وحسابات القوى النافذة في العائلة ومراكز صنع القرار، وبذلك تحول الجيش فعلاً من جيش للوطن إلى جيش للنظام، درّب وهيبّئ، وجرّب عبر زجّه في معارك خارج مألوفه، وثوابته، وبما كان يلقي أسئلة قاسية عن هوية قيادة الجيش وما صار به على يد الطغمة، ولنا في أمثلة : الدخول السافر في لبنان لضرب التحالف الفلسطيني مع الحركة الوطنية اللبنانية باتفاق فاضح مع الأمريكان والصهاينة عام 1976، وتدمير مخيم تل الزعتر فوق سكانه، ومواصلة ذلك الدور القذر في سلسلة المعارك ضد الوجود الفلسطيني حتى نهاية العام 1984 في طرابلس والبقاع ـ المشاركة في مذابح حماة الشهيرة عام 1982 بالأسلحة الثقيلة، وعبر ألوية وقطعات متعددة لم تكن سرايا الدفاع، والوحدات الخاصة وحدهما من شارك فيها فقط، ولا في عمليات المذابح والاستباحة وغيرها من الأعمال الوحشية ـ الإبادية ـ المشاركة العلنية مع الغزاة الأمريكان وغيرهم من الدول الأوربية والعالمية لتدمير العراق عام 1991 تحت عنوان " تحرير الكويت"..والصمت المخزي على اعتداءات " إسرائيل" السافرة على السيادة والمواقع السورية مرارا دون رد، الأمر الذي يجعل من الدور الذي تقوم به قيادات تلك المؤسسة في شنّ الحرب على الشعب والمدن والمناطق السورية متسقاً .
2 ـ ولئن كان معظم الرفاق القدامى للطاغية الأب ـ الذين زجهم في سجونه لنحو ربع قرن ـ يصفونه ـ أيام زمان ـ بالغباء والمحدودية، وباستحالة استمراره في حكم البلد زمناً طويلاً .. فإن من عايش انقلابه التفحيحي، وممارساته السابقة ـ تحضيراً له ـ كان يمسك بالجرم المشهود بتلك الممارسات الطائفية، والعائلية، والذاتية التي اشتهر بها الطاغية ليقيم مملكة الصمت والرعب ويحول الجيش والبلد إلى ملكية خاصة لآل الأسد ومخلوف، فالعشيرة، ومن والاه وخضع وأعلن الطاعة العمياء .
إن الطائفية في الجيش السوري وتحكمها في مفاصله.. لم تأت اليوم أو البارحة بل هي قديمة، وبقدر ما بدت أنها نتاج سياقات الحكم وتناحراته، حين قبل البعث ـ ممثلاً بقيادته ـ إضفاء شرعية على انقلاب عسكري، وهو أعجز وأهزل من أن يتولى مسؤولية بلد مهم كسورية، وبدء مسلسل التصفيات تحت رايات الصراعات السياسية مع الغير البعثي، ثم بين أجنحة البعث.. وظهور ثقل ساحق من أبناء الطائفة العلوية استند إليه الأسد وهو يتقدّم خطوات مهمة في مشروعه الذاتي ـ الفئوي ليكون الحاكم الأوحد، وصولاً إلى إقدامه على انقلاب أبيض داس فيه علانية، وبكل وقاحة على كل ما يعرف بمقدسات البعث، ونظامه الداخلي، ومؤسساته، وقياداته، وتوجهاته، ليبدأ مسيرة التحول الكبرى المشبعة بالآثام والجرائم والنحر والمقايضة، والاستئصال والفئوية، وكان الجيش من أهم ميادين الشقلبة والتغيير في موقعه ودوره ومكانته .
ـ لقد نجح الطاغية في تركيز مجاميع طائفية كمرتكزات استناد في الجيش، وأبعد، وصفى، وسرّح، واعتقل، واغتال كل من يشتبه بأمر ولائه، أو بمعارضته له، أو برفض دخول كهف خضوعه ونرجسيته وحقده الكحلي المزوّق بتلاوين الشعارات(وفيهم العديد الذين ينتمون للطائفة العلوية)، وباستجلاب المؤيدين من الطوائف الأخرى وتنصيبهم كراكوزات في مسرح عرائسه، مع إطلاق يدهم على آخرها للنهب والفساد والموبقات جميعها، وتكوين الملفات والأراشيف المخزية لهم التي تجعل رقابهم ورؤوسهم تحت نعاله . وكي يطمئن أكثر، ويُمسك جيداً بعنق المؤسسة، ويقطع عنها الهواء، إلا ما يضخه .. قام بتطوير " سرايا الدفاع" لتصبح جيشاً فوق الجيش، يمتلك أحدث الأسلحة، والصلاحيات، بكل الأعمال التجاوزية المشينة والمنهجة التي كان يقوم بها قائدها : الأخ المطلق الصلاحيات رفعت الأسد، وتوزيعها على جميع المناطق الحيوية والمراكز المهمة في العاصمة والمفارق، وحول القطعات المحيطة بدمشق وبما يصعب قيام أية محاولة انقلابية، ويجعلها شبه مستحيلة ..وبالتالي : النوم على سرير الديمومة، وتهشيم الدولة بتحويلها إلى قطاع خاص، فمملكة لآل الأسد وزبانيتهم .
وبالوقت نفسه كانت المخابرات الارتكاز الثاني، أو المتمم للأول، فتوسع في إنشاء الفروع العسكرية : المخابرات العسكرية ـ مخابرات القوى الجوية ـ الأفرع الخاصة ـ مخابرات القصر ـ الأمن القومي، ومهمتها الأساس إخضاع جميع الضباط لعمليات مراقبة وتفييش وترعيب، ودسّ آلاف المخبرين وكتبة التقارير الذين يرصدون أي كلمة أو حركة داخل الجيش، وحتى في الحياة العامة والخاصة للضباط، ونشر أجواء التخويف، والحذر، والشك بين الجميع وعلى الجميع، والضرب بعنف يصل التصفية كل نأمة رافضة أو يشتبه فيها، مقابل إغداق" العطايا" والهبات والامتيازات للضباط الكبار وإفلات الحبل لهم للتجارة والنهش والإثراء غير المشروع، وانتقال كثيرهم إلى ميادين التجارة، والشراكة في معظم الأعمال الممنوعة وغيرها كطبقة طفيلية جديدة تربط وترتبط بها مجاميع أخطبوطية واسعة من فئات فئوية وتجارية وتنفيذية، وسمسرية وغيرها .
وحين مرض الطاغية، والوريث الأخ يستعجل موته ليحل مكانه 1984 ، وفشل تلك المحاولة بعد نجاة الطاغية، تمّ إبعاد الأخ(يقال الكثير في أسرار تلك العملية وملابساتها، ودور الأخ ـ رفعت ـ اللاحق على مستوى الخارج ورعاية ثروات العائلة) لم تحلّ سرايا الدفاع وتفريخاتها في سرايا الصراع والدم وغيرها، بل تحوّلت إلى قوة عسكرية في القصر الجمهوري بقيادة عدنان مخلوف ابن أخت الطاغية وعدد من المقربين، ومزاولة المهام إيّاها، بانتظار إعداد الوريث القادم : باسل الذي راح يزاول قيادته لها وهو ما يزال برتبة صغيرة منحت له إعداداً للتوريث .
3 ـ لقد حدث الخلل والارتجاج في بنية الجيش لصالح تلك المَركزة عقود الطاغية، حتى وإن كان يلجأ شكلياً إلى تنصيب بعض الواجهات غير العلوية في مواقع تبدو مهمة شكلياً، مفرّغة من الفعل والتأثير واقعياً(وزارة الدفاع، ورئاسة الأركان أحياناً، أو قيادات الفرق والألوية) في حين يمسك بالمفاصل الحساسة ضباط معتمدون، وقيادات الفروع الأمنية الموثوقون، وبما كان يستدعي تفكك اللحمة الداخلية للجيش ونسيجه الوطني، وموضعة الطائفية المستورة فيه، رغم مظاهر التوحد المفروضة بقوة سطوة الأجهزة، وفي مناخات الخوف المسيطر على وسطه، بينما حديث الطائفية يجري همساً في حلقات ضيّقة بين المقربين، وتقترن بشهادات ووقائع يومية عن ممارسات فجة لا يمكن هضمها .
4 ـ الجيش السوري لم يمارس أي دور مهني له في تحرير الأرض، والدفاع عن الوطن منذ حرب تشرين 1973. على العكس فإن اتفاقات الفصل 1974 مع الكيان الصهيوني، والالتزام الحرفي للنظام بها، وعدم إطلاق رصاصة واحدة ضد المحتل، وإغلاق الحدود تماماُ على أي عمل مقاوم، حتى ولو اقتصر على تسلل فردي، وتحويل وجهة عمل الجيش نحو ساحات أخرى : لبنان والعراق والداخل .. بواقع تلك البنية المسيطرة على مفاصله، صدّأت عملياً المقدس والمبدئي للجيش كمؤسسة، وقتحت كل المصاريع لولوج ميادين أخرى لا علاقة لها البتة بالعمل العسكري.. كالتجارة، والرشا، والفساد والنهب، وبناء القصور والفيلات والمزارع الضخمة وتحويل العديد من الجنود إلى خدم وعبيد ، أو ممولين لكبار الضباط في قصورهم وبناء فيلاتهم وفي مزارعهم ومشاريعهم الاستثمارية وغيرها، والكثير الكثير من المظاهر الفاسدة المفسدة .
5 ـ واصل الوريث سياسة الطاغية، مستبدلاً عدنان مخلوف بأخيه المجرم ماهر وأبناء الخالة والأخول والأعمام، ومضخماً من " الحرس الجمهوري" سليل سرايا الدفاع ليصبح جيشاً حقيقياً يتجاوز تعداده المعروةف الأربعين ألفاً، ويمتد نفوذاً إلى عديد قادة الألوية والقطعات، يمتلك أحدث الأسلحة وأفضلها، ويتمركز في المواقع الحساسة، ويمارس فعل حماية النظام، وإخضاع القطعات الأخرى كي تنفذ الأوامر في ذيح الشعب، وتدمير المدن والبلدات" تحرير المدن من السكان"..بواقع تأجيج الحقد الطائفي، وموضعته بالحقن الملموس : غسل الدماغ ضد آخر سيمارس القتل على الهوية ـ الإغداق بالأموال والهبات ـ إطلاق اليد لارتكاب شتى أنواع الفظائع من نهب وقنص واغتصاب وسرقة بيوت، واعتداء على أملاك الغير، إلى تسليح معظم المناطق والقرى العلوية، وحتى الشيعية، تحت عناوين الفتنة والمؤامرة، واستهداف الطائفة، والبلد ..
6 ـ عمد نظام الإجرام منذ الأيام الأولى على تشويه وجه الثورة وجوهرها باتهامها على أنها فعل مجاميع سنية حاقدة، ومرتبطة بالخارج . عمم ذلك وركز عبر عديد كتائبه التبويقية المبرمجة، ووسائله الكثيرة وخبثه وخبراته، واختراقاته، مدعوماً بما يصنعه من قصص وحكايا، وما يضخمه من بعض ردود أفعال، أو ما يستثمره من تصريحات وفتاوى بعض المتخلفين والمتشددين الذين يحسبون أنفسهم على الثورة، ويقحمون دورهم فيها، في وقت لم تستطع الثورة تأمين منطقة عازلة وآمنة تفسح في المجال لعمليات انشقاقات واسعة في الجيش من شأنها أن تسرّع في انهيار النظام في أهم مرتكزاته، أو مجمل التحديات الصعبة التي تواجهها، خاصة لجهة الرؤى السياسية الواضحة، والمعممة، والقادرة على اختراق أسيجة النظام وسياساته في مناطق تواجد الطائفة العلوية وغيرها من الفئات التي يغلب على موقفها الحذر والتخويف من قادم يجري تسويقه على أنه مذهبي، وانتقامي .
7 ـ لا شك أن رخاوة، ومطاطية، وضبابية المواقف العربية والدولية، مقابل ثبات تحالفات النظام، خاصة مع إيران، وحزب الله، وعراق القوى الشيعية، والموقف الروسي، والصيني، وميوعة مواقف الهيئة الأممية.. جميعها عوامل ساهمت في عدم قيام المؤسسة العسكرية ـ أصحاب القرار والنفوذ فيها ـ بالعمل المأمول في خلع (الأسرة المالكة)وفتح الطريق أمام مرحلة انتقالية تؤسس لقيام الدولة المدنية الديمقراطية، بينما يعم يأس كثيرين من قابلياتها على ذلك . لقد تحدث كثير عن أن موقفاً دولياً حازما يهدد باستخدام القوة ولو كأفق قائم، أو اتخاذ قرارات أممية وفق البند السابع، أو إشعار الطغمة بأن المجتمع الدولي جدي في دعم الثورة السورية لإسقاط النظام.. يمكنه أن يوفر المناخ المناسب لتفكير عديد الضباط الكبار بإيجاد مخرج للوطن ولهم، ولمستقبل البلاد، والوحدة الوطنية، وطالما أن موازين القوى ما تزال بين الشعب والطغمة، وتبدو في معيار القوة أنها ترجح لمن يملك تفوق السلاح.. فإن بواعث التفكير بالمخرج المشار إليه لا تبدو قوية، على العكس فهناك كثير من هؤلاء الضباط، وقد تلوثت أيادي عديدهم بدماء الشعب، أسارى سياسة النظام وقراراته، وبعضهم مستعد للذهاب في الحرب المعلنة على الشعب حتى مديات التدمير والإبادة .
8 ـ مع ذلك فإن قاعدة الجيش العريضة هي من بنية شعبية وطنية، وهناك آلاف الضباط والرتب والجنود الوطنيين والشرفاء الذين لا يمكن أن يكونوا قتلة، وفي خندق السفاحين، وأنهم ينتظرون الفرصة المواتية للقيام بواجبهم نصرة لشعبهم، والخلاص من طغمة سفاحة تعرض البلاد وحياتهم بالذات لكل المخاطر، إما عن طريق توسيع دائرة الانشقاق للالتحاق بالجيش السوري الحر، أو تفكيراً بوسائل عملية للتخلص من الأسرة، وعلى الأقل رأسها الآمر .
من جهة أخرى فإن تصميم الثورة على انتزاع النصر بالتضحية والفداء والإيمان، وتوسيع رقعتها الشعبية، ونجاحها في تبديد المخاوف المزعومة بين المكونات الدينية والمذهبية، اقتراناً بضغط دولي حقيقي، وبقرارات ذات صفة عملية ستفتح الأبواب لإمكانية قيام عمل جراحي متقن يستأصل الأورام الخبيثة من بلدنا الغالي، مؤكدين أن مثل هذا العمل لا يمكن أن يحدث إلا لمرة واحدة، ولا يقدر أحد على معرفته إلا أصحابه القلة . عندها فإن الثقة بالجيش كمؤسسة ستعود للكثيرين كي يكون جديراً بإعادة تأهيله وتحديثه جيشاً للوطن وليس لزمرة، أو فئة، أو نظام .