الإسلام السياسي بين الوسطية والتطرف

د. رمضان عمر

الإسلام السياسي بين الوسطية والتطرف


د. رمضان عمر

[email protected]

رئيس رابطة أدباء بيت المقدس / فلسطين

مفهوم الإسلام السياسي

الإسلام كل لا يتجزأ، وطريق سوي مستقيم لا يتشعب،ضل من تجاوزه، وخسر من عاداه، وهو فوق هذا وذاك،واضح المعالم،واقعي التطبيق فطري المنهج والتصور، لا غلو فيه، ولا تطرف، شامل لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا عالجها، حدد تفاصيل علاقة الإنسان بخالقه وبالكون الذي يعيش فيه" إنه- باختصار-  شرعة الله التي  ارتضاها لعباده"يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ( 77 ) وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ( 78 ) ) .{ سورة الحج}

والإسلام دين رب العالمين ولا دين سواه" إن الدين عند الله الإسلام" .

 غير أن دلالات الإسلام- من حيث شموليته وواقعيته وصلاحه لكل زمان ومكان- تتعدد لتشكل كُلا ً "منهجيا"، وطريقة سوية " قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف : 108] "

وهذا يعني أن تناول مصطلح (الإسلام السياسي) لا يعني بالضرورة التجزئة  والتجريب العقلي في التبني، كما يرى بعض الرافضين للمصطلح، مع اعترافنا بوجود إشكالية تفرضها الدلالة اللغوية للمصطلح ذاته،بل يشير إلى ظاهرة طبيعية، ولدت  استجابة للواقع الإسلامي المضطرب، في  ظل  غياب  الحكم بما انزل  الله، مما استوجب سعي الغيورين لإعادة الحياة الإسلامية  إلى طبيعتها من خلال  الدعوة  إلى  تحكيم شرع الله..

 ومن هنا –أيضا- كانت هذه المقدمة  المتعلقة بتحديد مفهوم هذا المصطلح(الإسلام السياسي) لإزالة اللبس عنه، وتحويله إلى إشارة دلالية " سيميائية" لتصور ما.

 ولعلي انطلق  في تحديد  دلالة هذا المصطلح –عندي- من خلال  طبيعته العملية،  بمعنى دلالته على السلوك السياسي بغية الوصول  إلى السلطة،  وقد التقي  في هذا مع الباحث الإسلامي "بشير نافع" الذي انطلق في تحديده لهذا المصطلح باعتباره أداة يستخدمها " الإسلاميون بطرق سلمية من أجل الوصول إلى السلطة في بلدانهم"([1]).مع التوقف عند المحاذير التي تطرق لها المفكر الإسلامي راشد الغنوشي في تعليقه على  هذا التوصيف حين قال: "الحقيقة أن المكون السياسي في الإسلام يعد مكونا أساسيا في بنية هذا الدين"واستدل على ذلك بأن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان نبيا يوحى إليه وكان في الوقت نفسه مؤسس ورئيس دولة، ويمارس بنفسه السياسة في كل ما يتصل بأمور الدولة داخليا وخارجيا.

 ولعلي أشير- هنا- إلى أن الإستراتيجية الملزمة لدلالة العنوان تقع ضمن تلك العلاقة الجدلية التي يتعانق بها العنوان مع النص المفسر له، وهي علاقة عرفية باعتبارها تمثل قيما دلالية  لتصور ما. بل لا بد من التعامل مع هذه الظاهرة/ المصطلح - باعتبارها تشكل ظاهرة جدلية للعلاقات بين الذات والآخر؛ فالآخر اختار تصنيفاته للتعامل معنا،ضمن إستراتجية شوفينية تلغي  حقنا في التشكل  السياسي  وتسعى إلى النيابة عنا في  إدارة شؤوننا الحياتية،  وهذا ابسط تعريف  للاستعمار، ولعله هو من اثأر هذا المصطلح، ولعلنا نشير إلى ما قالته الباحثة بمجلس العلاقات الخارجية بواشنطن (راشيل شنللر) في ورقتها  "السياسات الأميركية تجاه الإسلام السياسي" التي قدمت لندوة "الإسلام السياسي" معتبرة أن هذه الظاهرة جديدة ولا يوجد تعريف موحد عند الأميركيين للإسلام السياسي.

وأشارت إلى أن الإسلام السياسي كما تفهمه وتعرفه وزارة الخارجية الأميركية هو "التشابك بين الدين والسياسة، بين المسجد والوزارة".( [2])ومن هنا يمكن دراسة هذا المصطلح  ضمن دائرة  العاقات الخارجية في التصور الإسلامي، وكيف  تدار تلك العلاقات وفق  رؤية الأمة /الدولة / سلما  وحربا.

ثم إن ميلاد ظاهرة ما، وتناول مدلولاتها لا يعني بالضرورة الاعتراف بها أو نقضها، بل اتخاذها أساسا في بحث قائم على التوصيف أحيانا والتحليل المبني على قراءة وفق تصور ينطلق منه الباحث، يحدد من خلاله وجهة نظره التصورية حول ظاهرة حقيقية أحيانا اخرى.

ومن هنا يمكن العودة إلى مسببات وجود أو ميلاد هذه الظاهرة، كاعتراف مبدئي لإمكانات توليد مصطلحات لمقتضيات طارئة أو مستحدثة؛ فقد ارتبط ميلاد مصطلح "الإسلام السياسي" بوجود الاستعمار وفرض هيمنته على الشعوب الإسلامية وهدم الخلافة وإقامة نظم تابعة له لا تحكم بما انزل الله ؛ وكنتيجة حتمية لهذا الاستبداد السياسي ولدت حركات نادت بالتغيير وطرد الاستعمار والإصلاح السياسي وإعادة الخلافة ؛مما يعني أن "ظاهرة الإسلام السياسي ولدت ونشأت في ظل سياق تاريخي معين، وبالأخص إبان الهجمة الاستعمارية الغربية للبلدان العربية والإسلامية في القرن التاسع عشر، وازدادت رسوخا وتطورا عقب إلغاء كمال أتاتورك للخلافة عام 1924 واكتسبت إطارا تنظيميا بعد تأسيس حركة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928.

ومن هنا؛ فان القراءة العملية لمفهوم "الإسلام السياسي" تقع ضمن دائرة التجربة العملية للحركات الإسلامية عبر قرن كامل من الزمان؛ مع أن هذه التجارب مجتمعة لم تنته بعد، ذلك أن تجربة الفعل السياسي على الأرض بقيت تراوح مكانها إلا في ظروف متواضعة يمكن الحديث من خلالها عن نجاحات هنا وهناك، كما في تركيا أو أفغانستان قبيل الغزو الأمريكي، إضافة إلى تجارب لم تحسم تجاربها بعد، بيد أن منطلقاتها في التغيير بدت واضحة كما في تجارب حماس في فلسطين، والقاعدة  وحزب الله خارج فلسطين مع  تباين واضح في  المنطلقات العقدية والفكرية والسياسية لهؤلاء .

 هذه التجارب مجتمعة أو متفرقة تتيح للباحث النظر في الفعل السياسي باعتباره أداة تغيرية للوصول إلى السلطة من خلال منطلق فكري يجعل الإسلام عمادا له.

 وحينما نصل إلى هذه البداية التحليلية للتجارب المختلفة تتشظى دلالات المصطلح "الإسلام السياسي " لتقع في دائرته الدلالية مصطلحات ( الوسطية / التطرف / وغيرهما).

 ولا شك أن تحديد مصطلحي (الوسطية والتطرف )يعين في تحديد معالم التجربة الحركية للفعل السياسي الإسلامي الساعي للوصول إلى السلطة، من خلال مبدأي المشاركة والحكم. بل ويكشف عن علاقة حقيقية  بين الإسلاميين والآخر المفترض، الغربي / العلماني / النظام العربي )

وأولى تجليات الوسطية في علاقة الذات مع الآخر والذات مع نفسها ضمن دائرة السعي السياسي للحكم يأتي توصيف القران لهذه الأمة "{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} سورة البقرة(143)

والمنهج الوسطي " يعمل على دعوة المسلمين بالحكمة، وحوار الآخرين بالحسنى، يجمع بين الولاء للمسلمين، والتسامح مع المخالفين"([3])

هذا التوصيف للطبيعة المرجوة للأمة الإسلامية يتنازعه واقع تقف فيه الجماعة الناجية في الوسط، فهناك الغلاة عن اليمين والجفاة  من اليسار  وخلفهم الغواة يتربصون بنا الدوائر من الخارج ن مما يجعل العلاقة بين هذه المتفرقات معقدة وشائكة، فالتصور الإسلامي السليم يواجه بتحديات كثيرة، تختلط فيها الأوراق وتتحول فيها القراءات إلى تكتلات ؛ لكن عبقرية الأداء تقع في قدرة العاملين ميدانيا على تمثل هذه الحالة الوسطية إرضاء لله، وتحقيقا لأمره ؛ كذا طالب المفكرون والعلماء، يقول أبو سليمان الخطابي :

عليك بأوساط الأمور فإنها 

طريق إلى نهج الصواب قويم

ولا تك فيها مفرطا أو مفرطا 

كلا طرفي قصد الأمور ذميم( [4] )

 

الرؤية الوسطية باعتبارها الفطري تقتضي تفصيلا واعيا لمنطق الاستجابة الأدائية في التعامل مع العدو، ولعل مفهوم الجهاد، وخصوصا جهاد الدفع قد كشف عن أداء مغاير لتصور مغلوط في مفهوم المسامحة " المساومة " في العرف السياسي الحديث ن ومن هنا يبز الفعل المقاوم كواحد من المشكلات الاصطلاحية في تحديد مفهوم الوسطية في الفعل السياسي ؛ فهل من الوسطية في شيء أن نهادن العدو ونذعن لاملاءاته؟  ثم نزعم أن هذا المنطق هو المنطق الوسطي ونستشهد على ذلك بقوله " ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ( 61 ) ) سورة الأنفال .

 هذه الآية جاءت في سياقها مع أن ابن عباس، ومجاهد، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، وعكرمة، والحسن، وقتادة ذكروا : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في " براءة ": ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) الآية [ التوبة : 29 ] [5].

ولن أخوض في جدليات فقهية مكانها اجتهادات الفقهاء وفتاوى العلماء غير أنني أشير إلى حالات للفعل الجهادي من خلال الطبيعة الجغرافية للواقع الإسلامي، فهناك فرق بين الفعل الجهادي ضد المحتل الصهيوني، من اجل التحرير والفعل السياسي أو القتالي للوصول إلى السلطة كما في بلدان متعددة.

 لكن الموقف المتشكل على الأرض يشكل انعكاسا طبيعيا لبروز منهج التغيير ح فمثلا كان يمكن للحركة السياسية في الجزائر أن تستمر سليما بعد فوز الجبهة الإسلامية بقيادة عباس مدني وعلي بلحاج، لولا انقلاب الجنرالات وزج الحركة في أتون معارك أهلية لم تنته بعد " مما جعل الخيار العسكري خيارا يقع ضمن دائرة رد الفعل لا الفعل الاستراتيجي، وإنا أقول إن القرارات الانفعالية التي تقع ضمن دائرة الاستراتيجيات الكبرى في علاقات الحركات الإسلامية غالبا لا تنجح في مقاصدها بعكس الثورة ضد المحتل، ومن هنا فان إخفاق الجبهة في إعادة ارث السلطة المسلوب له مبرراته الواقعية .

 غير أن تعدد حالات السعي وفق مناهج سلوكية متعددة جعل هذه الظاهرة جديرة بالتناول، ولا اعني بالتناول هنا التناول الكتابي بل لا بد من تفعيل حقيقي لمؤسسات البحث الاستراتيجي ، وإعادة النظر لبرامج الحركات الإسلامية ضمن دوائرها الضيقة أو الواسعة للوصول إلى نتائج مرضية؛ذلك أن امتداد فترة التجريب قرنا من الزمن يحتاج إلى إعادة النظر، خصوصا أننا حيال تجارب متناقضة، كما في النقيضين: الطالباني في افغانستان  والعدالة في تركيا.

 غير أن حاجة التفكير المستنير الجاد في آليات التغير تصبح أكثر إلحاحا مع تزايد النهج الثوري في التغير عبر ثورات الشعوب العربية الحالية، وما حققته هذه النتائج على الأرض في كل من تونس ومصر وليبيا وانتظار حصاد هذه الثورات ودور الإسلاميين فيها؛فالاستحقاق الذي ينتظره العالم من هذه الثورات استحقاق فاعل وخطير، وقطف الثمار في معركة البحث عن موقعيات متعددة لإطراف متناقضة قد لا يسمح للإسلاميين  بالانفراد في السلطة ؛مما يعني: إما العودة إلى مربع المعارضة والفكر المتشدد، أو القبول بمبدأ المشاركة السياسية دون أن يكون الإسلام هو المظلة المعلنة لهذه المشاركات السياسية .

وإذا كان القرن الماضي هو قرن امبريالي بامتياز وان التجربة الإسلامية في صراعها مع الآخر كانت تسير ضمن معطيات البحث عن هوية، مما جعلها في كل الأحيان تقف في مربع المعارضة والتصدي؛ فان القرن الواحد العشرين - وضمن معطياته الجديدة - يفرض على الحركة الإسلامية العالمية أن تنتقل إلى المربع الأول، مربع صنع القرار السياسي وقيادة البشرية وفق مفهوم الإسلام الشامل معتمدة على مفهوم الوسطية في تحديد هذه العلاقة .

ولعل هذه الفرضية تستدعي جملة من التحركات العاجلة على مستوى التجمعات القيادية والنخب الفكرية نوجزها في نقاط محددة:

1.    ضرورة الاستفادة من الحالة الثورية القائمة ، وبذل أقصى جهد لمنع سرقة جهود المخلصين  ممن كان لهم دور في نجاحها.

2.    عقد مؤتمرات فاعلة على مستوى الأمة، وإعادة صياغة الخطاب الإسلامي عالميا ليصبح مؤهلا للتعاطي مع هذه المعطيات الجدية.

3.    البعد عن الرؤى الحزبية الضيقة وحصرها في مجالها الفكري التناظري، وعدم تبني هذه الخلافات استراتيجيا لئلا تحول دون الغايات العظمى .

4.    نشر الوعي الفكري بين أوساط الشباب لتكون أكثر تقبلا لفكرة الوسطية، والتعددية، وعدم الانجرار أمام الفكر التكفيري المتطرف .

5.    التركيز على قراءة الآخر ومعرفة مخططاته واستراتيجياته توقيا لمحظور قد يقع.

6.     لا مانع من فتح بوابات حوار مع الآخر شريطة أن لا تكون ضمن منطق الاستجابة أو الذوبان والإذعان. 

7.    تحرير العقل من أوهام الحدة العاطفية في رفض أو قبول الجديد، وهذا يحتاج إلى حضور جاد لآراء العلماء المجددين للإفتاء والتعاطي مع مقتضيات عصرية شائكة بإخلاص وتجرد ووعي.

8.    وأخيرا وليس آخراً تشكيل جبهة فكرية عالمية تكون بمثابة مرجعية إسلامية واعية وواسعة للفكر السياسي الإسلامي تتعاطى مع كل جديد، وتعنى بنشر الوعي  وتجديد الفكر من خلال مؤتمرات وندوات ومحاضرات  ومشاريع فاعلة قطرية وعالمية.

               

[1] الإسلام السياسي.. خيارات وسياسات،ندورة دراسية، الجزيرة نت،22/2/2010،http://www.aljazeera.net/NR/exeres/4354B62B-6739-4939-B549-37B1F7C47EC6.htm

[2] - نفسه

[3] أ.د عصام احمد البشير: الوسطية المفهوم والمصطلح،دار المامون للنشر والتوزيع ن عمان،ص8.

[4] انظر عبد القادر البغدادي، خزانة الادب ولب لسان العربج2ن ص123،تحقيق عبدالسلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة،1997.

[5] انظر : تفسير القرآنتفسير ابن كثير إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي دار طيبة، سنة النشر: 1422هـ / 2002م