ليس أقلّ من أربعين

أديب بركات

ليس أقلّ من أربعين

أديب بركات - فلسطين

لا أتحدث عن إنسان مضى من عمره أربعين , كما أنني لا أقصد إحصاء مال بلغ الأربعين أو زاد عنه أو أماكن و أشياء تُشترى ! , لكن بيت قصيدي أرواح طاهرة ترتقي كل يومٍ بالغدوّ والآصال إلى ربها بفِعْل من يخجل من صنيعه إبليس وآله .

ألِئن شعبا طلب أن يحيا بكرامة وحرية تُفْعَل به الأفاعيل ؟!

أم لئن حمص وحماة وريف دمشق وكل بقاع الإباء في سوريا اختارت عزة الحياة فلاقت من جلادها قصفا بأعتى آلات الحرب ؟!

"مجنون من يقتل شعبه" , نطق بها ابن بائع الجولان, وخُبْثٌه بادٍ في اصفرار وجهه الساتر لمكرٍ إنْ كادت لتزول منه الجبال , وكأني أجد في مقولته تلك المتزامنة مع استمرار بطشه وقتله لشعبه أشدّ درجات الاستهتار المطعّم بالحقد واللامبالاة بالدماء والأشلاء .

صدق وهو كذوب , كاذب بنواياه وأفعاله وظواهره, وصادق إذ نعت نفسه وأمثاله بالجنون إزاء ما يصنع بأمته وشعبه , فلا أجد لأمثاله مكانا إلا مزابل التاريخ التي ضمّت قبله من هم في قبحه , ولنسأل التاريخ لنكون على يقين بأن مصارع الظلّام واحدة محسومٌ أمرها لا يختلف عليها صاحب لُبّ , ولا نَكِلُهُ إلّا لعدل الله الذي ينصف الإنسان وينتصر للمظلوم .

أخي يا حبيب الحق ..

أغمض عينيْك قليلا , واستحضر خبرا أتاك , مفاده أن أخوك أو أختك أو طفلك أو صديقك قد قُتِل , تخيّل أنك لن تراه في كل صباح , وانطوت فرحة اللقيا كلمح البرق , وأنك لن تسمع صوته بعد اللحظة ولن تلمحه بعد اليوم إلا صورة لا حراك فيها جامدة ما تزيدك إلا حزنا وأسى لتدرك المصابَ الجَلَلَ وقتها   .

أبعد الله عنكَ الأحزان , لكنني أحببت القول بأن الرقم أربعون أو ستون ..أو مائة يزيد أو ينقص قليلا , ذلك الذي عنونت به مقالتي إليك , هُم أخ وأخت وطفل وشيخ وامرأة, يفتقدهم أحبابهم وذويهم , تصبح الأم وابنها بجانبها لتغيب عنها شمس ذلك اليوم وحالها وحيدة إلا من دموع فراق تكاد تبيضّ منه العينيْن , والأخ يفقد الأخت والأب يخرج لا يعود , والزوج يفجع بالتنكيل بزوجته , والأم تنتظر شريكها في ليلة تفتقر الأمان ليعود إليها خبرُه ليس إلا ... وقس على ذلك صورا من الظلم والمعاناة .

تعلّمنا أنه لكي نشعر بالآخرين وظروفهم نجعل أنفسنا في ظروفهم ثم بعدها نطلق الأحكام والأحاسيس , وأردت هنا التذكير بأن نغمض عيوننا لحظات , ونضع أنفسنا مكان أهلنا في سوريا لندرك حجم مأساتهم وصعوبة ابتلائهم , وهذا يقودنا إلى إدراك معنى الرقم أربعين في كل يوم , ويجعلنا على يقين بأن لكل رقمٍ  قصة كَتَبَتْ حروفها قطرات الدم وشكّلتها دمعات العين .

لذلك لا تجعل أخي من تلك الأرقام حكاية تعتاد أذنك سماعها بلا أدنى حراك , واعلم أن لنا إخوة في سوريا يُقَتّلون شر قِتلة , وحري بأهل الروح والإنسانية أن تذوب قلوبهم شوقا لتسرية  ما بهم من هموم وصعاب وابتلاء من أعداء الله والإنسان .

في كل يوم لهم مصاب , ومع كل زفرة نَفَسٍ تصّعّد إلى سماء الله أرواح , ليست روحا واحدة ,ولا جسدا واحدا , بل عشرات الشهداء يقتلون  كل حين , وعشرات الأُسَرِ التي لو سالت آلامهم في ماء بحر لمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت حكايات مصائبهم .

أتذكر ؟! يوم فرق الموت بينك وبين ذلك العزيز الغالي على قلبك؟ عد للذكرى قليلا, أو تخيّل نفسك من غير غالٍ على قلبك وضع نفسك مكان أهل الجراح  لتدرك حجم المصيبة , فتدعوَ لهم بصدق قلب ثم تقصد باب مولاك فتلحّ بصلواتك ومناجاتك على الجبار المنتقم أن يجعل كيد الظالمين في تضليل ويمكر للضعفاء المظلومين وينصرهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويلهمهم الصبر والثبات والمعونة .. اللهم آمين

ومع كل أربعين أو خمسين أويزيدون كل يوم.. تبقى الثقة بالنصر كالثقة في إشراق الصبح كل يوم  , وكما أنه " ليسَ أقل من أربعين " في كل يوم , فليس مَحْقُ الظلم وتحرير هذه الأمة من طواغيتها على الله بعزيز.