الفيتو الروسي يهدف لتأجيج الصراع

حسان القطب

بين الأكثرية والأقليات في سوريا والشرق الأوسط

حسان القطب

بعد أن قدم الأوروبيون برعاية (فرنسا وبريطانيا) والدول العربية إلى مجلس الأمن الدولي مشروع قرار جديد حول سوريا يستند إلى خطة التسوية التي أعدتها الجامعة العربية، وبعد أن اصطدم هذا المشروع فورا بـ"خطوط حمراء" وضعتها روسيا. نرى أن لا بد من إلقاء نظرة تاريخية على الدور الروسي في الشرق الأوسطخلال القرن التاسع عشر حيث وقفت حينها الإمبراطورية الروسية إلى جانب الأقلية الدرزية في لبنان خلال الصراع الطائفي الدموي الذي نشب بين الدروز والمسيحيين في جبل لبنان متحالفةً مع بريطانيا العظمى والسلطنة العثمانية فيما وقفت فرنسا إلى جانب الأقليات المسيحية وبالتحديد الموارنة، واعتبرت روسيا نفسها في ذلك الحين مسؤولة عن أبناء الطائفة الأرثوذكسية من المسيحيين، باعتبار أن موسكو هي عاصمة الكنيسة الأرثوذكسية ومقر البطريرك والبطريركية.. هذه الدولة التي لم تعرف الديمقراطية في تاريخها القديم والحديث، والتي انتقلت عام 1917، من عهد إمبراطوري توسعي استعماري تحت حكم قياصرة آل رومانوف الذين حكموا الإمبراطورية الروسية برعاية الكنيسة حوالي 300 عام حتى سقوط آخر قياصرتهم بعد أن استفحلت المجاعة في روسيا على أثر خسارتها الحرب العالمية الأولى أمام الجيش الألماني، وكان التغيير على يد البلاشفة الشيوعيين بقيادة لينين، زعيم الحزب الشيوعي الروسي آنذاك، حيث انتقلت روسيا فعلياً من حكم ديني إمبراطوري إلى عهد علماني ديكتاتوري سلطوي استعماري ولكن بوجه آخر، فالأول كان يمارس التسلط باسم الكنيسة والطبقة الارستقراطية والإقطاعية المتسلطة على الشعب ومقدراته والبلاد وثرواتها والقيصر يقود البلاد بسلطة مطلقة من حرب إلى حرب، والثاني حكم البلاد بقبضة حديدية باسم الشعب ولخدمة مصالح الطبقة العاملة التي عانت في عهد ستالين وعلى يد من حكم بعده تماماً كما تعرضت للمعاناة خلال عهد القياصرة.. إلى أن انهار هذه النظام مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي وتحررت المستعمرات التي كان يطلق عليه الجمهوريات السوفيتية كما تحررت روسيا من حكم الاستبداد هذا.. ليحكم جمهورية روسيا الاتحادية اليوم إمبراطور جديد باسم الديمقراطية أو زعيم حزب أوحد لا فرق، ولكن باسم الديمقراطية وهو (فلاديمير بوتين) الذي يهيمن على الحياة السياسية في الدولة الروسية وعلى مقدراتها وسياساتها الداخلية والخارجية وعلى انتخاباتها التشريعية والرئاسية..

ولكن القاسم المشترك بين الإمبراطورية القديمة والمرحلة الشيوعية والجمهورية الروسية الجديدة التي هي أقرب للإدارة الإمبراطورية هو طريقة التعامل مع الدول المجاورة والمحيطة والدول التي تدور في فلك هذه الجمهورية (سوريا على سبيل المثال)على أنها مستعمرات تابعة ومواطنيها عبيد أو رعايا من الدرجة الثانية والثالثة.. ولمحة سريعة وموجزة عن دور روسيا الاتحادية وقبلها في تأجيج الصراعات بين القوميات والمذاهب والطوائف في العالم نرى خلالها ما يلي:

- عام 1939، وبالتعاون والتفاهم مع دولة ألمانيا النازية احتل الاتحاد السوفيتي (روسيا) دول البلطيق الثلاث، ونصف الدولة البولونية ودولة فنلندا..

- عام 1978، احتل الاتحاد السوفيتي الدولة الأفغانية، لينسحب منها عام 1988، بعد مقاومة عنيفة من الشعب الأفغاني.

- عام 1992، نشبت حرب البوسنة وهي ذات التعدد الديني والطائفي، بين الصرب الأرثوذكس من جهة وبين المسلمين والكروات الكاثوليك من جهة أخرى، وقد عارضت روسيا التدخل الدولي في الحرب لإنهائها دون إراقة المزيد من الدماء ولمنع وقوع مجازر دموية في بداية الأمر ودعمت في المقابل الدولة اليوغسلافية ذات الأغلبية الصربية، ولكنها استسلمت للأمر الواقع بعد حين ولكن بعد أن وقعت مجازر دموية حقيقة وانتهت الحرب بتسوية تاريخية سمحت بإعادة بناء دولة البوسنة المستقلة ذات الأقليات المتعددة والمتنوعة برعاية دولية وأوروبية..

- عام 1998، اندلعت حرب كوسوفو الإقليم الخاضع لسلطة جمهورية صربيا وهو ذات أغلبية مسلمة، ليتكرر سيناريو البوسنة ولم تتوقف الحرب إلا بعد تدخل حلف الناتو، رغم المعارضة الروسية، وانتهت الحرب باستقلال كوسوفو، برعاية دولية وأوروبية...

- حرب الشيشان في القوقاز اندلعت عام 1994، للاستقلال عن روسيا الاتحادية وانتهت عام 1996 باستقلال دولة الشيشان، دون رضا موسكو، التي عادت وتدخلت بعنف وأعادت احتلال دولة الشيشان، ولا تزال حركة المقاومة مستمرة وناشطة حتى يومنا هذا بهدف الحصول على الاستقلال وطرد الروس من الدولة القوقازية..

- عقب استقلال جورجيا عن روسيا الاتحادية عام 1991، قامت روسيا بتشجيع القوى الانفصالية في كلٍ من منطقتي أبخازيا واوسيتيا الجنوبية على الانفصال عن دولة جورجيا وهي أي روسيا الدولة التي كانت تعارض استقلال البوسنة وكوسوفو عن دولة يوغوسلافيا وتحارب بعنف لمنع استقلال دولة الشيشان عن الاتحاد الروسي.. ورسخت روسيا هذا الانفصال في جورجيا بحرب دموية شنتها على دولة جورجيا الصغيرة عام 2008.

هذه نماذج قريبة العهد عن طريقة تصرف الدبلوماسية الروسية والحكومة الروسية وطريقة تعاطي الدولة الروسية مع محيطها ومع مطالب الشعوب المضطهدة، فهي لا تقيم وزناً للأعراف الدولية وحقوق الإنسان والحريات العامة والقيم الديمقراطية وتداول السلطة وحق الشعوب في الاستقلال والحرية. فالاعتراف بالحقوق المشروعة للشعوب المضطهدة ومعالجة بؤر التوتر والخلاف العرقي والمذهبي والديني برعاية دولية في غياب القدرة المحلية أو عجز السلطات المحلية عن المعالجة خطوة لا بد منها، وعمليات القتل والقتل المضاد والصراع بين الإثنيات والأعراق والمذاهب والطوائف تؤجج وتفاقم الصراع بين أبناء الشعب الواحد وبين أبناء الدول المجاورة التي تشهد نزاعات وصراعات.

لذا فإن الموقف الروسي من الانتفاضة السورية يشكل تكراراً للسياسات الروسية منذ عهد القياصرة إلى يومنا هذا مروراً بفترة حكم الاتحاد السوفيتي، فالتدخل الروسي إبان القرن التاسع عشر في جبل لبنان لم يسع لحل الأزمة بين طائفتين بقدر ما كان يسعى لتحقيق مآرب ومصالح سياسية وتجارية وان يكون للإمبراطورية موطئ قدم في منطقة الشرق الأوسط، واليوم تمنع الدولة الروسية مجلس الأمن من التدخل بإصدار قرار بوقف العنف وقتل المدنيين في سوريا على يد النظام الحاكم، رغم تزايد وتيرة القتل وازدياد حدة الصراع الداخلي الذي قد يصل إلى مرحلة الصراع الطائفي والمذهبي نتيجة تأجيج المشاعر الدينية من قبل النظام الحاكم وحليفته إيران وحكومة المالكي في العراق الذي يدعم نظام الأسد. ونتيجة الموقف الروسي الذي يؤخر الحل السياسي برعاية دولية، ستكون كارثية، فالشعب العربي أصبح ينظر للدولة الروسية على أنها عدو يقوم بتغطية جرائم نظام الأسد، والعلاقات بين الشعبين العربي والروسي ستكون في حالة سيئة في المستقبل خاصةً إذا ما تذكرنا الموقف الروسي المعارض للثورة الليبية التي اندلعت العام الماضي للإطاحة بنظام القذافي..وكل يوم يمر دون أن يلوح في الأفق بوادر حل سياسي سلمي سيؤسس لأزمة طويلة الأمد بين الطوائف والمذاهب نتيجة مواقف بعض أركان هذه الطائفة أو تلك مع هذا النظام أو مع هذا الفريق، ويبدو أن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط حاول أن يوظف العلاقة التاريخية بين دروز جبل لبنان والدولة الروسية في تعديل وتصويب السياسة الروسية بحيث تساهم روسيا في وضع أسس حل دولي إلى جانب الدول العربية والأوروبية لتجنيب سوريا والمنطقة كأس الفتنة المذهبية والطائفية التي أسس لها نظام الأسد في لبنان عام 1975، إبان الحرب الأهلية اللبنانية، وبعدها في مدينة طرابلس اللبنانية بين باب التبانة وجبل محسن، وخلال حرب المخيمات التي استمرت لسنوات بين حركة أمل والمخيمات الفلسطينية، ومن ثم بتسليح ميليشيا حزب الله في لبنان التي قامت باحتلال بيروت والهيمنة على الوضع اللبناني في اجتياح أيار/مايو من عام 2008..والكرة الآن في الملعب الروسي فإما أن تكون الدولة الروسية راعية وحاضنة لحل عربي ودولي للأزمة السورية وإما أن تكون مشاركة في زرع بوادر الفتنة والصراع الديني بين مكونات الشعب السوري وتحمل مخاطر أن يمتد الصراع إلى خارج الحدود ليطال دول مجاورة وغير مجاورة، وإرسال سفن الأسطول الروسي إلى ميناء طرطوس قبل فترة وجيزة كان عرضاً غير موفق للقدرات العسكرية والأساليب الدبلوماسية الروسية التي ذكرتنا بسياسة الأساطيل في القرن التاسع عشر والتي ستفشل حتماً أمام إصرار الشعب السوري على تحقيق الحرية والاستقلال.