وسقط هُبل

البراء كحيل

البراء كحيل

[email protected]

قرأنا في سير السابقين وقصص الغابرين عن رجالٍ فرّوا وهربوا من بلدانهم خشية أن يستلموا حُكماً أو ولايةً أو قضاءً , وعندما كنّا نسأل عن سبب خوفهم من هذه المسؤولية كانت تأتينا الإجابة منهم "إنّه تكليفٌ لا تشريف" ولسان حالهم يقول : إنّ المرء لايكاد ينجو بنفسه يوم القيامة من عظيم ما عليه من أوزار فكيف به إن حمل هموم العباد والبلاد فيكون الظلم والبغي والفساد في صحيفة ذلك الحاكم .

ولهذا قالها الفاروق يوماً " ولو أنّ شاةً عثرت في أرض العراق لخشيت أن يسألني الله عنها "

إذاً هكذا فهم سلف الأمّة الحكم والسيادة أنّه عذابٌ وبلاءٌ وشقاء ومسؤولية تنوء بحملها الجبال الراسيات , وهي أمانة عظيمةٌ لا يستطيعها إلاّ أولو العزم من البشر ...

بينما فهم بعضٌ من رجال هذا الزمان من الحكّام والسلاطين السيادة والإمارة والرئاسة على أنّها تشريفٌ ورفعةٌ وتجبّرٌ وتكبّر واستعلاءٌ في الأرض وبغيٌ على النّاس , ولعلّ لسان حالهم يقول حينما يجلسون على كرسي الحكم كما قال فرعونهم الأكبر : " ما علمت لكم من إلهٍ غيري " , وإنّ الواحد منهم لهو على استعدادٍ أن يقدّم في سبيل حماية هذا العرشِ الغاليَ والثمينَ بل إنّه لا يتوانى عن تحويل البلاد إلى بحرٍ من الدماء إن شعر أنّ عرشه مهددٌ وهو مستعدٌ حتى على التضحية بأقرب النّاس له فداءً لذلك المُلك , وهم في ذلك يقتدون بمن سلف من جبابرة التاريخ في الحفاظ على عروشهم فليس بغريبٍ على حاكمٍ ظالم أن يقتل الذكور من المواليد بسبب حُلمٍ رآه وفسّره على أنّه تهديدٌ لعرشه .

وكأنّ في هذا الكرسيً مسٌ شيطانيٌ غريب يجعل من يجلس عليه يتمسّك به ويدافع عنه ولو استطاع مصاحبته في قبره لفعل ذلك , إنّها شهوة الحُكم ولعلّها أخطر الشهوات لأنّ فيها تدمير أمّة عظيمة ومجتمعٍ كبير وازهاقٌ للأرواح وهدرٌ للأموال فداءً لشخص الرئيس أو الملك .

وتعلمنا من التاريخ أنّ أمثال هؤلاء الجبابرة عبّاد العروش لا يمكن ازالتهم عن عرش البغي والطغيان إلاّ بالقوّة والخروج عليهم ولكن للأسف دروس التاريخ التي تعلمناها في مدارس وجامعات هؤلاء الحكّام لم نطبقها عملياً على أرض الواقع حتى مطلع العام الفائت فكان عام سقوط هُبل .

هُبل لأنّه في نظر نفسه وأتباعه الهٌ يُعبد على الأرض وتجوز معصية إله السماء لكنّ معصية هذا الحاكم الإله لا تجوز في نظر هؤلاء الجبابرة .

هُبل لأنّ اسقاطه لا يعني فقط سقوط شخصِ مدّعي الألوهية بل يعني سقوط الظلم والبغي والجبروت والفساد والفقر والجوع ليحلّ محلَّه حاكمٌ عبدٌ لا إله وليجلب معه العدل والسلامة والحقّ والنور والغنى والكمال لمن يحكمهم .

سقوط هُبل لأنّ سقوطه يتطلب الدماء والتضحيات والعطاء ولا يكون سقوط الإله الصنم بالسلامة والأمان بل لا بدّ من تقديم الأرواح والأموال لكي يسقط في القلوب والعقول قبل سقوطه الحقيقي , والفائدة والنفع من سقوط هُبل لا تشمل جيل الثورة الذي أسقطه فحسب بل تتعدّى لتشمل وتعمّ الأجيال اللاحقة .

عام سقوط هُبل .. الأوّل فرّ هارباً تحت ظلام الليل ولم يُعقبْ وهو الذي ظنّ أنّ عرش تلك البلاد لا يمكن أن يزول عنه فنزع الإسلام والإيمان من بلاده وظنّ أنّه دفن المروءة وأصبح شعبه خانعاً لا يُفكر في الخروج عليه , وهو اليوم ساقطٌ ملاحق وأولئك الذين ظنّ أنّه قضى عليهم يعتلون عرش بلاده .

سقوط هُبل .. والثاني قابعٌ في سجنٍ مظلمٍ وهو الذي ظنّ أنّه حفيد فرعون مصر ويحقّ له أن يحكمها اربعمائة عامٍ كما فعل جدّه أو أنّ أضعف الإيمان أن يوّرث المُلك لولده , فلمّا ثار عليه الأحرار لم يجد مفراً من الخضوع لإرادة أولئك الأحرار , وتبدّل الحال فمن كانوا في عهده سجناء هم اليوم أمراء ..

سقوط هُبل .. والثالث مقتولٌ مهزومٌ تلعن روحه الأجيال .. استعجب واستغرب أن يثور عليه قومه بعد أربعين عاماً من الحكم الظالم والبغي على العباد , وظنّ أنّه خالدٌ مخلّد فأذله الله أيما إذلال وشفى صدور قومٍ مؤمنين منه .

سقوط هُبل .. والرابع محروقٌ مشوّه ومخلوعٌ هارب .. ولعلّ أفضل وصفٍ له أنّه أكذب من مسيلمة , وظنّ أنّه بكذبه وخداعه ومماطلته سيهزم إرادة شعبٍ أراد الحياة , لكنّ القدر وافق إرادة الأحرار وخرج المجرم من بلاده حقيراً ذليلاً يرجو صفح قومه عنه ..

سقوط هُبل ... وخامسهم مافهم الدرس وما تعلّم ممّن سبقه وظنّ أنّه استثناءٌ في البشر فقتل وتجبّر وتكبّر واعتدى على الخلق وخرّب البلاد وهجّر العباد في سبيل الحفاظ على ذلك العرش المسحور , ولا تدري أيّ صفة تناسبه فهل هو أحمقٌ لا يفهم أم مختّلٌ في عقله أم أنّه يعيش في كوكبٌ غير هذا الكوكب , وفي كلّ الأحوال لعمري أنّ نهايته ستكون الأسوء والأفظع فحاشى لله أن يذر أمثاله من غير عقابٍ ولا عذاب , وسينتصر الأحرار عليه ويجعلونه عبرة لمن يعتبر ...

سقوط هُبل ... سقط أربعةٌ منهم والخامس في طريقه للسقوط , فعسى أن يكون بعد سقوط هُبل اقامة مملكة الحرية والعدالة والعبودية لله وحده لا للحكّام والأمراء وعسى أن يعتبر خلفاء أولئك الساقطين بما جرى لأسلافهم ويعلموا كما علم أهل السلف أنّ الإمارة تكليفٌ لا تشريف وأنّها أمانةٌ ثقيلةٌ في أعناقهم .

وفي انتظار سقوط الهُبل الخامس ...